في الرابع عشر من الشهر الجاري تحل ذكرى انتفاضة دجنبر الخامسة والعشرين، الذكرى التي نسترجعها بألم بالنظر الى حجم الضحايا والشهداء الذين راحوا نتيجة البطش الممنهج ضد الشعب المغربي. إنتفاضة كانت فاس بالخصوص مسرحا لها،
ولعب فيها النظام القائم دور البطولة. كانت فصلا تراجيديا تقمص فيه الوحش دور البطل الضحية وراح يفتك بالأبرياء الذين تقمصوا بالرغم منهم دور الظالم الغاشم الذي يستحق التنكيل والتقتيل بدون رحمة. كل ذلك حتى يسود السلم والسلام ونحافظ على النظام والانتظام!!! التفقير والبطالة والتهميش واللاعدل والتسلط والإستغلال...مقابل البذخ والثراء الفاحش وامتلاك السلطة وغياب أية سياسة ذات ابعاد اجتماعية، حتى ولو كانت عرجاء...كلها عوامل أدت الى إحتقان وغليان شعبي، لا ينتظر غير توفر ظروف ملائمة حتى تعبر عن نفسها وإن بشكل لا واعي. وهو ما ترجم في الرابع عشر من دجنبر 1990 من خلال انتفاضة عفوية شعبية عارمة عنوانها السخط والرفض للواقع والتّوق إلى الإنعتاق والتحرر. بحسها النقدي، استجابت الجماهير المسحوقة لدعوة الإضراب العام وعملت على إنجاحه، بالرغم من تهديدات النظام واذنابه. الشيئ الذي يعتبره تحد سافر لأوامره من جهة وتجميد لعجلة الاقتصاد التي لا تخدم الا مصالحه هو. مصالح التحالف الطبقي المسيطر. بالرغم من الوعد والوعيد عبر الابواق الإعلامية فإن ذلك لم ينفع في ثني الجماهير الشعبية عن إنجاح إضرابها التي استغلت من خلاله، فرصة التعبير عن سخط وايصال رسالة مفادها تكسير عصا الطاعة والولاء، في تجاوز واضح لسقف النقابتين الداعيتين للإضراب. وهو ما جعل النظام يلتجئ الى القوة والعنف لِلَجْم العنفوان. إنها طبيعته الدموية التي لن ينفك عنها إلا بتفكيكه. القمع ثابته البنوي وعموده الفقري الذي يجعله واقفا متصلبا كفزاعة، في وجه المطالبين بالتغيير. انتفاضة دجنبر ليست ذكرى وفقط، إنما هي درس تاريخي للنضال وللتضحية. درس يمكننا من الكشف عن الوجه الحقيقي للعدو الطبقي، والحدود القادر على وصولها في حالة ما تعرضت مصالحه الطبقية للتهديد والخطر. فهو قادر على البطش بأن يقتل في اليوم الواحد المئات ويسجن ويعطب الآلاف. كما أنه وقادر على طمس معالم جريمته البشعة من خلال المقابر الجماعية السرية، ثم إنكاره لهذه الأفعال الخسيسة بأكاذيب مفضوحة. وذلك بنقل الصراع إلى المستوى الايديولوجي التي تُسهل عليه تزييف الحقيقة من خلال رصه لترسانته الإعلامية التي تلبسه لباس الحمل الوديع، وأيضا استثماره للقنوات الإديولوجية الأخرى (المسجد، المثقف، النقابات الصفراء...) لكي تفتك بما تبقى من الوعي. درس وليست ذكرى فقط، لأنها أبانت عن الحركية الكامنة داخل المجتمع وعن رفض الجماهير الشعبية المبطن تجاه النظام وكل من لف لفه. حركيّة لا يمكن لمسها إلا إذا نظرت بشكل تاريخي، آنذاك ستلاحظ بان الغليان الشعبي لايهدأ وأن التاريخ مليئ بالإنتفاضات والتجارب التي تعبر في جوهرها عن رفض الواقع والرغبة الأكيدة في تغييره. وكيف أن هذا النظام البليد تحكمه نفس ردود الأفعال الوحشية من أجل المجابهة، والتي لا تخرج عن القتل بدون هوادة والتركيز على الأعطاب الجسدية والنفسية وتلفيق التهم والزج في السجون بدون محاكمات، واستعمال نعوتات من قبيل "الشرذمة، المرتزقة، الاوباش، ذوي السوابق العدلية..." وكذلك الإتهام بالعمل لأجندات خارجية التي تهدف الى إثارة البلبلة والقضاء على الاستقرار...كل ذلك ضدا على من يطالب بحقه. درس وليس ذكرى فقط، لأنها علمتنا أن في مثل هذه اللحظات الحاسمة يظهر العدو من الصديق، من يتشدق بالشعارات ومن ينخرط عموديا في الصراع. علمتنا كيف تنفض كل الأحزاب والإطارات بما فيها الداعية للإضراب من جانب الجماهير الشعبية حتى قبل أول طلقة، تاركين إياها تجابه مصيرها بعفوية وبلاهوادة، الرصاص الحي مقابل الصدور العارية. ثم راحت تنتهز وتساوم. علمتنا كيف أن الجماهير الشعبية غير المستفيدة من علاقات الانتاج الراهنة، تصبح عند هاته اللحظات صخرة تنكسر عليها كل الإفتراءات والإدعاءات...تصبح ثورية في الزمن الثوري. الانتفاضة الدرس، علمتنا أنه في غياب المعبر الحقيقي عن التطلعات الشعبية، سيفقد الشعب، في إطار صراعه الطبقي، المعركة. طبعا المعركة وليس الحرب. المعبر الذي يؤطر الصراع ويديره تحت شعار تكسير الأغلال ونفي الإستبداد والإستغلال، وبناء المجتمع الحر الذي يحتضن الإنسان الحر ويفتح الافاق الرحبة أمامه لكي يعيش إنسانيته في كليتها وكونيتها. الذي يجب ان نستخلصه من الذكرى إذن، هو إستيعاب الدرس والعمل على الاستفادة من الأخطاء في أفق تجاوزها. والمرور إلى مرحلة البناء الواعي للأداة الثورية القادرة على تحقيق القفزة النوعية، واستغلال التراكمات الكمية التي حققها الشعب المغربي قبل وبعد الاستقلال الشكلي، في ربط نضال الماضي بنضال الحاضر والمستقبل. بناء الذات التي ستنصهر فيها كل التطلعات الفردية والطبقية، والقادرة فعلا على صياغة الجواب العلمي المناسب لكل مرحلة وكل لحظة من لحظات الصراع الطبقي. الذات الكفيلة بتركيز وجمع بؤر النضال وتوجيهه في الاتجاه الواحد...الثورة. عشرين فبراير 2011 وإنتفاضة دجنبر 1990 وقبلهما انتفاضة يناير 1984 وانتفاضة يونيو 1981 وإنتفاضة مارس 1965 كلها تعبيرات عن الحركية والغليان الشعبي، إنها دروس لا تنضب في الصراع الطبقي...وفي كل مرة يغيب عنها المعبر القادر على تثوير اللحظة وقلب موازين القوى لصالح الأغلبية.
شارك هذا الموضوع على: ↓