إن التجريبية والنظرية مستويان في تطور الفكر عبر التاريخ. فإن كانت
النظرية حقلا واسعا من المعرفة الإنسانية وتعكس درجة تطورها، فكذلك التجريبية فهي بدورها
مستوى في مسار تطور الفكر عبر التاريخ، قدمت الفكر النظري نحو اكتشاف قوانين متقدمة
لتفسير الوجود. والسؤال :ما العلاقة بين الفكر النظري والفكر التجريبي؟ يختلف الفكر
النظري عن الفكر التجريبي في مستوى وطريقة تقديم الشيء (الكائن) والحصول على المحتوى
المعرفي وفي التطبيق وفي العلم. فمثلا، الفكر التجريبي يعكس الشيء في علاقته وتمظهره
الخارجي للوصول إلى الحدس. أما الفكر النظري، فيعكس جانب علاقته الداخلية وقوانين الحركة
والتطوير العقلاني لمعطيات المعرفة التجريبية. وشكل المنطق التجريبي يأخذ الأحكام المنفصلة
مشيرا إلى واقعة -حقيقة- أي نظام أحكام تصف الظاهرة. وبالنسبة للفكر النظري يأخذ شكل
نظام من التجريد، مليء بالمحتوى يعكس القوانين ويفسر الشيء. وعلى مستوى التطبيق، المعرفة
التجريبية محدودة والنظرية غير محدودة. وفي ميدان العلم، تعد التجريبية نقطة انطلاق
البناء النظري، والبناء النظري هو النتيجة النهائية التي تتوج مسار تطور المعرفة. ولهذا
كان المحتوى الأساسي للفكر التجريبي يأتي من التجربة مباشرة. ومحتوى الفكر النظري ليس
رواية ما جرى أو يجري، بل معرفة الحقيقة الموضوعية والملموسة، أي قوانين الحركة.
وهنا يمكن الوقوف بنفس طريقة "انجلس" على علاقة تجارب
"فارداي" بنظريات "ماكسويل". ففي بداية القرن 19 برزت تجارب العالم
البريطاني "مايكل فارداي" صاحب أسس الكهرمغناطيسية والاكتشاف العظيم
"حقول القوة" التي تصف اختراق حقول القوة الكهربائية والمغناطيسية للمكان
والذي يعتبر المكان الفارغ غير فارغ على الإطلاق، بل مملوء بخطوط القوة. وكانت أعماله
عبارة عن رسومات تعكس تجاربه دون معادلات رياضية. ("فرداي"، لم يدرس الرياضيات
نتيجة فقره الشديد في طفولته، لأن أبويه كانا عاملين). ويعد من أعظم العلماء في التاريخ،
وأعماله أعطت انعطافا قويا للبحوث النظرية. وكان نقطة انطلاق "ماكسويل" لصياغة
معادلاته الشهيرة، واستلهم منه "اينشتين" ولازال الفيزيائيون يستلهمون منه.
ولازالت أعماله تقدم إمكانيات عظيمة للحضارة الإنسانية. وهكذا نتلمس علمية قول لينين":إن
الفكر بارتقائه من الملموس المحدد إلى التجريد لا يبتعد عن الحقيقة، بل يقترب منها...
من الحدس الحي إلى الفكر المجرد ومنه إلى الممارسة، ذلك هو الطريق الديالكتيكية لمعرفة
الواقع الموضوعي." مثلما قربتنا نظريات "ماكسويل" و"اينشتين"
من الواقع الموضوعي بارتقائهما على المعطيات التجريبية ل"فارداي". فالفكر
نتيجة لتطور أعلى للمادة وهو ينمو ويتطور على أساس مادي ملموس. وهو لا يمكن أن يكون
دون حساسية، ليس فقط في نشأته، ولكن في شكل وجوده، إنه يبنى دائما على نظام الحساسية.
فعند ملاحظة ظواهر الواقع، نفكر ونعكس نتائج الملاحظة في لغة الفكر. ولا يمكن تصور
معرفة الإنسان دون لغة، لأنها تثبت في الكلمات نتائج الفكر. وكيفما كانت معرفة الإنسان
فهي رهينة بالنشاط العملي (الممارسة)، وبما وصلته معرفة الأجيال السابقة، بالرغم من
أن المعرفة عبر الحواس تتمظهر باعتبارها فكر. لأن الإنسان يسوغها على شكل أحكام معطاة
عبر الحواس. فالإنسان لا يمكن أن يمتلك معرفة حسية كما هي، لأن النشاط العملي (الممارسة)
والفكري يتغير بشكل ملحوظ ويحول التجربة الحسية للإنسان. لهذا، فالمعرفة مهما كان مستواها
تتضمن عناصر البيانات بالمعنى العقلاني. فعلى مستوى المعرفة النظرية يذهب التفكير أبعد
من بيانات التجربة، فالفكر ليس مجرد شكل من أشكال التعبير عن نتائج التجربة، بل وسيلة
تستند إلى التجربة للوصول إلى محتوى جديد ولاكتساب الطابع الشمولي، ويسعى جاهدا لتقديم
الحقيقة الأكثر ملموسية وموضوعية. وبفضل هذا الطابع الشمولي والملموسية يصير مجال تطبيقها
العملي غير محدود كما تمت الإشارة أعلاه. فالنظريات العلمية مثلما تزحزح مجالات نشاط
الإنسان، فهي تقدم إمكانيته في التغلب على مشاكله وتعمق معرفته وتذهب بها أبعد لاكتشاف
الكون.
فالتجربة والنظرية مستويان مستقلان نسبيا، والحدود الفاصلة بينهما
هي لحظة تصبح التجربة نظرية ولحظة يصبح ما اعتبر نظرية متاحا للتجربة في مرحلة عليا.
إذن حركة الديالكتيكية للمعرفة: من التجربة إلى النظرية ومن الملموس إلى المجرد، وأن
الخلط ما بين المعرفة التجريبية والنظرية، وعدم الوعي بعلاقتهما وحدودهما، يؤدي إلى
سوء فهم لجوهر الفكر النظري ولقدرته على عكس الموضوع بطريقة معمقة وشاملة، وإلى تجميد
الحركة وحصر النظرية في حدود بناء محتويات ومضامين في لغة تترجم خصائص مختلفة لما هو
أمام الحواس، ليتم تزييف الفكر النظري في الشروط التاريخية. وفي هذا الحال، أي تجريد
يتم إنشاؤه يكون فارغا من تصور العلوم. وهي عودة دون وعي، الى مفهوم التجريبية في الفكر
المادي الأنجلو-فرنسي للقرن 17 و18. وهذا الفهم كان ناجحا في تحديد الرابط بين الفكر
والإحساس، وعكس المحتوى المعرفي لنتائج علوم العصر. لكنه كان ضعيفا في التفسير للمضمون.
ويحد المعرفة في التجربة الحسية، أي ما تعكسه التجربة على مستوى حواسنا باعتبارها المصدر
الوحيد للمعرفة. لكن التفكير النظري لا ينتهي مع تشكيل تجريدات معزولة مثل المعرفة
التجريبية، بل يعطي معرفة ملموسة للموضوع، غير محسوس، وغير منتشر، جديدة وأعلى. والتجريدات
الغنية بالمحتوى والمضمون ليست سوى وسيلة لتحقيق الهدف، لهذا نقول إن الفكر النظري
يتجرد من الملموس المحسوس، ثم يرتقي ويرتفع لملموس مجرد مكتشف. "القيمة مفهوم
عام محروم من الإحساس، ولكن أكثر عمق وحقيقة من قانون العرض والطلب" (لينين).
ويعد رأس المال" ماركس" نموذجا كلاسيكيا للصعود من الملموس إلى المجرد ومن
التجربة إلى النظرية. وإن عملية الصعود ليست مقتصرة على مجال الاقتصاد السياسي وعلى
دراسة المجتمعات، فهي تشمل جميع مجالات العلوم. فحركة الفكر من الملموس إلى المجرد
هي قانون عالمي في الشروط التاريخية لتطور المعرفة الإنسانية. ومن خلال هذا العرض المبسط،
نعرج على ما يعتبر فكرا نظريا في تناول تجربة المجتمع السوفياتي سابقا والقول بأن ما
آل إليه هو نتيجة التحريفية والبيروقراطية، كقول أريد إقحامه وتصنيفه في موضع
"النظرية" و"النظرية الماركسية اللينينية" و"العلمية".
وكأنه مجرد أن تلصق "الماركسية اللينينية "على الواجهة وتدرج التحريفية في
نقد الانهيار الكبير ل"المعسكر الاشتراكي"، تكفي وتؤهل صاحبها لنيل تأشيرة
الدخول إلى نادي العلمية. فبعيدا عن أي حكم غير مبرهن، نقول إن البيروقراطية والتحريفية
في المجتمع السوفياتي تعد، أولا، من إفرازات البناء الفوقي للمجتمع. أي أنها نتاج ما
وصلته حالة المجتمع على مستوى البنية التحتية، وليس ما آل إليه المجتمع سببا لها. لذا
فنحن مطالبون بتفسير لهذا الإفراز المحسوس الذي عكسته التجربة وليس التعبير عنه في
اللغة ووضعه مقام الحكم النظري. ففي الأمر خلط ما بين التعبير عن نتائج التجربة وما
بين الحركة والعلاقة بين الأسباب والنتائج، أي التفسير للنتائج، وليس التعبير عنها
واعتبارها نظرية، وأداة من أدوات التحليل والتفسير لما آل إليه المجتمع السوفياتي
(آلت إليه التجربة السوفياتية). يقول لينين في مخطوطاته حول المنطق لدى هيغل:
"التصور العادي يدرك الاختلاف والتناقض، ولكنه لا يدرك الانتقال من الواحد إلى
الآخر". فالنتائج تفسر بأسبابها، أما الوقوف في حدود النتيجة وإنتاج الحكم هو
انحراف عن إنتاج النظرية، عن مهمات الفكر النظري. إن الثورة هي نتاج مجموعة من التفاعلات
والتحولات في عمق العلاقات الاجتماعية لطبقات المجتمع في سيرورة الصراع الطبقي. فتتحطم
سيطرة طبقة أو تحالف طبقي وتصعد سيطرة طبقة أو طبقات أخرى. لهذا نقول إن الثورة هي
نتاج الصراع الطبقي وليست نتاج النظرية. كذلك، لما نتحدث عن صعود التحريفية أو البيروقراطية
إلى سدّة الحكم، أي إلى السيطرة، فهذا يعني أن المسألة هي نتاج تطور الصراع الطبقي
داخل المجتمع. النتيجة ليست هي السبب، بالرغم من أن النتيجة تتحول إلى سبب لنتائج جديدة.
وهذا ما يستلزم على الفكر النظري تلمسه للدخول لنادي العلم من بابه المشرف. وفي نفس
الآن هو مفترق الطريق بين تحليل يتشبث بالديالكتيك وبين تحليل يحل نفسه من الالتزام
بمبادئ العلم. فمن غير العلمي (اللاعلم) أن ندير ظهرنا لعوامل اجتماعية/طبقية واقتصادية
تفعل فعلها لتحديد مسار الثورة وتستلزم الفحص والتحليل لاستيعاب النتيجة. فالقول بوصول
التحريفية لسدة الحكم، هكذا، ليس بنظرية، بل هو نتيجة وموقف سياسي من القيادة الخروتشوفية.
أما اعتباره نظرية فهو فهم مغلوط للنظرية ولا يصنف في قائمة التحليل العلمي. فالوقوف
على الوقائع ليس بنظرية، بل عنصر من العناصر التي يعتمدها الفكر في التحليل لصياغة
نظرية لضبط قانون حركة الانتقال من سبب إلى نتيجة.
وهو الأمر المطلوب من الماركسيين اللينينيين للتفصيل والتدقيق فيه،
إيمانا منّا أن الاشتراكية ليست قالبا نظريا وتجريبيا قدّمت في النظرية العبقرية لقائد
رمز مرة في التاريخ ولن تكون وصفة دونها، وأن من يخالف القالب يخالف التاريخ المقدس،
في حين أن المجتمع لا يصنع بالفكر أو بالإرادة بل محكوم بعوامل عدة، كما الأمر في جميع
الأنظمة التاريخية، تجعله قابل للتغير والتحول طبقا لشروط التاريخ.
لذا، فالمطلوب هو البحث في حوافز تاريخ الصراع الطبقي داخل المجتمع
السوفياتي وتطوراته بعد الثورة وفي علاقته بالوضع الدولي، أي بالانطلاق من مقدمات تاريخية
اقتصادية واجتماعية وسياسية. وبالتأكيد ستأتي مرحلة يكون لزاما وضروريا التحليل والتدقيق
في مراحل أو مرحلة من التاريخ والتفصيل فيها لأخذ الموقع الأنسب والأدق لخدمة القضية
التي يحملها التاريخ الى صدارة الأحداث، مثلما الأمر عندما ستكون مهمة بناء الاشتراكية
ذات أولوية، فالقفز عن الجواب العلمي والدقيق لتجارب البناء الاشتراكي، ولما آلت اليه،
سيصير جريمة وخيانة تاريخية، دون أن يعني الأمر أنه مطلب للتأجيل، ولا في الآن نفسه،
قبول بخربشة، وإخراج إيديولوجي، مثل صعود التحريفية للحكم. فالميتافيزيقا، كطريقة للدراسة
غير الديالكتيكية، هي من لا تعرف سوى المحسوس كملموس وحيد وترفض الفكر النظري والملموس.
والميتافيزيقا كانت أسلوبا للمعرفة ارتبطت بالعلم في القرنين 17 و18، كما صنفها الآداب
الفلسفي الماركسي، أي الشكل الخاص الذي وجدت فيه الفلسفة في مرحلة تاريخية محددة كانت
فيها الميكانيكا العلم الوحيد المكتمل في ذلك العصر، والشكل الوحيد المطلق والأسلوب
المطبق لتفسير كل الظواهر والعمليات الواقعية، عاجزة عن رؤية الحركة والتطور بالرغم
من أن الحركة كانت معروفة. لكن الاعتقاد أنها تقوم في حلقة واحدة ليس فيها التغير ولا
النفي ولا الولادة الجديدة. وكانت العلوم آنذاك لم تتجاوز الوصف والجمع والترتيب للأحداث،
ولم تنتقل بعد إلى التفسير والدراسة المعمقة لسير عملية التطور المعقدة للطبيعة والمجتمع.
ومع نهاية القرن 19 وظهور اكتشافات علمية جديدة، أصيبت هذه الطريقة بالشلل وعجزت عن
المواكبة والتفسير، ليفتح القرن 19، بتطوراته واكتشافاته الجديدة، التي أعطت وجها متقدما
للعلوم وللمجتمعات، وقدمت للفكر الفلسفي نتائج معرفية استدعت منه الضرورة الموضوعية
والتاريخية طريقة معمقة للتفسير، وهو ما تحقق بصعود نجم الديالكتيك لينهي مع النظرة
الضيقة للميتافيزيقا مع احتفاظه ببعض عناصرها الإيجابية بعد معالجتها وبنائها وفق متطلبات
التطور والمستجدات.
إن حركة الفكر الفلسفي من الميتافيزيقا إلى الديالكتيك هي حركة تطور
المعرفة العلمية، أي الانتقال من نظرية للتطبيق في مجال محدود وخاص إلى نظرية تطبيقاتها
واسعة نسبيا. وفي عصرنا تستعمل الميتافيزيقا في الآداب البرجوازي بحمولة العصور القديمة،
أي بمعنى فلسفة التي تتعامل مع المفاهيم والمبادئ العامة المطبقة على الوجود بشكل عام،
مع وجود فروق دقيقة ومتنوعة في فهمها من قبل مختلف الاتجاهات الفلسفية، بالرغم من تأكيدها
كلها على أن الميتافيزيقا هي مذهب الوجود يأخذ بالتخمين والتأمل، ويرفض الأخذ بنتائج
المعرفة العلمية في شموليتها، ومنها من يتركها بعيدة مثل الوجودية والكانطية الجديدة،
وفلسفة "هيدجر" التي تذهب بعيدا بطرح الفلسفة مقابل العلوم، عكس المادية
الديالكتيكية التي لا تتصور دراسة الواقع الموضوعي، وقوانين حركته، كمهمة وتقليد وموضوع
للفلسفة، الذي دشنه الفلاسفة السابقون، دون تعميم نتائج مختلف العلوم ودون التفرقة
بين طريقة التفكير الفلسفي والنظري وقوانين حركة الظواهر الموضوعية، رافضة التخمين
والتأمل. وبالرغم من ظهور بعض التغيرات في الفلسفة البرجوازية، تحت مسمى "انطولوجيا
ماركسية"، التي أخذت بمعطيات بعض فروع العلوم الطبيعية والاجتماعية، لكنها عجزت
عن بناء مذهب فلسفي أصيل، وحصرت موضوعها في دراسة الوجود أو الكائن بشكل عام كما هو،
مع خلق نظرية عامة للوجود بمعزل عن تطوير ممارسة الإنسان الموجهة لتغيير الواقع.
ونحن نعتبر أن أعمال ماركس وانجلز ولينين نماذج لاستكشاف ظواهر الحياة
ولدراسة تطورات الرأسمالية وتجارب الاشتراكية المنهارة ولحل الإشكالات الاقتصادية والسياسية
والتنظيمية، لخدمة قضية الطبقة العاملة، ولضبط مضمون وطريقة ومنطق الديالكتيك، ولتحديد
اختلافنا مع باقي وجهات النظر الفلسفية والفكرية. فالمادية الديالكتيكية لا تقف عند
حدود منبهات حواسنا وتأثيراتها وعند معطيات التجربة الحسية، بل تبحث الشيء في تناقضه
وتغيره وفي ارتباطاته، لتستكشف حركة الانتقال من حالة الى حالة جديدة. وهذا الجانب
تعمل جاهدة كل التيارات الفلسفية والفكرية البرجوازية على تجميده.
توضيح:
الملموسية: مفهوم استعمل للتمييز بين الملموس المحسوس والملموس المجرد.
بمعنى أن المجرد في العلم هو ملموس، لكن غير محسوس. وللتمييز، تم توظيف مفهوم الملموسية.
مثال: الجاذبية هي ملموسة، لكن لا تدرك بالحواس.
تيار البديل الجذري المغربي
2014 / 4 / 10