حتى سنة 2002، كنت لا أميز بين الشاون وشفشاون. كنت أعتقد أن هناك الشاون
وهناك أيضا شفشاون. وما كان يقربنا من هذين الاسمين أو أحدهما هو مهرجانها الشعري بصيته الوطني. وإن كان ذلك يدل على شيء، فإنه يدل على محدودية الإلمام بتاريخ وجغرافية بلادنا. نعم، أنا جنوبي، ابن مدينة أو منطقة مراكش، ولم يسبق لي حتى ذلك الحين زيارة شمال المغرب ولا شرقه، حيث كنا نخيم صيفا وإذا أتيحت لنا الفرصة بمدينة الجديدة. لكن لن يشفع لي ذلك لجهل جزء منا له رصيد تاريخي ثقيل، خاصة أن الانتفاضة الشعبية ليناير 1984 قد فتحت أعيننا أكثر على المنطقة الشمالية، والريف بالخصوص. وجهل تاريخ الشمال عموما، يفضح جهلنا لجوانب غنية من تاريخ المقاومة المغربية.
يمكن تبرير ذلك من خلال استحضار فقر الأسرة وضعف الإمكانيات والتغييب القسري لحوالي ثماني سنوات، أي فترة الاعتقال، وهي الفترة الدينامية أكثر في حياة الشباب؛ لكن لابد من الاعتراف بهزالة صبيب القراءة والبحث. وهذه الإشارة تحث المناضلين على سبر أغوار تاريخ وجغرافيا المغرب وغير المغرب. بالفعل، المناضلون ينكبون بالدرجة الأولى على التكوين النظري، لكن عدم معرفة الواقع المراد تغييره قد يفشل الهدف المنشود. وبدون شك، فمعرفة الشمال أو الجنوب أو غيرهما لا تفرض زيارتهما بالضرورة. لكن معرفة ما يكفي من المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتاريخية حولهما أمر في غاية الأهمية. وكذلك الشأن بالنسبة لمناطق أخرى من العالم. فلفهم بعض التجارب الثورية، لابد من دراسة تاريخها وجغرافيتها.
أعود الى حيث بدأت. تخرجت من مركز التوجيه والتخطيط التربوي سنة 2002، وعينت بمدينة شفشاون. وكان لابد أن أشد الرحال اليها. انطلقت من السؤال عن المدينة وموقعها، لكن في حدود بسيطة ودون إعارة الموضوع كثير اهتمام، لدرجة أني لم أحصل على المعلومات الكافية بشأنها (لم نكن حينذاك منفتحين كثيرا على الانترنيت).
اتفقت وزميلان آخران بالسفر سوية الى المدينة "الشبح". كنا ثلاثة أطر التوجيه التربوي، زميلة عينت الى جانبي بالمدينة المركز، وزميل آخر عين بمنطقة زومي (تابعة الآن الى وزان). انطلقت الرحلة الجماعية أو الثلاثية إحدى الصباحات الخريفية الجميلة من مدينة الرباط (القامرة). واصلنا الطريق وفق المعطيات أو الخريطة التي كان يتوفر عليها كل منا، مركزين بالأساس على علامات التشوير على قلتها وعلى سؤال المارة بالمناطق الآهلة. ولم نتأكد من وجهتنا والاطمئنان على أننا في الطريق الصحيح حتى مدينة وزان، آخر محطة حضرية قبل وجهتنا. وحينذاك اقتنعنا أو بالأحرى اقتنعت أن الشاون هي شفشاون وأن شفشاون (الاسم الإداري للمدينة) هي الشاون.. كانت رحلة ممتعة، حيث المناظر الجبلية الخلابة، خاصة بين وزان والشاون.
التحقنا بالنيابة الإقليمية آنذاك، واستقبلنا بحرارة السيد رئيس مصلحة التخطيط، إطار في التوجيه التربوي. كان اللقاء مطمئنا ومريحا حتى قبل أن تصل تعييناتنا الى النيابة. قضينا تلك الأمسية بشوارع المدينة وتحفتها "الخصة" وساحتها الرائعة "اوطا حمام". و"لجأنا" الى فندق متواضع لن أنسى "تواضعه" حتى الآن.
هكذا التحقت بمدينة الشاون، الاسم الذي يحب أهلها المناداة عليها به. يقول الكثيرون إن اسمها من أصل أمازيغي، حيث "أشّاون" تعني بالأمازيغية (الريفية) القرون، أي قرون الحيوانات. وهكذا استوطنت قلبي أيقونة بكل معاني الكلمة، أيقونة بأهلها وأمكنتها.. لم تكن مدينة "شبح"، بل كنت أنا الشبح. لقد شهدت الشاون فرح ميلادي الثالث، كما كانت بهجة ميلادي الثاني لحظة مغادرتي السجن..
بعد ذلك، ولأبحر بالمدينة، بل وبالمناطق القريبة منها والبعيدة، التحقت بي أسرتي الصغيرة بداية سنة 2003.
لقد عشت بمدينة الشاون، الجوهرة الزرقاء، فترة رغم قصرها تعد من بين أعظم فترات حياتي. انتقلت، لحسن حظي، من جوهرة حمراء الى جوهرة زرقاء. تعلمت منها أشياء كثيرة، واستقيت منها دروسا لا تنسى واستفدت من خبرة أهلها وغنى ثقافتهم وعاداتهم. كان لها كل الفضل في إصداري الأول في دجنبر 2006 بعنوان "مجموعة مراكش.. انتفاضة يناير 1984.. معركة الشهيدين بلهواري والدريدي"، وفي خوض تجربة إعلامية ناجحة كمدير للجريدة الجهوية "حقائق الشمال". ولا يفوتني أن أشير الى ازدياد ابني يونس بها سنة 2004. وسيبقى وأسماء أخرى عزيزة وغالية تلك الصلة الوثيقة التي تربطني بالشاون مدى الحياة..
يصعب علي في هذه اللمحة الوجيزة الحديث عن كل صداقاتي بالجوهرة الزرقاء وعن رموزها وعن أمكنتها وعن سحرها. سيأتي لا محالة أجل ذلك، والآن أعترف بجميلها وأحيي أهلها الطيبين وأشكر كل من قدم لي خدمة صغيرة أو كبيرة، كما أعتذر عن أي تقصير مني أو سوء فعل أو تدبير...
شارك هذا الموضوع على: ↓