أصبح توجيه الرأي العام في زمننا أشبه بفن شيطاني تتقنه أدوات العصر ببراعة قاتلة.
لم يعد الأمر مجرد خداع تقليدي، بل تحول إلى هندسة معقدة للوعي الجمعي، تستخدم فيها تقنيات تزين قسوتها بألوان الإبهار، وتفلت من قبضة المحاسبة تحت غطاء "الابتكار". تشبه هذه الآلة الحديثة ألعابا نارية رقمية تتفجر في الفضاء الافتراضي: تلمع لحظات ثم تختفي، تاركة وراءها سحبا من الوهم تعيد صياغة الحقائق كأنها ألغاز مبرمجة.
تعتمد الآلية على خوارزميات تحول الخطاب إلى "عاصفة رسائلية" تبتلع العقل الجمعي: كلمات تتدفق، صور تلمع، محتوى يُقلّب المشاعر. كل هذا الهراء المبهم يغلف بقالب علمي واه، فيتحول الجهل/التجهيل المركب إلى "حكمة/ثقافة رقمية"، والفراغ الفكري إلى "ثراء معرفي/وهمي"! النتيجة؟ جماهير تلهث خلف سراب التحليل، بينما تستنزف خبراتها الإنسانية وتفقد معناها في ماكينة التصنيع الافتراضي.
الضحايا الأكبر هم أبناء الشاشات، جيل يختزل وجوده في المساحات الرقمية، حتى صار وعيه طينا طريا في أيدي مهندسي التضليل/موجهي علماء الخوارزميات. تجردهم الآلة من ذاكرتهم الواقعية، تسحبهم من تاريخهم الإنساني، وتعيد تشكيلهم كدمى تحركها "تريندات" لا تعترف إلا بلغة النقرات. وهكذا، يتحول الهشيم الفكري إلى مناخ سائد، بينما تترسخ السلطة الخفية لمهندسي العواصف الوهمية، الذين يلعبون بمصائر الشعوب من وراء شاشات لا تعرف الرحمة.
ومن ظواهر العصر الرقمي التي تستحق التأمل وتصب في سياق ما يمكن ان نسميه بإعادة "برمجة الوعي الجمعي" تلوح عملية تحويل الدلالات الرمزية للكلمات. ولتبسيط عملية الكشف لهذا الاستهداف ندرج كلمة "فاس" كمثال. ف"فاس" التي ارتبطت عبر التاريخ بمدينة الحضارة العريقة، واستحضرت في الأذهان "مهد العلم" الذي شدت إليه رحال طلبة المعرفة من المشرق إلى المغرب، ومعقل من معاقل المقاومة، وشباب جامعة ظهر المهراز، وتاريخ حركتهم المناضلة، ومنظمة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وانتفاضة "14 دجنبر" المجيدة، نجحت آلة الإعلام الجديد و"ثقافة الاستهلاك السريع" في تفكيك دلالتها الأصيلة والثورية، وصبغها بصبغة جديدة قائمة على العنف والفوضى.
ولم تكتف منصات مثل "يوتيوب" بنشر مقاطع "التشرميل" الدموية التي حولت فاس إلى مسرح افتراضي للعصابات والدماء، بل انضمت إليها قصاصات الأخبار المختزلة وبعض البرامج التلفزيونية التي جعلت من المدينة سيناريو متكررا للصراعات الدرامية. أما منصات "تيك توك" و"الفايس" فاختزلتها في منتج ثقافي سريع التداول، إما "عروض إثارة" بعناوين صادمة، أو لقطات مكثفة لاشتباكات عنيفة.
هكذا، تحولت الكلمة تدريجيا إلى "ماركة مسجلة" للرعب في المخيال الجمعي، حتى صار ارتباطها التلقائي في أذهان العامة بالسيوف والجرائم أقوى من ارتباطها بساحات النضال وذاكرة الأروقة العلمية، ومتاحفها الشاهدة على عراقة إرث إنساني. النتيجة؟ تحولت الكلمة إلى "ماركة مسجلة" للرعب في اللاوعي الجمعي، يطلقها الشباب – تلقائيا – كمرادف للسيوف والجريمة، بينما تطوى في الظل هويتها الحقيقية كحاضنة للتراث العالمي ومتحف مفتوح للعلوم والآداب، ومعقل للحركات المناضلة. فهل تدرك الأجيال الجديدة أنهم يخسرون - بتلقائية - رمزا كان يمكن أن يكون جسرا بين تاريخ الكفاح والتحرر وما يحمله من الماضي الثقافي المجيد والحاضر الرقمي الهش؟
فالكلمات ليست أوعية للمدلولات، بل ساحات حرب تخوضها الآلة الثقافية الحديثة لإعادة تشكيل الوعي الجمعي. ولننظر كذلك إلى "شيكاغو" كمثال صارخ: مدينة البحيرات الزمردية التي احتضنت عبقرية "مدرسة شيكاغو" الاقتصادية – تلك التي هندست فلسفة السوق العالمي – ومعقل الحركة العمالية الثورية والانتفاضة العمالية التي تعرف ب"احداث هايماركت" لفرض 8 ساعات عمل، والرفاق "أوغست سبايس" و"ألبرت بارسونز" و"جورج إنجل".. (رموز الحركة العمالية العالمية)، تختطف هويتها اليوم لتصير "علامة تجارية" للفوضى في متاجر الترفيه الرقمي. متحف مفتوح للعنف من خلال ما تنتجه ماكينة هوليود، وهي تختزل تاريخ المدينة في علب كوكايين ورشاشات تدوي تحت أنغام موسيقى الراب، وتلقي بشيكاغو رمز الجمال الطبيعي، ومعقل الحركة الثورية، والفكر التنويري، والابطال التاريخيين/الأبطال الحقيقيين، الى متحف التجاهل والنسيان.
ولا تقف المؤامرة عند الشاشات الكبيرة، بل تمتد إلى منصات "الثقافة السريعة" حيث تصدر" لقطات مسرعة لسيارات الشرطة وهي تحلق كالجراد فوق الأحياء الفقيرة. وحملات على العالم الافتراضي تعيد تعريف المدينة كـ "عاصمة العالم للرصاص الطائش"!
هكذا ينجح النظام الرأسمالي من خلال إعمال الخوارزميات في تحويل المدن إلى "أرشيفات معلبة" تُباع في سوق المشاعر الرخيصة، حيث تُستبدل طبقاتُ التاريخ الثقافي برموزٍ مبتذلة تخدم صناعة الخوف...
لم يعد تاريخ المدن وحده ضحية للشاشات المسطحة، بل كل بصيص نور قادر على كشف زيف العصر صار هدفا لـ"مقصلة افتراضية" تطحن الحقائق في مجازر رقمية. فماكينة التشويه الحديثة لا تكتفي بسرقة الذاكرة الجمعية وقلب الدلالات وصناعة "الأبطال"، بل تحول العقول -أسيرة الهواتف والشاشات- إلى سوق استهلاكية لتصدير الأوهام: أحلام معلبة بيد من دم، تسكت الأسئلة الكبرى وتبدد وهج الوعي في غياهب الترفيه المسموم.
22/05/2025