نخلد الانتفاضة الشعبية يناير 1984، هذه السنة في ذكراها الثانية والثلاثين، في ظل أوضاع اقتصادية واجتماعية بالغة السوء. ذلك أن الشروط الموضوعية التي أفرزت الغضب الشعبي آنذاك تبدو ماثلة أمامنا، وخاصة في الشق المتعلق
بسياسة التفقير التي ينهجها النظام القائم، وصعوبة توفير لقمة العيش لعموم الكادحين. لذلك، كانت الانتفاضة الشعبية الوسيلة الوحيدة المتبقية لهم، للتعبير عن رفضهم للوضع العصيب الذي يعيشونه.
إن الجماهير الشعبية وبجل فئاتها، وفي مقدمتها الطبقة العاملة، عندما تنتفض، لا يتم ذلك بعد القراءة المتأنية للقانون المالي أو بعد تتبع الإجراءات السياسية والاقتصادية التي تنهجها الحكومة في بعديها الدولي أو الداخلي، إنما العجز عن القدرة على العيش وبكرامة. كما أن النهب الممنهج لخيراتها وفي إطار تراكمي، يفضي وحتما إلى أن تثور وتنتفض. وفي حالتنا هذه وبعد قراءة لمجموعة من التجارب التي اجتازها الشعب المغربي منذ ما يسمى بالاستقلال الشكلي وحتى انتفاضة يناير 1984، فإن سياسة التقويم الهيكلي التي انتهجها النظام القائم والمملاة من طرف صندوق النقد الدولي ودوائر القرار المالي العالمي قد أفضت وبنهاية المطاف الى انتفاضة عارمة في جل المدن المغربية، وخاصة بمدن الشمال.. فما هي مميزات سياسة التقويم الهيكلي؟ وكيف انبرى الشعب المغربي بانتفاضته المجيدة للدفاع عن حقه في الوجود؟
عرف الوضع الاقتصادي للمغرب بداية سنوات الثمانينيات وضعية صعبة، يتضح ذلك من خلال المديونية المرتفعة التي تجاوزت 12 مليار دولار لتغطية عجزه المالي الذي ارتفع الى 7 بالمائة، وهو ما يظهر حجم التواطؤ الامبريالي- الرجعي على الشعوب، حيث يتم النهب على مستويين اثنين. الأول، حين يتم تضخيم النفقات بما يخدم مصالح رموز النظام ومجمل حلفائهم المحليين، من تعويضات ومجموع النفقات التي لا تفيد العملية الإنتاجية في شيء. وثانيا، عندما تعتبر القروض الممنوحة من الرأسمال المالي العالمي نوعا من التوظيف المالي، عن طريق فوائد الدين، وهو ما يثقل كاهل الشعب المغربي ويجعل الولوج الى المرافق الاجتماعية أمرا صعبا. فيما ارتفع عجز الميزان التجاري حوالي 60 بالمائة، حيث شهدت تلك السنوات الأولى من عقد الثمانينات حالة الجفاف المتوالية أثرت على القطاع الفلاحي وعلى نسبة مساهمته في الناتج المحلي الاجمالي الذي يقدر بحوالي 15 مليار دولار، كما أن انخفاض مداخيل الفوسفاط وزيادة نفقات التسلح، بالإضافة لارتهانه لتقلبات أسعار المواد الأولية المعتمدة في استخراج الفوسفاط والقطاع الفلاحي وارتفاع سعر الدولار كقيمة تبادلية. فكما هو معروف، ومن أجل مواكبة النمو الديموغرافي والارتفاع المضطرد وفق ذلك لنسبة السكان النشيطين، يتوجب أن تكون نسبة النمو الاقتصادي تفوق 9 بالمائة. كل هذا بالإضافة الى عوامل أخرى فرض على النظام القائم تنفيذ سياسة التقويم الهيكلي لتجاوز أزمته ورهن المغرب للرأسمال العالمي وعلى حساب قوت وعيش الشعب المغربي.
إن أهم ما كان يميز تلك السياسة، سياسة التقويم الهيكلي، هو الرفع من أسعار المواد الغذائية الناتج عن رفع الدعم الجزئي عن صندوق المقاصة، وخفض المناصب المالية في الوظيفة العمومية بما يقارب 50 بالمائة، كما الزيادة من رسم الضرائب غير المباشرة لترتفع الى 19 بالمائة، بالإضافة الى تخفيض ميزانية الاستثمار العمومي حوالي 25 بالمائة. (أليست نفس السياسة التي ينتهجها النظام ضد عموم الكادحين الآن؟؟؟ لا عجب في ذلك، حيث أن آليات اشتغال النظام الرأسمالي هي نفسها، الاختلاف يتم على صعيد طرق تصريفها). كما لا يفوتنا التذكير بالرفع الذي طال رسوم التسجيل في التعليم العمومي، وهو ما أجج احتجاجات التلاميذ والطلبة، لتعم بعد ذلك الانتفاضة الشعبية العديد من المدن بالتحاق الطبقة العاملة وعموم المفقرين بها. لقد عرفت انتفاضة يناير 1984، انفجارا للجماهير الشعبية لمواجهة النظام القائم بترسانته القمعية الرهيبة، ورغم التضحيات الكبيرة المقدمة، انطلاقا من العدد الكبير للشهداء والمختفين والمعتقلين السياسيين الذين وزعت عليهم المئات من القرون سلبا لحريتهم وضدا على مطامحهم في تحرر وانعتاق شعبهم، ذلك أنه زيادة على كون الوضعية الاقتصادية التي يعانيها الشعب المغربي، دون ذكر السيطرة الامبريالية عل مقدرات شعبنا، فإنه تنضاف شروط أخرى لها وقع جدلي لعملية النهب الشديد الذي يتعرض له حتى تتم السيطرة على عموم الشعب والمفقرين، من قبيل الفساد المستشري في مفاصل الإدارات العمومية وغياب العدالة ما بين أفراد المجتمع الواحد. إن الانظمة التبعية ومن خلال تنفيد إملاءات الرأسمال المالي العالمي من طرف طبقة الكومبرادور توسع بذلك دائرة تحالفها المسيطر لتشمل الفئات العليا من الإداريين والعسكريين. لكن، ونحن نستحضر ذكرى الانتفاضة المجيدة، نسائل وضعنا الاقتصادي والاجتماعي الآن، وأبرز سماته؟
الناتج الداخلي الإجمالي للمجتمع المغربي يتجاوز 100 مليار دولار بقليل، نصيب الفرد كمعدل وسطي سنوي لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور المحدد بالقطاع الصناعي، وهو ما يبين اننا سوقا استهلاكية لمنتجات الدول الامبريالية، وبعد نهب خيرات وثروات الشعب المغربي (منتجات فلاحية وبحرية، منتجات منجميه)، وبعجز للميزان التجاري يزيد عن 22 مليار دولار. كما أن نسبة البطالة وسط أصحاب الشهادات تفوق 25 بالمائة، ناهيك عن عدد الأطباء لكل 10 ألف نسمة لا يتجاوز 15 طبيب. إن النظام القائم بمؤسساته التنفيذية والتشريعية، تلميذ نجيب لإملاءات صندوق النقد الدولي. ويمكن الرجوع الى بياناته وتوصيات لجنة خبرائه للتأكد من صحة الأرقام الواردة بهذه المقالة على تواضعها. إن القانون المالي الذي سن لتطبيقه هذه السنة 2016، يظهر كما سبق الذكر ماذا تطابق الإجراءات والمخططات الطبقية لما قبل انتفاضة يناير 1984 المجيدة، ولفتح الباب للمزيد من النهب الامبريالي والاستغلال البشع لمقدرات وثروات شعبنا.
إن الواقع الاقتصادي والاجتماعي للجماهير الشعبية المفقرة، وعدم قدرتها على العيش، سوف يفضي وحتما الى الانتفاضة الشعبية، وتجارب الشعب المغربي مع هذا النظام اللقيط، كما تجارب الشعوب، تظهر أن الرفع من أسعار المواد الأساسية تكون الشرارة لانطلاق الاحتجاجات يستتبعها على أرض الميدان، القمع الدموي الشديد، والتضحيات الجسام من طرف الجماهير الشعبية.. لكن، يبقى السؤال، ماذا بعد؟ هنا يصنع الفعل السياسي، وهنا تظهر الحاجة لقوة سياسية واضحة الأهداف، توحد نضالات الجماهير الشعبية واستثمار تضحياتها، قادرة على تحديد التكتيك الصحيح، العملي والعلمي والقادرة كذلك على الاندماج مع حركة الجماهير المنتفضة نحو غايتها المنشودة. " إن المهمة تحددها حاجة الحركة الجماهيرية بشكل عام من أجل إحراز النصر. وحاجتها الضرورية في المرحلة التاريخية التي نجتازها هي قيادة تنبثق منها وتثق بها، أي تثق بها الجماهير، وتثق بقدراتها على القيادة بشكل سليم وصحيح ومبدئي. ووفق هذا المنظور تكون القيادة جزء من حركة الجماهير، لكنه جزؤها الواعي والنشيط والفاعل والأكثر قدرة على إدارة الصراع بطريقة صحيحة".
شارك هذا الموضوع على: ↓