2015/04/21

الرفيقة إيناس محمدي// نعم للنقد.. ولا تشويه النقد

الأفكار ليست سلعة بمقدور الإنسان أن يحولها لملكية خاصة، سواء في المجال العلمي أو السياسي أو الأدبي أو الصحافي.. بالرغم أن هناك من الأفكار والآراء ما قدم قائلوها ضرائب غالية وصلت حد تقديم حياتهم ثمنا لقناعتهم بصحة أفكار، أو آراء، عبروا عنها سواء في العلم أو الفلسفة أو السياسة أو مجالات أخرى، وهو ما
يسجله التاريخ المدون بمداد الفخر ويضع أصحابه على لائحة عظماء التاريخ البشري، دون أن يعني ذاك أنه لم تجر حوادث منفلتة عن قلم المؤرخ. وفي نفس الوقت ليس مقبولا بتر التوقيع من رأي ما أو عمل ما بالرغم من أن التوقيع لا يعني حق الملكية، بل يعني تقديرا لشرف التقديم للعمل وخصيصا لما تكون الأعمال من حجم تلك التي تعبر عن جدارة السبق في اقتحام موقعيها لحرائق النيران في أوج اشتعالها من أجل مواجهة لهيب أعداء الإنسانية.
وهذا لن يعني يوما ما بأن الفكرة أو الرأي ملك قائلها أو قائله. لأن الفكرة بمجرد خروجها للتداول بين الناس، سواء عبر النشر أو بطرق أخرى، تصير ملكا للإنسانية وثمرة من الثمرات لتطورها الجمعي. كما أن الفكرة ليست وحيا يوحى للشخص بل هي نتيجة تطور حاصل داخل الواقع الذي يعيشه في مرحلة تاريخية محددة والذي تساهم فيه البشرية جمعاء عبر تراكم تاريخي كبير ويكون قائلها ومكتشفها ذاك الشخص الذي له شرف اكتشافها أو التعبير عنها لأول مرة بعد نضج شروطها.
لهذا يعد بتر توقيع المكتشف أو المعبر دليل ضعف الصدق والأمانة في حالة ما إن كان ذاك السلوك، أي البتر، غير محكوم بخلفية مقيتة. وإن كان أي كاتب أو مفكر أو عالم أو سياسي أو أديب أو صحفي أو فنان..، أو أي كان له علاقة بالرأي والفكر والعلم بهذه الطريقة أو تلك وفي هذا المجال أو ذاك، يرغب في جعل الفكرة فكرته أو الرأي رأيه، أي ملك خاص به يكون لزاما عليه الاحتفاظ بالفكرة أو بالرأي في ملفاته الخاصة أو مكتبه الخاص ودون أن يتعرض للإتلاف أو للتداول ولو بين اثنين، لأن في ذلك ما يفسد عملية الحفظ ويفتح الأبواب لسقوط الملكية الخاصة. ومنه أقول أن ما يكتب وينشر هو ملك الجميع يسقط عنه حق التصرف الخاص ويكتسب صلاحية التصرف الجمعي وذلك بقوة طبيعة المجتمع الإنساني وليس بقوة قانون من القوانين الوضعية، ولو أن الأنظمة الرجعية تربط المسؤولية بالكاتب تجعله هدف نيرانها إن كانت أعماله لها تأثير على استقرارها. لكن السؤال هو هل هناك سلوك محدد أو طريقة محددة للقراء أو لمن التقط الفكرة للتعامل معها؟ وبسؤال آخر هل هناك تحديد ما لكيفية التصرف في الفكرة التي يقدمها لنا كاتب أو عالم أو سياسي أو غيرهم لأول مرة بعد خروجها للتداول؟ ومنه أضيف هل غير مسموح بالتفاعل لمن لم يفهم الفكرة؟.. قد أقول وأحسم أنه ليست هناك موانع ولا حواجز تلزم الناس أو تحدد لهم كيفية التفاعل أو طريقة التصرف أو شروط ملزمة للتفاعل مع أي فكرة أو رأي صادر عن أي كان، سواء كان المتفاعل غير مستوعب للفكرة أو يختلف معها، أو يبدي رأيه فيها انطلاقا من مستواه وتكوينه وفهمه أو انطلاقا من مصالحه الخاصة مهما كان هذا المستوى أو التكوين للفرد المتفاعل أو أن يكون الرأي المتفاعل صحيحا أو خاطئا.. والتفاعل أو حق التصرف لا يعني تحطيم، أو دعوة لتجاوز أخلاق الصدق والنقل للفكرة أو الرأي الأصلي كما هو عند صاحبه، بإحالاته الموثقة، أو ببناء أفكار نقدية غير مسؤولة مثل الافتراء والكذب والتشويه لخدمة خسيسة ومقيتة أو حتى بدون خلفيات.. كما أن التفاعل لا يعني صواب المتفاعل الناقد وصحته كشرط للتفاعل، لأن الناقد قد يكون صائبا وقد يكون خاطئا، ولكن الواجب الأخلاقي يستدعي الصدق في التفاعل الى أن يبدو للمتفاعل الناقد الخطأ بكل وضوح انطلاقا مما يكشفه الواقع في صيرورته أو انطلاقا من انتقادات معاكسة محملة بالحجج والدلائل الدامغة والمقنعة. وعلى هذا الطريق نسلك المسلك الصحيح في ممارسة النقد في التعامل مع الفكر والرأي دون أن يعني ذلك أننا قد وضعنا حدا نهائيا للنقد أو للنقد الذاتي، لأن مبدأ النقد والنقد الذاتي غير محصور في حدود الفكر والرأي بل يمس جل ميادين النشاط الإنساني ولا يعرف المقدس ولا المراتب ولا هو محصور على مستوى من مستويات الشخص الممارس للنقد أو مكانته.. ولهذا نقول إن النقد ليست له موانع وحواجز فهو يقتحم القصور والمساجد والكنائس.. مثلما يقتحم الأحزاب والنقابات والمؤسسات العلمية والأدبية وغيرها، فهو وسيلة مكنت الإنسان عبر الصيرورة التاريخية، وبفضل تضحيات عظماء الفكر وعلى رأسهم من قدموا أرواحهم فداء لأفكارهم، من تقدم المجتمعات الإنسانية والرفع من مستوياتها المعرفية. لذا فهو وسيلة للتقدم، وتشويهه هو تشويه لهذه الوسيلة، وإسهام في تأبيد التخلف والرجعية..
فمعيار صحة النقد أو نقد النقد هو في النظر إليه ولمدى إسهامه في التقدم أو تأبيد التخلف قبل البحث في ماذا سدادته من خطئه، أي البحث في مدى تقديم النقد كإسهام بهذه الطريقة أو تلك في بناء المعرفة العلمية برفع طرف الانتقاد أو في مدى تشويهه للنقد وتحويله لميدان الهجوم على الأشخاص موضوع الانتقاد لتحطيمهم وهو تشويه لمبدأ النقد، ومنتوج لا تخجل منه سلة المهملات، أما التاريخ فله كلمة أخرى. ولهذا أتساءل: هل يمكن اعتبار رفض أو رد على نقد موجه لفكرة ما أو لأفكار ما بالقول إن الناقد أو النقاد بعيدون عن "الممارسة" وعن "حرائق الميدان"، مثلما هو التعبير/السند المتفشي وسط بعض العشائر على مواقع التواصل الاجتماعي، دون الدحض للنقد المقدم بكل ما يستلزم من الحجج والدلائل على خطأ الناقد، نقدا أم تشويها للنقد؟ بالتأكيد أن لا شيء يعلو فوق الحجة والدليل وعلى التعبير الدقيق عن الفكرة أو الرأي والمبني بطريقة علمية. فالناقد الذي يتبع طريقة سليمة في نقده يساهم بشكل فعال في تصحيح الأفكار لدى الناس بغض النظر عن قبول المنتقد لفكرة الناقد لتصحيح أفكاره وتقديم نقد ذاتي واضح بعد اكتشاف أخطائه، من عدمه. لهذا لا تعد حرائق العبارات للرد على النقاد بنقد مضاد أو ببحث جدي عن الرأي أو الفكرة الحق سوى بالقدر الذي تعبر عن دعوة لترك سكان المعبد لدفن أمواتهم كيفما شاؤوا، لأن النقد العلمي لا يلتفت لمشاعل وبراكين العبارات ولضجيج طبول أهل العشيرة من خلفها في حرب شعارها انصر أخاك خاطئا أو صحيحا ضد الناقد ولو أن مثل هذه الحرب لا تحرك ولو شعرة على رأس أي ناقد، فبالأحرى أن تموه العلم، بل إن النقد العلمي يشتغل على، ويتفاعل مع كل بناء يرتكز على تحليل للوقائع الحقيقية وعلى مدى سدادته من خطئه دون أن تتنازل غالب الأعمال عن ملح الكلام.

  20 أبريل 2015



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق