تمر التجارب في صمت، ومنها الأقرب الينا من حبل الوريد (تجارب شعبنا الغنية)،
و"تموت" الدروس والعبر. والنتيجة مراكمة الفشل وتكرار الأخطاء وبصيغة أسوأ. واستحضار بعض التجارب الناجحة، كثيرا ما تم بصيغة الافتخار وتأكيد الانتماء اليها؛ أما التجارب الفاشلة فتم تناولها بقلم الحسرة والأسف، وإن بروح الوفاء ورد الاعتبار. وهكذا دواليك.. وحتى في حالة بلورة بعض الخلاصات، لا يتم الاشتغال على ترجمتها في الممارسة السياسة، وتبقى شعارات تتردد في كل مناسبة كنوع من العزاء وطمأنة الذات. ومن الغباء المسيطر على أذهاننا الاحتماء بالتجارب السابقة، سواء الفاشلة أو الناجحة، والدوران بالتالي في الحلقات المفرغة. بالفعل، نستمد القوة والمشروعية من الانتماء الى التاريخ المشرق للشعوب المضطهدة وفي مقدمتها الطبقة العاملة، لكن الواجب النضالي يفرض تشريف ذلك الرصيد النضالي وتطويره فكرا وممارسة على قاعدة التحليل الملموس للواقع الملموس، وليس فقط "تقديسه" أو ترديده ليل نهار، كما هي حال القوى الظلامية مع مراجعها الصفراء.
التاريخ مليء بالتجارب القيمة قبل انتفاضة ماي 1968 بفرنسا وبعدها. لقد كانت إحدى المحطات المتميزة التي حفزت الى جانب انتفاضة 23 مارس 1965 وهزيمة 1967 وانبثاق اليسار الجديد بمناطق عدة من العالم و(...)، على النهوض بالمشروع التاريخي الذي جسدته الحركة الماركسية اللينينية المغربية (الحملم). طبعا ليس كانتفاضة طلابية فقط بقيادة الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا (UNEF)، بل كانتفاضة استقطبت العمال وفئات شعبية عريضة لمواجهة الاستغلال والاضطهاد الرأسماليين. وهو ما تحيل عليه أيضا انتفاضة 23 مارس 1965. ويكفي الانتباه الى ما بعدها، أي المسافة التي تفصلنا عنها، لندرك مدى تخلفنا عن استدراك الزمن الضائع والتقاط الإشارات المطلوبة في الزمن والمكان المناسبين. فكلما ازدادت الامبريالية وعملاؤها من رجعية وصهيونية تحكما في رقاب الشعوب، سياسيا واقتصاديا وعسكريا، كلما تقهقرت حركات التحرر الوطني، وتراجع المد النضالي رغم التضحيات السخية المقدمة.
انطلقت انتفاضة ماي 1968 قبل شهر ماي واستمرت بعد ذلك. كانت المحطة التمهيدية الأبرز في 22 مارس 1968 بجامعة نانتير تنديدا بالقمع الذي طال المسيرة المنظمة بباريس المناهضة لحرب فيتنام. تواصلت الاحتجاجات، خاصة بعد الهجوم القمعي على جامعة السربون. ونظمت بعد ذلك مسيرة نحو الجامعة الأخيرة يوم 06 ماي، شارك فيها الى جانب الطلبة المثقفون والأساتذة مطالبين بإطلاق سراح الطلبة المعتقلين وإخلاء الجامعة من الأجهزة القمعية. تصاعدت المسيرات حتى 10 ماي مقاومة شراسة القمع الذي حول الحي اللاتيني (الحي الطلابي) الى ساحة حرب. وتوجت تلك الدينامية النضالية بالإضراب العام ليوم 13 ماي بمشاركة غفيرة للتلاميذ وعمال CGT غير الخاضعين للبيروقراطية النقابية والمواقف المتخاذلة للحزب الشيوعي الفرنسي المتحالف حينذاك مع الحزب الاشتراكي، وبتنظيم مسيرة بباريس فاق عدد المشاركين فيها المليون؛ وانخرط فيها، أي في الدينامية النضالية المتفجرة، الى حدود 16 ماي عمال المصانع والمناجم والموانئ والمطارات وغيرهم، وهو ما دفع الى الدعوة لإقامة المجالس العمالية والاعتصام بالمصانع... ولمعرفة التفاصيل والخلفيات التاريخية والفلسفية لابد من العودة الى الموضوع من زوايا التوثيق المختلفة. لأن هذه اللمحة الخاطفة جرد كرونولوجي لا غير.
شكلت الانتفاضة حينه حلما جميلا اخترق كل أرجاء فرنسا والعالم، رغم تهم "التمرد" و"العفوية" وبعض الشعارات غير الدقيقة المراهنة على الطلبة والشباب عموما. انخرطت فيه أسماء معروفة من مجالات الثقافة والفن مثل سارتر ودي بوفوار ودولوز وغودار... ولم تسلم بلادنا من سحره (سلبا وإيجابا)، خاصة والزخم النضالي للحركة الطلابية أواخر الستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، في إطار الاتحاد الوطني لطلبة المغرب. وقد شكل ميلاد الحملم تجاوبا مبدعا مع روح الانتفاضة في الشق المتعلق بتجاوز القوى السياسية التقليدية، حزب التحرر والاشتراكية والاتحاد الوطني للقوات الشعبية؛ تماما كما تجاوزت "قيادة" الانتفاضة الحزب الشيوعي الفرنسي، ودون أن يجنب ذلك بعض مكوناتها تكرار بعض أخطاء الانتفاضة الباريسية، ومنها على الخصوص شعار "الشبيبة التعليمية طليعة تكتيكية" الذي رفع في ظرفية عابرة ومحدودة.
لا مجال للحديث هنا عن فشل الانتفاضة أو نجاحها. لقد خمد لهيبها بعد تشاور الحكومة مع بعض الأحزاب السياسية الموالية/المتواطئة في أواخر ماي والإعلان عن تنظيم الانتخابات البرلمانية في شهر يونيو 1968 والزيادة في الأجور وعن بعض الإصلاحات الإدارية (خطة الاحتواء). بدون شك لم تنجح في تحقيق أهدافها كاملة رغم سقفها المحدود وفي غياب قيادة عمالية منظمة وببرنامج مضبوط، وسيادة الحماس والعفوية اللذين لا يمكن إغفالهما. لكنها، أي الانتفاضة، خلخلت البرك الراكدة وطرحت الأسئلة المستفزة على كاهل القوى السياسية الثورية التواقة الى المساهمة في تحرر وانعتاق شعوبها بقيادة أحزاب الطبقة العاملة.
والغرابة تكمن في الفوز العريض لحزب الدفاع عن الجمهورية الديغولي (نسبة الى شارل ديغول، الرئيس الفرنسي آنذاك) في الانتخابات البرلمانية (الجولة الثانية) ومعه مرشحي جيسكار ديستان المستقلين (اشتراط 21 سنة بالنسبة للناخبين، شرط إقصائي للشباب). أليس في الأمر ما يثير شهية البحث، ليس فقط لفهم ما جرى، بل لتفادي تكراره وبأكثر مأساوية؟
ولمكر الزمن، ماذا حصل بعد انتفاضة ودينامية 20 فبراير 2011 ببلادنا؟
تضحيات مشهودة ومعارك ضارية، والنتيجة انتخابات تشريعية مؤطرة بدستور ممنوح وفوز حزب العدالة والتنمية وأحزاب ناهضت 20 فبراير، انتفاضة وحركة.. إنه فوز النظام في آخر المطاف...
مشكلتنا أننا نتيه في اللحظة ونردد الشعارات دون العمل على تنزيلها. كثيرا ما نؤدي ثمن أخطائنا غاليا. إما قمعا وتنكيلا وإما غرقا "مريحا" في الهامش وفي أتون الحروب الصغيرة..
كانت انتفاضة ماي 1968، وتلتها انتفاضات وأخرى بالمغرب وخارج المغرب...
وكل انتفاضة أو ثورة، "وحنا دايما فرحانين"، وفقط "فرحانين"...وأي فرح!!
شارك هذا الموضوع على: ↓