14‏/05‏/2015

الرفيقة إيناس محمدي// انتفاضة ماي 1968 بفرنسا وانكشاف حقيقة القيادات "الشيوعية" الموالية للاتحاد السوفياتي

تلقيت طلبا من رفيق عزيز يقترح علي الكتابة حول انتفاضة ماي 1968 الفرنسية. فوجدت نفسي أمام طلب لا يمكن تجاوزه أو تجاهله لأمرين؛ أولا هو طلب صادر عن رفيق أقدره حق تقدير بقدر معرفتي له ولمعرفتي بحجم وحدة تقديره لقضايا
الصراع الطبقي والتاريخي، محليا وأمميا، ولثقل المسؤولية التي يتحملها بكل صمت وهدوء دون ملل ولا تردد ولا تخلف؛ وثانيا لأهمية تلك المرحلة التاريخية من تاريخ الشعوب وهي التي عرفت أكبر تشويه نظري مقصود لازال الكثير من الشباب المناضل الى اليوم يجتر تلك الأفكار الخاطئة والمقصودة، كما يجترها سياسيون شيوخ عايشوا التجربة. وأنا بدوري كمناضلة متعاطفة ومشدودة لهموم شعبي ومدركة لأهمية مثل ذات القضايا التاريخية في استكشاف دروسها لكي لا تتكرر أخطاء الماضي من خلال الإسهام ولو في حدود ما أملكه من قدرات معرفية بسيطة في تثقيف أجيالنا القادمة بإزالة أخطاء عمرت لما يقارب نصف قرن من الزمن ولازالت تلقي بتأثيراتها السلبية في الوعي الثوري لشبابنا المناضل. وفي نفس الوقت أجد نفسي أمام موضوع أدخل أدغاله أنا التي تثقفت من معلومات لأجيال عايشت التجربة في حين أني لم أكن آنذاك ولو مشروع فكرة في ذهن أبي وأمي. وهذا ما يجعل مما أحلله من معطيات هي لأغلب من عايشوا التجربة ولغالبيتهم التي كونت أو روجت لأفكار مغلوطة لازالت تعمر لحدود الآن. وهذه الحقيقة هي ما يجعل معالجتي للموضوع معالجة نظرية، لأنه ليس لي القدرة الكافية على إعادة كتابة الأحداث والمعطيات. لكن التاريخ هو أرشيف يسجل ما جرى من حقائق بإيجابياتها وسلبياتها، وقدرنا ليس في إعادة كتابتها وصياغتها بطريقة من الطرق أو إضافة أو حذف ما لا علم لنا به، بل قدرنا الآن، أو بالضبط مسؤوليتنا هي إعادة قراءتها. وهذه الإمكانية هي ما يجعل مما يخالف ما جرى فعلا ينال مصيره في مزبلة التاريخ. فانتفاضة ماي 1968 بفرنسا هي حدث تاريخي من تاريخ الشعوب في بلد يشهد له بالمستوى الأقصى الذي كان يصله الصراع الطبقي فيه، وما قدمه للفكر لاستكشاف قوانين تطور المجتمعات الإنسانية وتطوير علم الثورة. ولا جدال في أن التاريخ أثبت فشل الانتفاضة في دفن فرنسا الرأسمالية وتشييد مجتمع الاشتراكية الذي كانت تؤمن به القواعد والقيادات الثورية الشبيبية والمتزعمة والقائدة للبطولة في شوارع فرنسا. وكان السؤال هو لماذا فشلت في تحقيق الحلم التاريخي للبشرية في تحطيم أول مجتمع للرأسمالية الامبريالية؟ وهذا السؤال يرافقه سؤال توجيهي آخر هو ماذا كان يعني للصراع الدولي نجاح انتفاضة ماي 1968 بفرنسا؟ فحول فشل انتفاضة ماي بفرنسا اختلف المفسرون وتحديدا من كانوا يصنفون في المعسكر الماركسي بتسمياتهم المختلفة. فضمنهم من حمل المسؤولية ل"لستالينية" وأيضا من اعتبر الفشل هو فشل ل"نظرية" قيل عنها اعتمدت الحركة الطلابية كطليعة تكتيكية. وبعد مرور ما يقارب نصف قرن، نعيد صياغة السؤال مجددا حول هذه الانتفاضة لنقول هل عاشت فعلا فرنسا انتفاضة حقيقية في ماي 1968؟ وبخصوص هذا السؤال نقف على أرشيفات المفسرين والمدونين نتفحصها ولا نجد من يقول بأن فرنسا لم يلتحم فيها الطلبة والعمال والفلاحين في معركة بطولية وتاريخية أرهبت فرنسا الاستعمارية وكذلك المعسكرين الشرقي والإمبريالي. هذه الحقيقة يقر بها ويجمع حولها كل من عايش تلك المرحلة من هذا الطرف أو ذاك وكل من كتب عنها يقر ببطولة الشارع الفرنسي وبالذعر والخوف اللذين أصابا البرجوازية الفرنسية ورئاستها ومؤسساتها القمعية (الجيش والشرطة) لحد الهروب. ولما نقرأ هذه الحقيقة القوية بحكم إقرار الجميع بها، نتساءل مرة أخرى لماذا لم تنجح ألوف الجماهير التي هزت شوارع فرنسا وزحزحت مؤسسات الإمبريالية في السيطرة على السلطة السياسية، وخصيصا بعد الفراغ السياسي في الأسبوع الأخير من شهر ماي؟ ومن الذي كان يقود هذه الألوف الثائرة؟ وهل الجماهير هي المسؤولة عن عدم السيطرة على السلطة أم قياداتها السياسية؟ بالتأكيد لا مبرر مقنع لفشل أي تنظيم يكون على رأس الحركة الجماهيرية وتحديدا الطبقة العاملة في شرط مثل شروط انتفاضة ماي 1968 بفرنسا في السيطرة على السلطة السياسية، كما لا مبرر لأي تراجع عن إسقاط النظام الرأسمالي بفرنسا في تلك اللحظة مثلما كان فعل الحزب الشيوعي الفرنسي على رأس نقابة "الاتحاد العام للعمل" (CGT) باتخاذ قرار توقيف إضراب الطبقة العاملة الذي لا مبرر له سوى تحييد الطبقة العاملة من الصراع وتسليم الشارع لجلادي وقاتلي الشعب المنتفض. هذا إن اعتبرنا أن الحزب الشيوعي لن يكون فعلا شيوعيا إلا إن كان قائدا فعليا وجزء لا يتجزأ من الطبقة العاملة وليس منفصلا عنها وواعيا بالنظرية الماركسية أي واعيا بالهدف الإستراتيجي في قيادة الطبقة العاملة وحلفائها وتوجيهها في نضالاتها اليومية التي تشكل الحركات التكتيكية التي تؤدي الى تحقيق الثورة على الرأسمالية والإطاحة بها وتحقيق نظام الاشتراكية. لكن في حالة العكس، أي في حالة قيام الحزب المدعو شيوعيا أو حزب الطبقة العاملة أو الحزب المدعو ماركسيا والملحق بمختلف التسميات -رغم أن التسمية بالنسبة لي شيء ثانوي خصيصا بعدما شوهتها مختلف الزمر التحريفية- بما لا يخدم التقدم نحو تحقيق الهدف الإستراتيجي، هل يمكن اعتبار ذلك الحزب حزب الطبقة العاملة؟ أقول لا بالطبع، فمثل هذه الأحزاب هي التي خربت العمل الثوري ودمرته وشوهت الاسم الشيوعي والماركسي. ومنه يمكن القول إن انتفاضة ماي 1968 عرت الحزب "الشيوعي" الفرنسي وكشفت حقيقته وانجراره خلف الليبرالية وديمقراطيتها الوهمية والخضوع لتكتيكات الاتحاد السوفياتي آنذاك وللمنح القادمة من قيادته. لكن هل هذا كان يعني أن الحزب الشيوعي الفرنسي كان ستالينيا كما تجتر بعض التيارات القول لحد الآن؟ فلتحليل هذه النقطة أرى ضرورة العودة الى التاريخ وتحديدا لحقبة قيادة ستالين للحزب الشيوعي. إن ستالين كان من قادة ثورة أكتوبر التي أعطت أول دولة عمالية وأول مجتمع تمتلك فيه الطبقة العاملة والكادحين لجميع وسائل الإنتاج وهي التجربة التي كان لها تأثير قوي وعظيم على الشعوب وفي مقدمتها الطبقة العاملة في كل أرجاء العالم، بحيث كانت دولة ومجتمع الاتحاد السوفياتي هو النموذج للعمال وللشعوب الرازحة تحت النهب الاستعماري والطغم الإقطاعية والعملاء الكمبرادوريين وأملها إن لم أقل كان النموذج المثالي لهم وطموحهم الكبير والتاريخي. والاتحاد السوفياتي بدوره قد بذل كل الجهود منذ نجاح الثورة في مساعدة ودعم الحركات العمالة وكل النضالات التحررية لشعوب العالم بتثقيف الكوادر العمالية ومساعدتها على قيادة الحركات المناضلة وفي مقدمتها الطبقة العاملة ودعم الأحزاب الشيوعية الحقيقية، سياسيا وماديا، من أجل الثورات التحررية لشعوب المستعمرات بشكل مباشر وغير مباشر. وكانت الأممية الثالثة التي أنشئت بقيادته أداة تنظيمية تسهر على تنفيذ ذات المهمة. وفي ظل قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي الذي كان على رأسه القائد ستالين تم التصدي ببطولة للغزو النازي وتخليص العالم والإنسانية من إجرامه في ملحمة تاريخية بنيت على التآخي الإنساني العميق والفريد لكل شعوبه وقومياته، أنبهر وانحنى لها الأعداء قبل الأصدقاء.. وقاتلت شعوب الاتحاد في عهد قائدها ستالين الى جانب كل الحركات الثورية ضد الاحتلال النازي في أوروبا المحتلة والتي أنشأت حكوماتها بعد سحق الغزاة ونجحت الثورات في الصين والفيتنام وكوريا الشمالية وامتدت البؤر الثورية لمختلف البلدان. كل هذا التاريخ المشرف للإنسانية كان في عهد قيادة ستالين لهذا أقول إن التاريخ يشهد أن الحركات الشيوعية لم "تتبرجز" في عهد ستالين ولم تتردد في السيطرة على السلطة السياسية كلما نضج الصراع في بلد من البلدان. إن التاريخ يقول العكس، أي أن قيادة ستالين كان لها تأثير إيجابي على نضالات الشعوب. لهذا فالإدعاء بأن ما ساد في الحركات الشيوعية والاتحاد السوفياتي بعد وفاة ستالين هو ستالينية ادعاء لا أساس له من الصحة. والسؤال هو لماذا تم إلصاق الانحراف والانحرافات التي صارت عليها الأحزاب والتيارات الشيوعية الموالية والمناهضة للحزب الشيوعي السوفياتي بستالين بعد وفاته/اغتياله أو ما قيل عنه "الستالينية"؟ هل ستالين بعد وفاته/اغتياله صار مخالفا لستالين عند قيادته للحزب الشيوعي ولشعوب الاتحاد السوفياتي أم أن الحقد على انجازات شعوب الاتحاد السوفياتي في مرحلة قيادة ستالين أو مجتمع الاشتراكية يتستر بالحقد على قائدها..؟ أو لماذا لم يفشل الاتحاد السوفياتي ثورات الشعوب في مرحلة قيادة ستالين في حين أن بعد وفاة ستالين واستيلاء طغمة خروشوف على قيادة الحزب والدولة كان التأثير السلبي للاتحاد السوفياتي على الحركات الثورية واضحا ومفضوحا؟ ولمن لم تفده انتفاضة ماي 1968 بفرنسا لفهم هذه الحقيقة والتمزيق الذي لحق بالحركات الشيوعية عبر العالم، و"البرجزة" للعديد من قيادات الأحزاب "الشيوعية" بتخصيص أموال لكل من التصق بذيلها، فليراجع تجارب الثائر الأممي تشي غيفارا في كل من الكونكو وبوليفيا، وليبحث عن القوى الضاغطة لسحب مجموعته من إفريقيا وتخلف الحزب "الشيوعي" البوليفي عن اتفاق الدعم للبؤرة الثورية في بلده بقيادة الثائر الأممي. إن الحقيقة التاريخية تثبت، بمعزل عن إرادتنا، أن الأحزاب التي كانت قبل وفاة ستالين والأممية الثالثة كانت أحزابا شيوعية فعلا ونظريا تقود نضالات الشعوب وفي مقدمتها الطبقة العاملة نحو التحرر والاشتراكية وعندما صارت خلف طغمة خروتشوف تخلت عن مهمتها الأساسية. وهو نفس الحال الذي صار عليه الحزب "الشيوعي" الفرنسي. لكن أذيال وخدام الخروتشوفية والإمبريالية المأجورين استطاعوا نشر التضليل وسيدوه لفترة طويلة من الزمن لدى غالبية المهتمين وحتى في وسط شبيبات ثورية من خلال حصر النظر لفشل انتفاضة فرنسا بين تحميل المسؤولية للستالينية وبين اتهام القادة الميدانيين باعتناقهم نظرية الطلبة طليعة تكتيكية. وهذا التضليل كان يخدم في العمق التحريفية السوفياتية التي ليست لها المصلحة في قيام ثورة حقيقية في بلد الإمبريالية الاستعمارية والتي ستعريها أما شعوب الاتحاد وتزيحها من القيادة لحركات التحرر العالمية كقيادة منحرفة. لهذا كانت الطغمة الخروتشوفية هي أكبر المستفيدين من إفشال الثورة الفرنسية في ماي 1968، وهذا هو ما يفسر التكتيك الإعلامي لدفع البحث النظري لإبعاد التفسير العلمي للفشل والتستر على خيانة الحزب "الشيوعي" الفرنسي التاريخية وعمالته للطغمة الخروتشوفية والإمبريالية. فإن كان التاريخ قد أثبت فشل انتفاضة ماي 1968 بفرنسا في هدم أول مجتمع امبريالي فليس إثباتا لنظريات مفترى عليها وعمرت لما يزيد عن أربعة عقود، بل يثبت نظريا أن الفشل هو فشل وانكشاف للطغمة الخروتشوفية وبرجوازية القيادات الشيوعية الموالية لها ولحقيقة أفقها المتستر عليه والذي كانت البيريسترويكا آخر مسمار قد دق في نعشها. وفي نفس الوقت يثبت الغياب السياسي لأحزاب الطبقة العاملة الحقيقية والعملية.




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق