ولد الشهيد أحمد الحنصالي بزاوية أحنصال شرق مدينة أزيلال، في إحدى سنوات العشرينيات من القرن الماضي. فرضت عليه ظروف اليتم والفقر التنقل بين عائلات المنطقة للاشتغال فلاحا (خماس) وراعي غنم مقابل أجرة عينية، عبارة عن بقرة.
وقد حصل مرة أن صاحب العمل رفض منحها إياه وفي الأجل المتفق عليه. وهو ما دفعه ليرفع بعد ذلك شكاية وتظلما للمخزني "سعيد أوخلا" الذي أيد ووقف بجانب الإقطاعي المتعنت. مما حدا بالشهيد الى تنفيذ أولى عملياته بحق المخزني الذي يعتبر أحد أذناب الاستعمار الفرنسي.
لقد كانت الأرض آنذاك ومازالت كوسيلة إنتاج. وما تنتجه يعد الركيزة الرئيسية في تحديد التناقض الكامن بين الطبقات الاجتماعية في المجتمع المغربي. لقد شكلت هذه الحادثة، ذاك الوميض الذي سينير ويستوعب من خلاله الشهيد أحمد الحنصالي عمق الارتباط التي يجمع الإقطاع بالاستعمار الفرنسي. وسيتخذ قراره بعدها ليساهم في طرد المحتل من خلال عملياته الفدائية الجريئة. بعد حوالي الشهرين من تلك العمليات (وليس سنتين كما هو متداول في الأخبار والتقارير المنشورة) في شعاب وجبال منطقة تادلة سيتم إلقاء القبض عليه هو ورفيقه "ولد سميحة"، ليحاكما وينفذ فيهما حكم الاعدام يوم 26 نونبر من سنة 1953.
لقد شهدت سنوات الخمسينات من القرن الماضي وبمختلف المناطق المستعمرة عبر العالم تناميا مضطردا للوعي الوطني المقاوم. وتوسعت مواجهة الاستعمار مع تشكل الطبقة العاملة وعموم المأجورين بالمستعمرات، وكذلك التحولات الجيوسياسية التي أفرزتها نتائج الحرب العالمية الثانية وأصداء النجاحات الباهرة لحركات التحرر الوطني والطبقي بمجموعة من البلدان المستعمرة. كل هذا، لم يستثن منه المغرب في كل من بواديه ومدنه الناشئة. لقد كان البطل أحمد الحنصالي بعملياته الفدائية النوعية، واستشهاده فيما بعد، وكذلك تجارب رائدة أخرى من بينها تجربة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي، النبراس الذي اهتدى من خلاله المقاومون المغاربة لتشكيل أنويه المقاومة المسلحة المنظمة ضد المستعمر الفرنسي واذنابه العملاء.
ومنذ ذلك الحين، برز بوضوح الخطان السياسيان اللذان شكلا ثنائية المواجهة-الانبطاح مع فرنسا الاستعمارية. الأول تبنى طريق الكفاح المسلح. وخير مثال على ذلك ما قاله البطل الشهيد أحمد الحنصالي وعمل به وغيره من المقاومين المغاربة: "الاستعمار لا يمكن قتاله إلا بالسلاح، ويجب وقف تعامل بعض المغاربة الضعفاء (الجبناء) مع فرنسا".
فيما كان الخط الثاني ينادي بالمفاوضات، بل والتواطؤ المكشوف مع المحتل الأجنبي. وخير معبر عنه السادة رموز ما يسمى ب "الحركة الوطنية"، الذين وضعوا حجر الأساس لمعاناة شعبنا المستمرة حتى الآن. ويا لمكر الصدف!! لقد تقاسم أحد هؤلاء الرموز (عبد الرحيم بوعبيد) بمعية الشهيد أحمد الحنصالي نفس الزنزانة بسجن "اغبيلة " بالقنيطرة. الأول تم تنفيد حكم الاعدام بحقه هو ورفيقه ولد سميحة، فيما الثاني توجه الى "ايكس-ليبان" المشؤومة، بل هو من تلا تقرير الوفد المغربي جاء فيه: "لقد وضعتنا فرنسا في مواجهة العالم، وبفضل فرنسا تأكدت شخصيتنا، وهذا يحتم علينا اليوم أن نكون أكثر انفتاحا على العالم وبمساعدة فرنسا نريد أن نكون دولة حرة ذات سيادة". وهو ما فهمه جيدا رئيس الحكومة آنذاك ادغار فو حين قال: "لقد استمعت بانفعال إلى كلامكم، وتأثرت بما قلتموه، وكونوا على يقين أن نفس الشعور يخامرنا، وإذا لم نتوصل إلى التفاهم مع رجال مثلكم، وإذا ما كان للحوار الفرنسي أن لا يستمر إلا بواسطة البنادق، فإنها المصيبة بعينها، كونوا على يقين بأن فرنسا قررت أن تتصرف وأن تأخذ القضية بيدها، غير أن ما تبدونه من تعلق ببلدنا يملي عليكم ألا تطلبوا منا ما يمكن أن ينال من سمعتنا". ويجذر التنويه بعدم مشاركة توجه المقاومة المسلحة في "جلسات استماع ايكس-ليبان"، بل تم التشهير بها من خلال رسالة البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي وفضح غاياتها ومراميها: "وقد اقتدت جماعة الرباط بجماعة تونس المستسلمة فأبرزت اتفاقية "إيكس-ليبان" إلى حيز العمل والتنفيذ، وأخذت تناور وتدلس وتغري الشعب المراكشي (المغربي) بالكلام المعسول. وهي سائرة في نفس طريق اتفاقية تونس وستطالب المناضلين بإلقاء السلاح، بعدما طلبت منهم الهدوء بحجة أن المفاوضة لا تكون إلا في الهدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السلاح (...) حين يتفرغ الأعداء للقضاء على الجزائر. فحذار من السقوط في الفخ المنصوب، وإننا على يقين من أن الشعب المغربي سوف يستمر في الكفاح والنضال إلى أن يخرج من بلاد المغرب بل من شمال إفريقيا كلها آخر جندي فرنسي يحمل السلاح من جماعة المستعمرين".
لكن، كل ذلك الهدوء والحوار اللذين دعا إليهما أنصار المفاوضات/الانبطاح من أجل "الاستقلال"، تحولا بعد ذلك إلى عنف واختطاف وتصفيات جسدية بحق المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ليتسنى لهم الانقضاض كخدام أوفياء للاستعمار على مقدرات الشعب المغربي. وذلك ما نعيش تبعاته لحدود اللحظة.
إن الشهيد أحمد الحنصالي وغيره من المناضلين الأوفياء رموز لقضية الشعب المغربي من أجل تحرره واستقلاله الحقيقيين. ولا يسعنا إلا السير على خطاهم تكريما لمجهوداتهم الجبارة وعطائهم الخالد الذي لا ينضب، وذلك بما يتماشى ويستحضر شروط الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي ومعطيات الظرفية الراهنة.. وإنها مسيرة متواصلة حتى تقرير مصير شعبنا الذي يرزح تحت نير الاستغلال والاضطهاد الطبقيين..
25 نونبر 2015
شارك هذا الموضوع على: ↓