28‏/08‏/2018

حسن أحراث// جمال روح الشهيد بلهواري

34 سنة بعد استشهاده، 34 سنة بعد ميلاده الجديد (قليلون لهم شرف الميلاد الثاني). الشهيد مصطفى بلهواري لم يمت. إنه حي في مواقفه الخالدة وفي استمرارية رفاقه الأوفياء.

أخبرني عون نظافة بمستشفى محمد الخامس بمدينة أسفي في شهر غشت 1984: "مات صاحبكم". لم أصدق ما سمعت أذناي، واعتبرت الحكاية فخا للتأثير على معنوياتنا. رغم ذلك أمام ود الرجل المتعاطف، طرحت السؤال: "كيف ذلك"؟ أجاب بحسرة وأثر الألم ينبع من عمق عينيه: "لقد شاهدتهم يضعون جثمانه داخل الصندوق الخشبي". حقيقة مؤلمة... 
عشت حينذاك إجرام النظام الذي ليس "لعب الدراري". تأكدت، بعد أن كنت أقرأ وأسمع، أننا فعلا أمام آلة لا ترحم؛ لا تعتقل فقط، ولا تغرق في الزنازين النتنة فقط، بل آلة تقتل بدون رأفة. أدركت أننا في حرب ضروس، فأن تكون أو لا تكون. فقبل أن يزج بنا داخل غرف/زنازين انفرادية، عشنا لحظات احتضار الشهيد مصطفى. ولم يكن غريبا أن يسقط شهيدا. بعد ذلك أكد لي أحد الرفاق (خاض الإضراب بعد إضرابنا بأسبوع) أن مصطفى قد استشهد فعلا، وأن الرفيق بوبكر الدريدي قد استشهد أيضا بمدينة الصويرة (مصدر المعلومة هو مدير السجن بمدينة اسفي). من يقنعني اليوم أني "عدمي" أو أني "أزايد أو أبالغ" أو أني "ما فاهم والو"!!؟
لن أحدثكم عن شخص مصطفى السياسي. يكفي أن أقول إن "التهمة" التي "بشرته" بعشر سنوات سجنا نافذا هي "المؤامرة الغاية منها قلب النظام" (رفقته نسخة من التهمة الموجهة الى شخصي، وهي نفس التهمة الموجهة للشهيد). 
سأحدثكم عن جمال روح الشهيد. 
كان الشهيد مرحا لدرجة لا يتصورها من لم يرافقه في أحلك لحظات حياته. وحتى لا تفوتني الفرصة، أحيي عائلتي الدريدي وبشار بحي الداوديات بمراكش. لقد استضافت العائلتان الشهيد في عز ملاحقته ومتابعته من طرف مختلف الأجهزة القمعية. فبعد أن ضاق عليه الخناق ببيت عائلة الدريدي، انتقل في سرية تامة الى بيت عائلة بشار. كل التحية الى العائلتين المناضلتين...
جاور الشهيد مصطفى الفنان عباس صلادي ببيت عائلة بشار. وليس غريبا أن يبدع الفنان صلادي لوحة جميلة بعد استشهاد مصطفى، سجل من خلالها أثر الشهيد والشهدين بوبكر الدريدي وعبد الحكيم المسكيني والشهيدة سعيدة المنبهي.

كان للشهيد رفيقة بكلية العلوم (جامعة القاضي عياض بمراكش). نادرا ما باح بسره لأحد. كان مترددا كثيرا في الالتزام معها، تفاديا لتوريط رفيقته "البريئة" في مسار شاق وغير معلوم العواقب...
كان يحدثنا عنها بكل احترام وتقدير، وكان يتأسف لعجزه عن التواصل المطلوب معها بسبب المحنة التي كان يعانيها. لكم أن تتصوروا مناضلا عاشقا يعاني الحرمان من التعبير عن أحاسيسه تجاه من يعشق ومن يحب. كان مطاردا ليلا ونهارا.. لم يكن لديه وقت، بل لم يترك له الجلاد الوقت ليعيش لحظات راحة أو متعة...
وماذا بعد؟
كان معجبا بنكتة مغربية معبرة (فيها بعض الحياء) لا يقوى على ترديدها. السبب هو خجله المفرط. لا أستطيع إخباركم بها (معذرة، يمكن ذلك بشكل مباشر)... وأمام خجله، كنا نلح عليه لترديدها. بصدق، كثيرا ما خانته الجرأة لترديدها. وأمام إلحاحنا وضغطنا (واحترامنا) كان يرددها ووجهه بين يديه خجلا وحشمة...
كان يسعدنا بنكتته العجيبة في ظل عتمة الزنزانة وخشونة السجان... إنه الشهيد مصطفى، الشهيد القدوة...
مسألة أخرى؟
كنا لمقاومة التعب وألم الإضراب اللامحدود عن الطعام، نحكي عن تجاربنا الإنسانية فيما يخص الطبخ. وتعلمون، فالجوع يفرض الحديث عن الأكل. كان الواحد منا يتحدث عن أكلة من بدايتها ومراحلها الى نهايتها. ولما أتى دور الشهيد مصطفى، حدثنا عن أكلة الدجاج "المحمر". لكنه، لسوء حظه، نسي أن يمر عبر طبخ الدجاجة أولا، حيث مباشرة بعد "شرملتها" انتقل الى مرحلة "قليها". حينذاك، انفجرت قهقهاتنا. واغتنمنا فرصة "خطئه" (العفوي) في مجال الطبخ لنعلن "قوتنا" و"معرفتنا" الشاملة. للتاريخ، كان أقوانا وأكثرنا تجربة وشموخا... 
والحقيقة، كنا نبحث عن "هفوة" لنفرض أنفسنا أمام مناضل كبير شهم وقوي. كنا نسعى من موقع متواضع نضاليا الى تسجيل حضورنا النضالي ولو في مجال "الطبخ"... إنها حالات نعيشها اليوم بمأساوية، ودون أن ترقى الى المستوى النضالي لذلك الزمن الغابر...
وأخيرا، وما أريد أن يعلمه الجميع، ربما لأول مرة، هو رغبة الشهيد في أن تكون أول أكلة بعد انتصار معركة الإضراب اللامحدود عن الطعام هي طبق السمك. 

لعلم الجميع، إن خوضنا للإضراب اللامحدود عن الطعام ليس انهزاما أو انتحارا، بل ميلادا جديدا. إنه الميلاد بكرامة ضد النظام وضد الجلاد. كم كنا مؤمنين بالحياة الكريمة، كم كنا نعشق الحياة الجميلة...
إن الشهيد مصطفى قد آمن بمرحلة ما بعد الإضراب اللامحدود... بمعنى أنه آمن بانتصار معركته/معركتنا. آمن بحياة جميلة، حياة شعبه، حياة العمال والفلاحين الفقراء وكافة المقهورين، آمن بمستقبل غير مستقبل الظلم والبؤس والفقر والاضطهاد...

وفعلا، انتصرت معركة الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري يوم 16 غشت 1991... 
لنكن في مستوى تضحية الشهيدين بوبكر ومصطفى وباقي شهداء شعبنا...
إنه التحدي، لننطلق من الواقع الفعلي نحو المستقبل المأمول...






شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق