إن البرنامج أو الشعار السياسي محكوم في العمق بعاملين. أولا، الموقع الطبقي للذات الممارسة للصراع الطبقي المعنية بالشعار السياسي أو البرنامج. وثانيا، بالشروط والوقائع الموضوعية والذاتية التي تحمله
للواجهة. وانطلاقا من غياب التجانس الطبقي في البنيان المجتمعي، في كل بلدان العالم في المرحلة التاريخية التي تمر منها الإنسانية في ظل السيطرة الرأسمالية، واختلاف تطور التشكيلات السياسية والصراع السياسي من بلد لآخر، يحكم حتما على السلوك السياسي للأطراف الممارسة بالاختلاف بالرغم من الانسجام الإيديولوجي والخلفية الطبقية لقوى سياسية من بلد لآخر. إن أغلب بلدان العالم تعاني من السيطرة الإمبريالية على مقدوراتها وثرواتها في تحالف مع طغمة الكومبرادور، لكن شروط تطور الصراع تختلف من بلد لآخر. فالصراع في المغرب في مستوى تطوره ليس هو نفسه المستوى الذي وصله الصراع في كولومبيا ولا في الهند ولا كرديستان (كوباني) مثلا، ولا هو نفسه في مرحلة السبعينات ولا إبان الاستعمار المباشر.. وهذا ما يفسر التباين في الأسلوب النضالي للحركات المنسجمة، في منطلقاتها، وفي خلفيتها الطبقية، من بلد لآخر. فالأسلوب النضالي محكوم بتفاعلات الصراع وبالعلاقات وتطورات الوضع السياسية والاجتماعية وبأفق ذلك التطور. ولا يأخذ سمته الثورية أو الإصلاحية أو الرجعة من مدى انتشاره أو صداه وإثارته.. بل من الظروف المحددة التي يجري فيها الصراع. ومن هنا نأتي للحديث عن العنف الثوري. فهذا الأسلوب النضالي ليس من ابتكار الحركات الثورية المعاصرة، فهو ليس من ابتكار لا ماركس ولا انجلز ولا لينين ولا ماو ولا هوشي منه ولا كيفارا.. بالرغم من إسهاماتهم الى جانب ثوار وطنيين وتاريخيين في تطويره، بل هو أسلوب له تاريخ عريق يضرب جذوره في مراحل ما قبل الرأسمالية، بحيث كان أسلوبا اعتمدته الشعوب المضطهدة والمستعمرة لمقاومة ومناهضة أعدائها، وفي مرحلة التوسع الإمبريالي كان ولازال هو الطريق الثوري الذي اعتمدته حركات التحرر الوطني في أغلب بلدان العالم لإجلاء المحتل المباشر وكذا لهدم سلطة عملائه الكمبرادوريين والإقطاعيين. فمثلا، كان أسلوبا لطرد الإمبرياليين من الأراضي الفيتنامية كما كان أسلوبا للإطاحة بنظام باتيستا العميل للإمبريالية المعادية للشعب الكوبي كما هو خيار المقاومة الفلسطينية ضد الكيان الصهيوني العنصري الاستيطاني... ومعنى ذلك، أن أسلوب العنف الثوري ينضجه في الشروط التاريخية الراهنة المستعمرون والأنظمة الديكتاتورية العميلة وتسلكه الشعوب كلما وجدت ظروفا متميزة وخصبة لذلك.. فالعنف الرجعي، المعنوي والمادي، الموجه ضد الجماهير يولد موضوعيا صداما محتدا وواسع النطاق، أي يولد العنف الثوري الحقيقي الذي تؤمن به الجماهير وتتمسك به. وفي هذا الباب أقول أن إدانة العنف مهما كان مصدره، في محاولة لحصر الممارسة النضالية فيما يسمونه بالنضال الحضاري، موقف رجعي يستهدف تجريم النضال الشعبي في مستوياته المتقدمة والثورية.. لذا، فالعنف الثوري هو خطوة لإرادة الشعب الكفاحية وطلائعه بعدما يتبين له أنه الحل الوحيد المتبقي لتأمين المسار والأفق التاريخي، وحسم الصراع مع العدو. ولهذا يعتبر العنف الثوري ممارسة محددة بغاية إنسانية نبيلة وتاريخية تستهدف تحرير الشعوب ومساواتها.. وفي نفس الوقت هو أسلوب الجماهير المسؤولة عن التغيير وليس أسلوب خاص بمجموعة أو كتلة من الأفراد تمارسه باسم الشعب والجماهير وبعيدا عنها، ولو تحت شعارات تعكس أهدافا طموحة وإنسانية ومنسجمة. فالإنابة الذاتية عن الجماهير في ممارسة الصراع الطبقي هي دليل السلوك البرجوازي الصغير. فالجماهير واتحاد نضالها بمقدوره أن يفتح آفاقا ثورية متقدمة تزحزح أركان أعتى الأنظمة. وفي التاريخ الحديث والقريب ما يكفي من دروس وعبر. ومن هذا المنطلق أقول إن الأسلوب السياسي أو التكتيك السياسي الثوري يؤثر ويتأثر بمجريات الأوضاع وبالشروط الموضوعية المحيطة. لهذا فهو نسبي ومتغير في حقيقته العلمية ولا يحتمل صفة الشمولية والإطلاقية، يعني أنه مشروط بالظروف الذاتية والموضوعية، وأن أي معنى يعطيه الثبات والإطلاقية أو أي استعمال فج وعمومي بعيدا عن شروط تطور الصراع هو قتل واغتيال لثوريته ويخلق للعدو فضاء مناسبا وغير مكلف لتصفية الحركات السياسية والاجتماعية المناضلة.. إن الثورة ليست عملا إرهابيا ولا هي القنابل والمتفجرات وأسلحة فتاكة تسترخص البلد.. الثورة فعل نضالي تخوضه الجماهير الشعبية المنظمة بقيادة طلائعها ضد الطبقات الرجعية من أجل السيطرة على السلطة وتنظيم المجتمع على أرضية مصالح المستغلين (بفتح الغين) والمضطهدين (بفتح الهاء) تحت قراراتها وسلطاتها، وإزاحة مصالح وسلطة الكمبرادور والملاكين العقاريين إلى مزبلة التاريخ.. ولهذا نقول إن الثورة ليست في حاجة للسيوف ولا السواطير ولا ينقصها أي سلاح فتاك، فسلاحها وقوتها وصناعها بالدرجة الأولى هم الجماهير عندما تعقد العزم على خوض الصراع بوعي ومسؤولية وبهدف واضح وتكتيك علمي. لهذا فالثورة في بلادنا في حاجة إلى التنظيم الثوري كأولوية لا تقبل التأجيل، أي الأداة السياسية المنظمة والمعبرة عن جماهير شعبنا وفي مقدمتها الطبقة العاملة، وهو المشروع الحقيقي الذي يجب أن يكون على محمل الجد، بعيدا عن القفزات "البهلوانية". أما أسلوب العنف الثوري دون الجماهير وخارج المعارك الطبقية هو "موال" أعمى ورومانسية منفعلة ومتفاعلة بالجمل الرنانة على تربة قاحلة وفي شرط غير شروطه. فالمناضل الثوري الحقيقي الآن ودائما هو من يناضل ويقاتل وسط الجماهير وينظم مقاومتها ويقف في مقدمتها ضد الظلم أينما كان وضد أي كان، ويفضح بشكل دائم وعن صواب وليس بالأكاذيب والوشايات والتباهي "بالصوت والصورة" وكل الممارسات الرجعية والمتخاذلة وكل التواطؤات.. كما أن المناضل ليس اختصاصه هو فذلكة الكلام لتدليس الوقائع الحية، أو تعويض التحليل العلمي بتراكيب أدبية منمقة عتيقة كتكتيك للهروب من الحقيقة واللعب على العقول البسيطة.. فهذا السلوك يليق بالرجعية وبالعناصر البرجوازية الصغيرة وليس بمن يتمسك بقضايا الشعب وبالدفاع عن الحقيقة الثورية من موقع المسؤولية الحارق.. ومن باب الاستئناس بالدروس التاريخية لتشريح الصورة أكثر أتوقف على التجربة المغربية في شخص المقاومة المسلحة وجيش التحرير ببلادنا، بحيث الشعب هو من كان يوفر الحماية والتأمين لمسالك المقاومين والمقاتلين. وكان المقاوم في مناطق الاحتلال الفرنسي عند اكتشافه من طرف العدو ينتقل الى مناطق الاحتلال الإسباني ويستقبل ويؤمن من طرف شعبنا هناك، وكذلك العكس ونفس الشيء عرفته التجربة الكوبية حيث كان الثوار يتحركون بحرية وأمان بين الفلاحين بالجبال وأي حادثة معينة تقع للثوار في أيام باتيستا كانت تثير الجماهير وتعلن عنها الإضرابات والتهديد للسلطة في مناطق مختلفة من البلد..
8 فبراير 2016
شارك هذا الموضوع على: ↓