ككل سنة يتكرر هذا المشهد بنفس السيناريو
وبنفس المراسيم، وبنفس الدقة... مشهد حامل
لمعنيين متناقضين، يعكس التمجيد والتقديس من جهة والتحقير والحگرة من جهة أخرى !
تدور أحداث هذا المشهد داخل مكان محدد
بعناية، لما يحمله من رمزية في تصور "الرعية". ألا وهو ساحة القصر الفسيحة،
فالقصر هو تلك البناية الغامضة التي تحتضن المُلك والسلطة والغنى... وبذلك يجب أن يكون
هو المركز الذي تدور في قلبه هذه الأحداث المثقلة بالمعنى والمُشرّعة للسلطة المطلقة.
وبالتالي يجب على الهامش أن ينتقل
إلى المركز ويطوف حوله بخشوع، كما يطوف المؤمن حول الكعبة مركز الاسلام ومنارة المسلمين
التي توجههم. وكما هو الشأن في الحج فإن البيعة تدور وقائعها مرة واحدة في السنة، في
الأول يكون الإحرام بالأبيض واجبا، وفي الثاني يكون الجلباب الأبيض ضروريا.
فهنا اللباس التقليدي، المتمثل في
الجلباب المغربي، يحيل أولا على الجانب الأصيل في عملية البيعة وإنغراسها في المجتمع
ولباسه الذي يميزه عن باقي المجتمعات والشعوب الأخرى، ثانيا اللون الأبيض رمز الضوء
والصدق والصفاء والنقاء والتبجيل...كلها دلالات رمزية إيجابية.
على متن سيارة مكشوفة، وحوله رجال
ذوي بشرة داكنة ولباس أبيض لكنه مختلف عن لباس الآخرين المبايعين. يخدمونه ويحيطون
به بشكل دائري، هم العبيد غير الأحرار الذين يفصلونه عن العبيد الأحرار.
يتنقل في موكب مهيب، لا تطأ قدماه
الأرض، إنه فوق الجميع، نظراته تتجه من فوق إلى الأسفل من السماء إلى الأرض، ويشير
بيديه بكل رضى واكتمال عندما تنتهي الأفواج من الإنحناء المتتالي والمتكرر. في مثابة
إله راض على عباده الخاضعين...الذين يُصلون له وحده ولا يشركون به أحدا. يدعوهم عن
طريق صوت رسوله إلى الإمتثال له والتفاني في خدمته...وهم يجيبون بالسمع والطاعة!!!
وفي السماء شرعت مظلة كبيرة مثبتة
في يدي عبد قوي. تحجبه عن كل مكروه وذلك من بداية الطقس حتى نهايته، في إشارة ربما
للسحابة التي رافقت النبي دون غيره، طوال سفره في الصحراء حاجبة إياه من حر الشمس،
كيف لا وهو سبطه!!. وفي إشارة كذلك إلى حدث تاريخي مماثل، ألا وهو سقيفة بني ساعدة
التي إجتمع تحتها رهط من قريش والأنصار بعد موت النبي، لمبايعة أبو بكر كخليفة له،
والتي كانت أول بيعة في تاريخ المسلمين.
مهابة الحفل وإنحناءة الهامش للمركز،
فعل واعٍ تمنح فيها الشرعية الدينية والسياسية في قبضة شخص واحد، وتجعل منه نقطة تمحور وجذب.
من خلاله يتعالى التاريخ ويتقدس الشخص
ويتأسطر الموروث...
تأتيه الجموع الحاشدة زرافات زرافات، حشود مكونة من نخبة البلاد المتمثلة في المسؤولين
الكبار والمنتخبين، في صفوف متراصة بنظام وانتظام، يتقدمهم كبير "البصاصين".
كل جهة تقدم بيعتها وولاءها بانحنائها وخضوعها...
وبذلك تُخْضِع الشرعية الدينوقراطية،
والمستمدة من السماء ومن الدين ومن النبي، الشرعية الديموقراطية المنتخبة وتجبرها على
أن تكون تابعة وخادمة لها. بل وتجعل ممثليها مجرد رعايا، كباقي الرعايا، يعتكفون بخضوع
الخراف أمام الراعي!
هي بيعة دائمة للملك ومتجددة في كل
سنة حتى تترسخ في المخيال الجمعي. بيعة من خلالها الرعايا يقدمون ولاءهم وخنوعهم التام
للراعي، خنوع المؤمنين لأمير المؤمنين، خنوع العبيد لسيدهم.
عملية توضع من خلالها، بشكل طوعي وكلي،
السلطة الدينية والدنيوية في يد واحد أحد. هي بمثابة عقد ملزم للجميع، من خلال ممثليهم،
بالتخلي عن السلطة والحكم!
01 غشت 2014