النهب الإمبريالي يجدد أساليبه لاستمرار سرقة ثروات الشعوب.
طريقة الاستعمار التقليدي تتلاشى وتدخل مرحلة الاحتضار.
لاعبون جدد يتقدمون المشهد.
الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، والنزاعات المسلحة في أكثر من خمسين بقعة على كوكبنا، مع الحضور المباشر وغير المباشر لأطراف الإمبريالية المتنازعة، تبرز للواجهة.. وعليها تبرز توازنات تبشر بأن العالم لن يعاد ترتيبه وفق مصالح القطب الغربي.
في الواقع، وكما أثبت تاريخيا، يعيد الإمبرياليين توزيع مصادر وسبل الطاقة والأسواق، وبناء قواعد النفوذ، على أعقاب الحروب والخراب والفقر والقتل.
اليوم تدور معارك شرسة، تذبح الشعوب، وتقدم غداءً لمدافع لصوص الكوكب..
تصعيد واضح للمواجهة بين المحور الأوروبي الأطلسي (الولايات المتحدة الأمريكية - الناتو - الاتحاد الأوروبي) والتحالف الأورو أسيوي الصاعد (روسيا - إيران - الصين إلخ)، من أجل التفوق في النظام الإمبريالي الدولي، والسيطرة على مناطق النفوذ، وإعادة توزيع الأسواق والأراضي ذات الأهمية الاقتصادية والعسكرية.
الحرب تتوسع باستمرار. وكل المؤشرات توحي بكون الإتحاد الأوروبي يسير نحو الانحدار. أو لنقل الإمبرياليات الأوروبية تخسر الكثير من مواقع النفوذ وتسير على مسار الانحدار. فنشاط بواخر النهب على المحيط الأطلسي يقترب من أفوله، وعصر الغرب على أبواب مرحلة الشيخوخة، ويتدحرج نحو المنحدر والعجز والتدمر، وظل موسكو يبدو بارزا ووازنا فوق سطح النزاعات الدولية، والمعاملات الجيوستراتيجية.
وقوف روسيا لجوار الصين، رفع من تكنولوجيات الفضاء ، والتقنيات العسكرية والنووية للصين..
تحت الرقابة العسكرية لروسيا، وبواسطة كاسحات الجليد التي تعمل بالطاقة النووية، تهيمن موسكو اليوم على الطريق التجاري الشمالي..
على الأراضي السورية سوقت موسكو للنموذج الجديد لحماية الأنظمة التابعة من الانهيار الذي يعتمد على القوة العسكرية وعروض الاسلحة المتطورة المدمرة واتفاقات اخضاع الاقتصاد المحلي لمصالحها..
تحت ظلال موسكو يعاد بناء توازنات سياسية لصالح الموالين لها في بلدان عدة كانت سابقا تشكل المعسكر الشرقي..
على الأراضي الأوكرانية قدمت موسكو لحدود الآن معركة رادعة للناتو، وأغرقت الاتحاد الأوروبي في أزمة خطيرة..
وفي الشرق الأوسط، تقف موسكو بقوة إلى جانب إيران، وتضمن أمن دول البريكس في المنطقة، وتؤدي بالتحالف الأميركي الأوروبي الصهيوني نحو الطريق المسدود..
إمداد القدم العسكري لروسيا نحو أفريقيا أدى إلى طرد المستعمرين الفرنسيين، وتقليص نفوذ الدولة الفرنسية وسيطرتها على العديد من مصادر الطاقة والمعادن النفيسة في افريقيا، وحماية الاستثمارات الصينية الضخمة في "القارة المنهوكة"، وسحب العديد من ثروات الشعوب من تحت أيادي قوى الاستعمار التقليدي. فمحنة العديد من شعوب كوكبنا التي كانت تحت قبضة الأيادي الغربية تنتقل لأيادي إمبرياليي الشرق، روسيا والصين، ويصعد عصر تحويل مصب ثروات الشعوب المنهوبة من المحيط الأطلسي نحو المحيط الهادي..
إن أسلوب الاستعمار التقليدي وصل إلى نهايته، وطريقة الإمبريالية الروسية والصينية في نهب الشعوب تخضع بلدان كانت بالأمس القريب تحت قبضة الغرب.
إنها الحقيقة التي صارت واضحة لدى المؤسسات السياسية والمالية الأوروبية. وهي الخلاصة التي اشار لها تقرير ماريو دراجي رئيس البنك المركزي الأوروبي السابق، والذي تردده بقوة أورسولا غيرترود فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، والمقدم في سبتمبر الماضي، وهو يسلط الضوء على المنافسات الإمبريالية، حيث يقول: بأن "الأسس التي بنينا عليها تهتز. إن النموذج العالمي القديم بدأ يتلاشى. يبدو أن عصر النمو السريع في التجارة العالمية قد إنتهى، حيث تواجه شركات الإتحاد الأوروبي منافسة أجنبية متزايدة وانخفاض القدرة على الوصول إلى الأسواق الأجنبية. وفقدت أوروبا فجأة أكبر مورد لها في مجال الطاقة، روسيا. وفي الوقت نفسه، يتراجع الاستقرار الجيوسياسي، وتكشف تبعياتنا عن نفسها باعتبارها نقاط ضعف (...) إن السلام هو الهدف الأساسي لأوروبا. لكن التهديدات التي يتعرض لها الأمن القومي تتزايد وعلينا أن نستعد."
ويشير ايضا، أي تقرير ماريو دراجي، أن من بين 800 مليار يورو التي تحتاجها الإحتكارات الأوروبية للإقتصاد الأوروبي للوقوف في وجه منافسيها، يجب تخصيص 500 مليار يورو لصناعة الحرب:
"تحتاج صناعة الدفاع إلى استثمارات ضخمة للتعويض عن الأرض المفقودة (...) وهناك حاجة أيضًا إلى استثمارات إضافية لاستعادة القدرات المفقودة، بسبب عقود من نقص الاستثمار، وتجديد المخزونات المستنفدة، بما في ذلك تلك المخصصة لدعم دفاع أوكرانيا ضد العدوان الروسي" (نفس التقرير). وهو ما يعني التوجه لاقتصاد الحرب، وتشجيع شركات إنتاج الأسلحة. وهو ما ذهبت إليه المفوضية الأوروبية في يونيو 2024، بحيث قدرت حاجة الاستثمارات الدفاعية إلى 500 مليار يورو على مدى العام المقبل. لأن "اللحظة حاسمة في تاريخ الإتحاد الأوروبي" كما عبرت أورسولا غيرترود فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية.
وهذا المنعطف لن يخلو من تبعات وتكلفة، لأن عملية إعادة تشكيل الإقتصاد والعلاقات الدولية حول مخاوف الأمن، مع الفقدان لمجموعة من مناطق النفود، ومصادر الطاقة، ستكون على حساب جيوب الشعوب الأوروبية، وباقي الشعوب التي لم تنفلت من قبضتها بعد، وهو ما سيوسع من قاعدة الاضطرابات الجيوسياسية. وأكيد أن الأنظمة الأوروبية، ومؤسساتها، ومراكز بحوثها، تعي هذا التحدي.
إن إلامبريالية الأوربية، أو لنقل أوروبا القديمة، كواقع ملموس، تتدحرج نحو المنحدر والعجز والتدمر، لتأخذ مكانها في متحف التاريخ، وأوروبا الجديد لن تتخلص من سواد مستقبلها اليوم والذي يلوح في الأفق ويكون لها مكان متقدم في التاريخ، خارج سلسلة من الثورات الإشتراكية لتضع نهاية للمصير الأسود لشعوبها والذي تظهر ملامحه واضحة في واقع اليوم. إنه الأمل الوحيد أمام شعوبها.
وفرنسا اليوم كدولة من دول المجموعة الأوروبية المدعمة بقوة للحرب في أوكرانيا، وللإبادة الجماعية في فلسطين، كما عبر عن ذلك ماكرون داخل قبة البرلمان المغربي تحت تصفيق حار لما يسمون "ممثلي الأمة"، وهو الذئب بجلد الحمل في الشرق الأوسط حيث يرتجف خوفا على مصالحه في لبنان، ومن نفس المصير في أفريقيا، التي فقدت فيها فرنسا مجموعة من مراكز النفوذ ومصادر الطاقة، وتراجعت مصالحها، وينظر لها الرأي الشعبي الإفريقي كلص وكدولة غير مرغوب فيها. ناهيك أن نموذج الحكم في الإتحاد الأوروبي، والذي تم إنشاؤه من أجل تكامل السوق، بدأ يثبت أنه غير قادر على ضمان الأمن الإقتصادي والعسكري، وهو ما يعكسه تراجع مجموعة من الوحدات الإنتاجية الكبرى وإعلان إفلاس البعض منها مثل إنتاج السيارات.
هذه التطورات العالمية، هي خلفية الدولة الفرنسية في التحرك من أجل إعادة بناء نفوذها للحفاظ على ما تبقى لها من مراكز السيطرة.
فرنسا اليوم التي حسمت أمرها إلى جانب باقي بلدان الإتحاد الأوروبي في التوجه لاقتصاد الحرب، مطالبة بالانشغال بتوفير الأسواق لمبيعاتها العسكرية، ومشاريع أعمال إقتصادية لشركاتها التي لن يشملها برنامج الدعم في ظل إقتصاد الحرب، مع الاعتماد على آليات جديدة، مثل النموذج الأمريكي، بتوقيع عقود جديدة مباشرة مع الأنظمة، والحكومات. وما سمي ب"زيارة دولة فرنسا للمملكة المغربية" لا تخرج عن هذا السياق، فهي زيارة لتجديد عقد الحماية للملكية، على قواعد مصالح فرنسا بالمغرب، أي طبقا للقواعد الجديدة المستوحاة من النموذج الروسي في التوسع بإفريقيا وبسوريا، أي بإخضاع كل القطاعات بالمغرب للمصالح الإقتصادية والاجتماعية والثقافية الفرنسية وتعميق تبعية النظام القائم والحفاظ عليه كخادم تابع وحارس على ماتبقى من مصالح فرنسا بإفريقيا. فالدولة الفرنسية ليست "جمعية خيرية"، بل تنطلق من مصالح رأسمالياتها، ومن طموح هذه الرأسماليات، ومن استراتيجياتها في المرحلة. لهذا كان وفد الرئيس الفرنسي الذي تجاوز 100 مرافق يتكون من وزير الدفاع والداخلية والإقتصاد والزراعة والتعليم والثقافة إلى جانب برلمانيين ومنتخبين، ووزراء سابقين ذوي خبرة في العلاقات مع المغرب، ورجال أعمال، ومثقفين، وأكاديميين، وفنانين، ورياضيين، وصحفيين، وفاعلين مدنيين وسياسيين.. وكل هذا لأهمية الزيارة التي تندرج في إطار استراتيجية اقتصادياتها، وأهمية الاتفاقات التي وقعت، لتجديد القبضة على جميع القطاعات الحيوية وضمان أسواق لمبيعاتها.
02 نوفمبر 2024.