14‏/12‏/2014

البديل الجذري // لماذا لا نصغي لمن جندتموهم للقتل يوم 14 دجنبر 1990؟

لعلع الرصاص في كل مكان، جثث المنتفضين منتشرة في كل شارع وزقاق وأمام البيوت، وحظر التجول يعم المدينة… كان ذلك إبان 14/15/16 دجنبر 1990 بمدينة فاس.

من عايشوا تلك الانتفاضة الشعبية لهم حكايات متفاوتة حسب موقع ومكان الحضور. وجلها تنسف كل التقارير التي دبجتها الجهات الموالية للنظام سواء تلك التي نصبت تحت اسم لجنة تقصي الحقائق في تلك المرحلة أو ما ذهبت إليه تقارير من باعوا ضمائرهم بعد الالتحاق بصف النظام لهندسة وتجميل العهد الجديد. لكن حكايات أحد الجنود المتقاعدين، من المغرب المنسي، عن بشاعة الجريمة التي ارتكبها النظام في حق الشعب المنتفض بمدينة فاس، عقب الإضراب العام الذي شهدته المدينة، كانت أقوى بكثير، حيث يقول: "أخذونا من الثكنة من دون أن نعرف إلى أين، قاموا بالتدقيق في هوياتنا ومن منا من أبناء مدينة فاس أو نواحيها. كانوا يأمرون أبناء فاس والنواحي بالبقاء. وأغلب من وقع عليهم الاختيار كانوا من الجنوب أو الشرق أو المناطق البعيدة جدا. بعدها أمرونا بأن نلبس الجلباب العسكري وسلحونا بهراوات من خشب مغروس في رأسها مسامير حادة. بمجرد وصولنا لمدينة فاس، أنزلونا.. المجموعة التي كنت متواجدا في صفوفها بحي "بن دباب" كانت سماؤها تمطر بالحجارة من جهة جموع غفيرة من السكان الساخطين. وقد بدا على وجوههم علامات السخط والغضب من الجحيم الذي أصبحوا يعيشونه من سياسات الحسن الثاني. كانت مهمتنا هي تفريق التجمعات بعدما أخلى البوليس والمخازنية الساحة لأنهم لم يستطيعوا السيطرة على الوضع. شكلنا عدة مجموعات وبدأنا الهجوم على عدة جهات خصوصا الساحة القريبة من "سينما الشعب" التي احتلتها جموع المنتفضين. لكن القوة والحماسة التي كان يتمتع بهما الشباب جعلتنا نتراجع مرارا خصوصا أنهم كانوا يمطروننا بالحجارة، مثل زخات المطر. من خلال تلك الاصطدامات، لقي العديد من الشباب المنتفضين مصرعهم بعدما تلقوا ضربات قاتلة بالعصي المسلحة بالمسامير. وحينما لم ينفع تدخلنا، أمرتنا القيادة بالانسحاب إلى الخلف. بعدها مباشرة حلت بعين المكان شاحنات عسكرية محملة بالجنود مسلحين بالبنادق الرشاشة وكان في إحدى الشاحنات رشاش آلي تم توجيهه صوب الجموع الغفيرة من الناس الساخطين، بدأ إطلاق النار بغزارة وبدأت الأجساد تتساقط الواحد تلو الآخر. بعدها أمرونا بالتقدم نحو مكان تلك الجثامين، وبدأنا نجمعها في سيارات الجيب والشاحنات. وأثناء نقلها، قاموا باختيار عناصر معينة وموثوقة لديهم ليرافقوا الشاحنات حيث سيتم الدفن في مكان ما..
والأمر الذي أثر في نفسيتي كثيرا هو أنهم كانوا يضعون بعض الجرحى ممن يعانون من إصابات بليغة في العربات ليتم دفنهم إلى جانب الموتى، لقد شاهدت بأم عيني كيف أن بعض العناصر القيادية في الجيش كانوا يأمروننا بوضع هؤلاء مع الموتى، ورغم توسلات الجرحى لإنقاذهم من الموت إلا أن قلوب القادة العسكريين كانت قاسية كثيرا.
صدقني، لم أستطع النوم لعدة شهور بعدما شاهدت تلك الكارثة، صور القتلى لا زالت تطاردني لحدود الآن أثناء النوم وحتى عندما أكون صاحيا. لقد أصبت بانهيار نفسي، ورغم كل محاولات الأطباء العسكريين معالجتي لكن لم أستطع الخروج من تلك الحالة، وهو ما دفعهم إلى إقالتي من الجيش، لكوني أشكل خطرا عليهم، ومنحوني تقاعدا نسبيا هزيلا. الكثير من الناس يظنونني مجنونا، لكن الحقيقة هي أن ما شاهدته في ذلك اليوم المشؤوم ظل عالقا في ذاكرتي ولم أظن يوما أن الجيش الذي من المفروض أن يحمي الحدود من التهديدات الخارجية سيقوم بتلك المجزرة ويواجه مواطنين عزلا لا يحملون الأسلحة ويطلق عليهم النار بدم بارد…".
هكذا كانت حكاية أحد الجنود الذي عايش الجريمة البشعة التي ارتكبها النظام القائم في حق أبناء مدينة فاس المنتفضين. وهذه القصة ما هي إلا الشجرة التي تخفي غابة الجريمة ووحشية "الإبادة الجماعية بشكل أدق". وهناك العديد من القصص التي يرويها أبناء المدينة ممن كانوا شهودا وضحايا في نفس الوقت، كما العديد من الأطفال والشباب اختفوا إبان الانتفاضة ولم يظهر لهم أثر إلى يومنا هذا، ومنهم من لازال يعاني من عاهات سواء التي خلفها إطلاق الرصاص أو مخلفات الاعتقالات والأحكام القاسية.
خلال سنة 2007 تم اكتشاف عدة مقابر جماعية للمئات من الضحايا الذين سقطوا تحت زخات الرصاص والقصف المدفعي الذي واجه به النظام الهمجي الانتفاضة المجيدة، وأبرز هذه المقابر عثر عليها عمال البناء بحديقة "جنان السبيل" قرب المحطة الطرقية وأخرى بـ"باب الكيسة" القريبة كذلك من المحطة.. ولازالت العديد من المقابر الجماعية للمئات من الشهداء لم يتم الكشف عنها بعد، والنظام يعلم جيدا مكانها. لكن حجم الجريمة يتجاوز بكثير ما ذهبت إليه بعض التقارير الحقوقية أو الرسمية (هيئة الإنصاف والمصالحة)، لأن إطلاق الرصاص عمّ كل أحياء المدينة وفي كل شارع وزقاق، كان هناك قناصة يطلقون النار على كل من ظهر أمامهم سواء كانوا نساء أو رجالا أو أطفالا أو شيوخا أو شبابا…
لقد ظل صوت الرصاص يسمع لمدة يومين متتاليين من الانتفاضة، بحيث كانت هناك عدة محاولات من لدن المناضلين لإعادة تنظيم الانتفاضة ومواجهة الجيش، لقد كان الشعب غير خائف من الرصاص وكان الناس يواجهون الجيش من السطوح بالحجارة بوسائلهم البسيطة والتي مكنتهم من دفع الجنود الهمجيين للتراجع، كما يحكي أحد المناضلين الذي عايشوا الانتفاضة من بدايتها إلى أن أخمدتها نيران البنادق والمدفعية الثقيلة. ويضيف أنهم كانوا يحاولون استجماع القوى وتحفيز الناس على الخروج من جديد ومواجهة الجيش، وكل محاولة كانت تنتهي بمحاصرة المكان وسقوط ضحايا جدد، إلى أن بسطت قوات القمع (الجيش والقوات المساعدة وقوات التدخل السريع..)، بعد استقدام فرقة "اللواء الخفيف"، السيطرة على الوضع الذي انتهى بإعدام المئات من الشهداء رميا بالرصاص، ودفنوا في مقابر جماعية مجهولة.
الصورة لقبور حيث دفنت رفات شهداء انتفاضة 14 دجنبر بعدما عُثر عليهم في مقابر جماعية ولم يتم التعرف على هوياتهم
واليوم، وبعد مضي 24 سنة على المجزرة الرهيبة والتي ستبقى وصمة عار في جبين النظام، لا زالت مدينة فاس، كما هو شأن باقي المدن المناضلة والمناطق المناضلة، تعيش على إيقاع الحرب المعلنة من النظام على الجماهير الشعبية وقواها المناضلة بأساليب وتكتيكات ووسائل إجرامية أكثر حدة من "العهد القديم".
تيار البديل الجذري المغربي
.C.A.RA.M

14 دجنبر 2014



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق