05‏/06‏/2014

عاملات الضيعات الفلاحية ب"شتوكة أيت باها": معاناة واستغلال وتحرش وتمييز***بقلم الرفيق خالد


    كنت أجلس لوحدي في "الموقف" أوزع نظراتي على المارة وعلى هذه الحشود الكبيرة من النساء والرجال البؤساء، بعضهم يأمل في فرصة عمل والبعض الآخر ينتظر قدوم "الكاميونات" و"التراكتورات" أو "البيكوبات" لتحملهم إلى الضيعات الفلاحية المترامية على سهول "بيوكرى" أو "الخميس ايت عميرة"، فجأة أثار إنتباهي جسد أنثوي كان يتحرك وسط هذا الحشد من النساء، إسترجعتُ 
ذاكرتي للوراء لأتذكرها، إنها عائشة تلك البئيسة... شابة في مقتبل العمر، نحيفة... تخفي وراء ذلك اللثام الذي تضعه على وجهها بشرة ذات لون يميل إلى السُمرة، كنتُ
ألمحها من بعيد وهي شاردة تنتقل من مكان لآخر وسط هذه الزحمة من النساء، لابد وأنها تتوسل لبعضهن لأن يجدن لها فرصة عمل، ناديتُ عليها فلم تسمعني لأنها كانت ساعتها منشغلة بالحديث مع إحدى صديقاتها، كررت النداء لتستدير نحوي وما إن وقعت عيني في عينها حتى عرفتني سيما وأني أحتفظ بذكرى حصلتْ لي برفقتها عندما كنا نعمل معا بإحدى الضيعات آلفلاحية... تقدمت في إتجاهي فمدتْ إلي يدها لتسلم علي، كانت كف يدها غارقة في الشقوق التي لم يستطع لون الحناء الأحمر الداكن إخفائها، حينها لم أكن في حاجة إلى ذكاء كبير لكشف ما تخفيه إبتسامتها تلك من حزن بادي على ملامح وجهها الذي لفحته حرارة الشمس، سألتها عن حالها وصحتها وظروف العمل لديها فأجابتني كعادة الناس بأنها على خير... فهي لم يسبق وأن حكت لي عن ما يجثم في صدرها من ضياع وحرمان وفقر، كانت دوما تخفي عني بشجرة الضحك والمرح والإبتسامة غابة من الهموم والأحزان التي تسكنها، وقد إختارتْ في تلك اللحظة أن تحكي لي عن كل شيئ بعد أن صارحتني بأن الدنيا قد اسودت أمام ناظريها قالت :"لم أستطع أن أنسى اليوم الذي ودَّعتُ فيه تراب دوارنا وتلك الأرض التي ولدت فيها وقضيت طفولتي البريئة ألعب وأركض خلف صديقاتي بين زقاقها، حتى أني لن أنسى تلك الذكريات التي عشتها وأنا طفلة صغيرة أبدل قصارى جهدي لأتعلم القراءة والكتابة بين جدران مدرستنا الوحيدة بالدوار، لقد كنتُ تلميذة مجتهذة طوال سنوات دراستي الإبتدائية، وكأي طفلة في هذا العالم الفسيح، كانت لدي أحلام جميلة وصغيرة أمني النفس بتحقيقها، لكن مشت الرياح بما لا تشتهي سفن أحلامي وآمالي، وتبخر فجأة كل شيئ على بساط الواقع المرير وذلك عندما قرر أبي منعي من الإلتحاق بالإعدادية التي كانت تبعد عنا بعشرات الكيلومترات، والسبب طبعا يعود لخوف أبواي علي من الذئاب البشرية"... واصلت الكلام وهي تلجم دمعاً حارا انحصر بين زوايا عينيها :"تركت المدرسة مرغمة عني وأنا التي كنت أجد في الكتب والدفاتر أنيسا لي... لقد كنا أربع إخوة أنا بكرهم، نعيش فقرا مدقعا لم نكن نملك شيئا، لا أرض ولا ماشية، وكنا نصارع الزمن من أجل توفير لقمة العيش، لم يتبقى لأبي سوى "كرّوسة" متهالكة يبيع عليها الخضر في السوق يوم الجمعةـ "جمعة السحايم"ـ وكان المبلغ الذي يجنيه ابي كربح يوم السوق لا يكفي لسد حاجياتنا الضرورية، وكنت دوما أفهم تأوهات أبي و معاناته التي لا تنتهي"... إلتقتط أنفاسها لتواصل الحكي :"إلى يومنا هذا لازلت أتذكر ذلك اليوم الذي تركتُ فيه أمي الحنون مرغمة... أذكر أنه في ذلك اليوم لم أنم طوال الليل، نمت كمن يطفو على أرضية متموجة بين اليقظة والنوم وكل جوارحي تفكر في الغد وكذلك كانت أمي، لأنها لم تتحمل فراقي لها، بقيتُ ليلتها أفكر في هذا المجهول الذي ينتظرني والدموع تنهمر من عيني، وفي الصباح الباكر حملتُ برفقة أبي بعض من أغراضي في حقائبي ووقفت حائرة أتأمل وجه أمي التي تحاول الإبتسام وسط هيجان إنفعالي دفين، ودموعها تتساقط في تناقض صارخ مع ثغرها الذي يجاهد للحفاظ على تلك الإبتسامة، أما إخوتي الصغار فقد فقدوا السيطرة على دموعهم ووجوههم متجهمة في حزن عصي عن الوصف، إحتضنتهم جميعا، وتلاحم جسدي بجسد كل واحد منهم على حدة، وكل واحد من إخواتي يأبى مفارقة أحضاني، أما أبي فقد رأيته يقف بشموخه الرجولي مصارعا مشاعره ومتظاهرا بتماسك هش وهو يصارع دموعا يجب ألا يراها الأبناء، إفترقنا وكان على الأجساد أن تفترق، والأصوات أن تنخرس، والدموع أن تنهمر، والحياة أن تستمر... ولما استقلتُ أنا وأبي الحافلة حضرتني صورة لٱمي لن أنساها ماحييت، صورة وهي تلوح لي بيدها وكأنها تودعني الوداع الأخير. قطعتْ بنا الحافلة المسافات ومشهد الوداع مطبوع في ذاكرتي لا يفارقها لحظة واحدة، لم أستطع حتى السماح ليدي بمسح تلك الدموع الغزيرة غير مكترثة لمن حولي وكأني طفلة صغيرة"... توقفتْ عن الكلام وتنهدت طويلا ليثير إنتباهها قدوم إحدى صديقاتها التي أخدت تسألها عن حالها وطول غيابها... إلتفتت إلي فاعتذرت لي عن مقاطعتها للكلام فواصلت :"صدقني أنه كانت لدي رغبة ملحة وقوية لإنتشال عائلتي الصغيرة من شبح الفقر والعوز والحرمان وقد بذلت كل جهودي إلا أنني وجدت الطريق مليئة بالأشواك وأدركت فيما بعد أن "الزمان صعيب"... للأسف كنت أحمل في مخيلتي كل ما هو جميل عن هذه المنطقة، لكن مكوثي هنا أكد لي أن الضياع هو مصيري لامحالة، لا أخفي عليك أني مؤخرا بدأتُ أحس ببعض من الألام في أنحاء كثيرة من جسمي وكنت ولازلت أحس بالعياء يدب إلي كلما شرعتُ في العمل، ولما ذهبتُ لأكشف عن حالي أكد لي الطبيب بأني أعاني من الحساسية بسبب تلك المواد الكيماوية التي نجبر على استعمالها في البيوت البلاستيكية ناهيك عن إصابتي بمرض أخر مزمن جعلني أصارع النوم، عانيت كثيرا من التحرش من قبل المسؤولين ("شيفان" و"كابرانات")، ولم أكن أفهم في البداية سر ذلك التمييز الفاضح بيننا نحن العاملات إلا بعد مدة طويلة. فقد كان تعامل المسؤولين مع بعض منا في غاية الليونة لأنهن قبلن بالشروط الخفية،
أما اللواتي كن يرفضن الإنصياع لشهوات المسؤولين فيكون مصيرهن إما المزيد من أعمال التعب والإنهاك أو الطرد، وما جلوسي هنا معك وعدم إيجادي لفرصة عمل إلا دليل على أني ماركة مسجلة غير محببة لدى هؤلاء المكبوتين"....


       بيوكرى /يونيو 2014
بقلم الرفيق خالد



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق