17‏/11‏/2018

يوسف وهبي // الثورة الالمانية..1918- 1923


شهر نونبر من سنة 1918، عام واحد بعد ثورة أكتوبر بروسيا، ينتفض الجنود والعمال
الألمان أجبرت القيصر "فيلهايم غيوم" على الهروب. هل هي بداية الثورة العالمية؟ ستة أشهر بعد ذلك سيتم إعدام القادة الثوريين الرئيسيين، وحرمت الحكومة " الاشتراكية" مجالس العمال والجنود من جميع السلطات.
• قوة الحركة العمالية الألمانية.
عشية الحرب العالمية الأولى، الحركة العمالية الألمانيةتعتبر آنذاك، الأقوى على المستوى العالمي، حزبها الاشتراكي الديمقراطي يشكل 30% من مجموع المقاعد بالبرلمان، ب 500 ألف منخرط ويرتكز على جهاز تنظيمي ضخم ب 15 ألف مداوم وعشرات الصحف، أهمها الجريدة اليومية القومية(vorwarts)، بالإضافة إلى الهيمنة النقاببة وااعشرات من الجمعيات الرياضية، الثقافية والتعاونية. هذا التطور نابع من النمو السريع للرأسمالية الألمانية وبالتالي للطبقة العاملة، بالاضافة الى توحيد الدولة الألمانية. سنة 1914 ألمانيا تحتل المرتبة الأولى عالميا بقطاع الحديد والصلب والكيماويات، حيث التركيز الاقتصادي وصل إلى نسب غير مسبوقة، مثل شركات " تايسن" و" كروب" التي تحكم المدن والمصانع العملاقة.
بخلاف هذا النمو، فإننا سنشهد ظهور " الارستقراطية العمالية"، والتي تنعمت من خلال القوانين الاجتماعية وتأثير الحزب الاشتراكي الديموقراطي الذي طالب بالاصلاحات حيث أن النمو الرأسمالي رافقه تطور بنظام الأجور مما انعكس على المستوى المعيشي. فلماذا لا يكون الأمر كذلك دائما؟ ما الهدف من القتال من أجل الثورة الاشتراكية، إذا ٱستطعنا الحصول على سلسلة متواصلة من الاصلاحات؟ هذا هو الاتجاه الذي يعبر عنه " إدوارد بيرنشتاين" منذ سنة 1898، مع نظريته عن مسيرة تدريجية من الرأسمالية الى الاشتراكية، دون ثورة أو أزمة.
رسميا، تمت إدانة هذه الأفكار من طرف مؤتمرات الحزب الاشتراكي الديموقراطي، وبقيت هذه الأفكار عبارة عن تعبيرات نظرية من النشاط اليومي الفعلي من طرف الحزب، بل حتى "إغناصيوس اوير" كتب موجها كلامه ل"بيرنشتاين": " أنت حمار، نقوم بهذا العمل، لكن، لا نقوله". بالمقابل، كان المنظر السائد للحزب الاشتراكي الديموقراطي " كارل كاوتسكي" مازال يتحدث عن " الثورة" و " الصراع المعركة" ولا ننسى أنه برر أيضا- وخاصة- تكييف الحزب للروتين الانتخابي والبرلماني.
أما الثوريون، فقد كانوا يشكلون أقلية بالحزب الاشتراكي الديموقراطي، كانت من ضمنهم المنظرة العظيمة من أصل بولوني " روزا لوكسمبورغ". في سنة 1898، وعندما كان " كاوتسكي" يحاول التوصل الى حل وسط مع " بيرنشتاين"، نشرت " لوكسمبورغ" كتابها الرائع " إصلاح اجتماعي أو ثورة" وهو احد أفضل الحجج ضد الإصلاحية، حيث تدافع عن المنظور الثوري الماركسي وتدحض من خلاله افكار " بيرنشتاين" ببراعة حول نهاية الأزمات الاقتصادية والانتقال " التدريجي" نحو الاشتراكية. بعد ذلك، انتقلت " لوكسمبورغ" لمواجهة، ولسنوات، إصلاحية "كاوتسكي" الغير المعترف بها من طرفه، في وقت كان " لينين" لا يزال يعتبره أحد المعلمين العظام.
ومع ذلك، فإن الجناح الثوري للحزب الاشتراكي الديموقراطي، لا يقوم في أي وقت باتخاذ اتجاه منظم. الأسوء، بإسم " عفوية" الطبقة العاملة ترفض " لوكسمبورغ" الحاجة الى منظمة ثورية مركزية (كما دعا إليها لينين)، وسيتم دفع ثمن باهض عن هذا الخطأ وعلى نحو كبير.

• الحرب العالمية

على الرغم من السياسة الاستعمارية الوحشية، وصلت الامبراطورية الالمانية في وقت متأخر جدا في السباق لغزو الاسواق. في عام 1914، خنق اقتصادها القوي أغلال سوقها الوطنية، فقط، "مشاركة جديدة للعالم" ستسمح لها بالحصول على حصتها من الاسواق الخارجية ومصادر المواد الخام التي تحتاجها. من جانبهم تنظر البورجوازيات الفرنسية والبريطانية الى مواقف المانيا بخصوص تركيا وافريقيا. كل شيء كان يوحي باستعدادات للحرب العالمية الاولى. عندما اندلعت الحرب في غشت من عام 1914، وقفت القيادات الاصلاحية لمعظم الاحزاب الاشتراكية وراء البورجوازية الخاصة بكل منها. يوم 4 غشت، صوتت المجموعة البرلمانية للحزب الاشتراكي الديموقراطي الالماني بالاجماع على اعتمادات الحرب، حتى "كارل ليبكنخت"، النائب الثوري، يوافق على الالتزام وعلى مضض بالانضباط لمجموعته البرلمانية. يا لها من صدمة ضخمة. يقرأ "لينين" عدد " فوغفاختس" الذي أعلن تصويت البرلمانيين الالمان، واعتقد في البداية أن ذلك كان مزيفا، يمكن فهم ذلك لأنه، على مدى عقد من الزمان تقريبا، توقعت الاممية الثانية- التي تجمع الاحزاب الاشتراكية في جميع أنحاء العالم- اندلاع هذه الحرب، وأعلنت أنها ستستجيب للاضراب العام الثوري.
تنبع هذه الخيانة من منطق" الاصلاحية: اذا لم تتم الاطاحة بالرأسمالية، يمكن تحسينها تدريجيا، يجب القبول بالالتزامات. الاصلاحيون الالمان يبررون الحرب باسم الدفاع عن حقوق العمال ضد قيصر روسيا، في حين أن قادة الفرع الفرنسي للاممية العمالية وقادة الكنفدرالية العامة للشغل، يتحدثون عن " حرب القانون" للدفاع عن الوطن، عن الجمهورية، عن الاممية" وحدهم الاشتراكيون الروس والصرب يعارضون الموجة القومية، بعد أن تخلى قادتهم عنهم، وتم رمي عمال اوربا بالخنادق لصاح بورصات لندن وباريس وبرلين.

• المعارضة الثورية للحرب.

في صيف عام 1914، تجمع عدد قليل من المعارضين حول "روزا لوكسمبورغ" و "كارل ليبكنخت"، فأسسوا المجموعة الاممية، ثم رابطة سبارتكوس، ما فتئوا يؤكدون على الصلة ما بين الاصلاحية قبل الحرب والخيانة التي وقعت يوم 4 غشت، بل يصرون على الحاجة لأممية جديدة.في دجنبر 1914 كان "ليبكنخت" العضو الوحيد في الرايخساغ يصوت ضد تجديد اعتمادات الحرب، وهذه اللفتة كان لها تأثير هائل على ظهور الاممية الثورية. أبريل 1915، نشرت المجموعة أول صحيفة لها، وهي مجلة" الأممية"، أستعيض عنها ب " رسائل سبارتكوس"، التي نشرت سرا وأرسلت الى ما يقرب ثلاثون ألف قارئ. ومع ذلك فالسبارتكيون حدوا من نشاطهم حينما اعتمدوا على شبكة من المراسلات بدلا من اعادة تجميع الثوار وتنظيمهم وتزويدهم بالبرنامج والتوجيه. انه لمن المؤسف أن العديد من الجماعات الثوريو ظهرت في ألمانيا بمقابل الحرب والسياسات الشوفينية بالحزب الاشتراكي الديموقراطي، انشقت عنه لتشكيل منظمات صغيرة، كانت سبارتكوس من بينهم، وهو ما كان له تأثير على أغلبية الطبقة العاملة. في نفس الوقت يظهر "المندوبون الثوريون"، وقد نظمت هذه المنظمات السرية والتنسيقيات على المستوى الوطني داخل النقابات الجماهيرية سنة 1917 عشرات الالاف من العمال المكافحين.

• انقسام الحزب الاشتراكي الديموقراطي

على مدى الاشهر والسنوات، أدرك بعض قادة الحزب تزايد عدم شعبية الحرب، وبدؤا في انتقاد سياسة الحزب، لكن لم يكن وازعهم هو انهاء الحرب للاطاحة بالرأسمالية، لكن، للحصول على توافق الأطراف المتحاربة عن طريق " سلام من دون الضم" للعودة الى الوضع قبل عام 1914، يعني الى الحالة التي أدت الى الحرب! بعضا من أؤلئك "المسالمين" على شاكلة "كاوتسكي" بألمانيا أو "لونغيه" بفرنسا، انتقلوا الى التنظير أو تبرير دعمهم لحروب دفاعية، انهم يعارضون حرةب هجومية. ماهذا السخف!
حرب "هجومية"، عندما تخسر تتحول الى حرب "دفاعية"، بالاضافة الى ذلك، ففي عام 1914 اذا كانت ألمانيا هي من "هاجمت" فرنسا وكسرت السلام، فذلك لأن هذا السلام هو لمصلحة الامبريالية الفرنسية، التي كانت قد تمكنت من تأمين أكثر المستعمرات من ألمانيا التي شنت من خلال الحروب" الهجومية" من أجل الغزو الاستعماري.
على الرغم من تناقضات واعتدال هؤلاء القادة "المسالمين"، وبرغم كون معارضتهم تتعزز وتتقوى بمواجهة قيادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي، الا أن دعم هذه القيادة للحكومة بنهاية المطاف عدل بطرد وابعاد جميع المعارضين بداية عام 1917، " دعاة السلام" مثل "كاوتسكي" و "بيرنشتاين"، والثوار مثل "ليبكنخت" و"لوكسمبورغ"، كلهم أي المطرودين اجتمعوا لتأسيس الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل، الذي يحافظ على برنامج الحزب قبل عام 1914، والذي يظل فيه "سبارتكوس" اتجاها غير رسمي.

• ثورة نونبر

في خريف عام 1918/ كان من الواضح أن ألمانيا ستخسر الحرب، اخر هجوم كبير كان بالربيع على فرنسا وقد كان فاشلا. حلفاؤه البلغاريون، العثمانيون والهنغاريون النمساويونأبدوا ترددا وانهزاما. وهم ما دفع هيئة الاركان الالمانية لتسليم مقاليد السلطة للمدنيين، فالأمر متروك لهم للتفاوض على "سلام موات" في ظل ظروف عسكرية كارثية ولضمان اوسع قاعدة ممكنة. قررت الحكومة الجديدة تعيين وزراء اشتراكيين ديموقراطيين لأول مرة.

• الجمعية التأسيسية

فبينما كان الحزب الاشتراكي الديموقراطي يفعل ما بوسعه للحفاظ على الامبراطورية، فانه تواجد على رأس الحكومة "الثورية"، "ايبرت" الرئيس الجديد للحكومة يقول: "لا أريد هذه الثورة، أنا أكرهها مثل الخطيئة". في حين بالنسبة لملايين العمال الالمان الذين يستنشقون كل صباح الحياة السياسية، فان الحزب الاشتراكي الديموقراطي لا يزال هو حزب المعارضة الرئيسي كما كان قبل عام 1914. بالاضافة الى أن الاختلافات مابين الحزب الاشتراكي الديموقراطي الالماني، والحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل لازالت غير واضحة، وكلاهما يعتبران " اشتراكيين".
ولاستعادة "الحالة الطبيعية" للنظام البورجوازي في أسرع وقت ممكن، أعلنت الحكومة عن الانتخابات القادمة للجمعية التأسيسية، الغرض من هذه المناورة هو حل مجالس العمال والجنود والحاقهم باللعبة البرلمانية.وعن طريق المزيج من التهديدات والمناورات، تمكن قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي من اقناع المؤتمر العام المنعقد ببرلين يوم 16 دجنبر بالانتخابات من أجل الجمعية التأسيسية والتقليص المخيف لسلطة المجالس لصالح الحكومة.
لكن قادة الحزب الاشتراكي الديموقراطي لم يكتفوابهذه المناورات الانتخابية لسحق الثوار، انهم بحاجة لقوة مسلحة، ذلك أن الثورة قد انهكت الجيش النظامي. أما الوزير" نوسكه"، الذي أعلن بنفسه بأنه " كلب متعطش للدماء" قد بدأ بتشكيل " فيالق" المتطوعين المؤلفة من الضباط وضباط الصف المعادين للثورة سياسيا، ومجهزين بشكل خاص لقتال الشوارع.

• ميلاد الحزب الشيوعي الالماني.

منذ ثورة نونبر، اعترف "السبارتاكيون" أخيرا بالحاجة الى منظمة ثورية مركزية، لكن، بدلا من أن يتشكل الاتجاه الثوري من داخل الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل والالتحاق بعشرات الالاف من العمال المتقدمين ومن ضمنهم المناديب الثوريين، فانهم انقسموا لانشاء الحزب الشيوعي الالماني، وأحاطوا حولهم المجموعات الثورية الصغيرة التي تشكلت ابان الحرب، هاته المجموعات التي لم تلتقط من الثورة الروسية سوى تمرد اكتوبر واقتناعهم بأن السياسة الثورية الصالحة الوحيدة هي "عمل فوري". بنهاية دجنبر، كان المؤتمر التأسيسي للحزب الشيوعي الألماني بغالبيته اليسارية المتطرفة، قد فرض على القيادة السبارتكوسية بمقاطعة الجمعية التأسيسية.( انه من الخطأ حيث الجماهير ستصوت)، بالاضافة للانقسام النقابي ورفض المركزية الديموقراطية. ورغم كل الحجج التي قدمت من طرف كل من "روزا لوكسمبورغ" و"كارل ليبكنخت"، الا أنها فشلت في تغيير اتجاه المناديب.وكنتيجة لذلك، فان تأسيس الحزب الشيوعي الألماني يعطل غالبية الطبقة العاملة.
انها فرصة للعودة الى "اسطورة" أن البورجوازية والفوضويين المتحلقين حولها واعتبارها اشتراكية "ديموقراطية" على عكس اشتراكية لينين " السلطوية" أو حتى " الاستبدادية". طوال معظم وقتها دافعت " روزا لوكسمبورغ" بشكل فعال عن المواقف المعادية " للمركزية الديموقراطية"، لكن، في مأزق "العفوية" ابان ثورة نونبر، أمضت الأشهر الأخيرة من حياتها في تنظيم الحزب ليكون قريبا من النمودج اللينيني. في حين أن كتاباتها النقدية للثورة الروسية لم تنتشر الا بعد موتها، كسلاح موجه ضد الأممية الشيوعية، على الرغم أنها رفضت نشرها موضحة أنها لم تكن على بينة حين كتابتها.
ومع أن موقفها من الجمعية التأسيسية وضرورة المشاركة في الانتخابات لعدم القطع مع الجماهير، الا أنها شددت مرارا على دورها الرجعي الذي يمكن أن تلعبه اذا ما كان موجها ضد المجالس. وبرغم أن الفوضويين والاصلاحيين حاولوا استخدام "روزا لوكسمبورغ" ضد البلشفي، الا أنها ظلت ماركسية ثورية حتى مماتها.

• تمرد يناير.

وتحت ضغط تصفية الثورة، فان قادة الاشتراكي الديموقراطي ضاعفوا الاستفزازات، الصحافة الاشتراكية الديموقراطية تدعو الى قتل "لوكسمبورغ" و "ليبكنخت". في 4 يناير، أعلنت الحكومة اقالة رئيس شرطة برلين" اميل ايكهورن"، وهو عضو في الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل.لتنطلق حملة تضامن من طرف الحزب الاشتراكي الديموقراطي المستقل والحزب الشيوعي الألماني، وقد تجاوزت الجماهير المنتفضة كليا المنظمين، وبفعل الحماسة، تساءلوا ان كان بوسعهم الاطاحة بحكومة" ايبرت"، بعد ساعات من التردد، "ليبكنخت" دون أن يستشير حزبه ، يلتحق بهذا الخيار ويعلن الانتفاضة.
انه خطأ، وعواقبه كارثية، الجماهير تنتفض لمؤازرة "ايكهورن"، لكنهم لم يكونوا على استعداد للاطاحة ب "ايبرت". بالاضافة الى ذلك، كانت برلين معزولة تماما والتمرد المحدود بالعاصمة لا يمكن الا أن يؤدي الى مجزرة، في هذه الظروف على غرار "أيام يوليوز" من سنة 1917 في روسيا، كان دور الحزب الثوري هو احتواء حماسة الطليعة موضحا لها الحاجة لحشد الجماهير للبلاد. حكومة "ايبرت" تقفز، مستغلة الأوضاع لسحق الانتفاضة من طرف الفيالق، ثم القبض على " روزا لوكسمبورغ" و" كارل ليبكنخت"، والذين اعتقلوا من طرف ضباط الصف الملكيين بناء على أوامر الحكومة. وليتم اغتيالهم وبنفس الطريقة التي تعرض لها رفيقهم بالحزب الشيوعي "ليو جوغيشس" عن طريق قطع الرأس.
ومع ذلك، حتى لوهزمت، فان الثورة الألمانية لم تنته بعد، موجات ثورية أخرى قادمة، ومن هذا المنظور، تبقى مهمة بناء الحزب الثوري الجماهيري ماثلا أمام ورثة سبارتكوس.



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق