تناسلت بشكل كبير في الآونة الأخير أشكال عدة من التفاهة، لتغزو كل وسائل التواصل الاجتماعي. سابقا كانت التفاهة تأخذ طابعا فرديا، كنا نقول لفلان وعيك أو سلوكك تافه، بمعنى ساذج أو يحمل نسبة مهمة من الغباء. كانت التفاهة نعت وصفة ننعت بها السلوكيات والأفكار غير المنسجمة أو غير المتماسكة. أما الآن، أصبحت التفاهة جزء من وعينا اليومي. وكلما انتشرت التفاهة أكثر أصبح الوعي المنطقي والجاد نشازا وحالة شادة.
من المسؤول عن التفاهة ومن المستفيد من مأسستها؟ ولماذا التفاهة حاضرة بقوة الآن؟
إن الثقافة السائدة في المجتمع هي ثقافة الطبقة الحاكمة. والوعي الاجتماعي يعكس جدليا مستوى التناقضات الاجتماعية ومستوى نضج الصراع الطبقي. فكل أطراف الصراع لها وعي يوجه مصالحها ويتماشى مع موقعها. لذا تخشى الطبقات الحاكمة تسلح الجماهير الشعبية بالوعي السياسي الطبقي حتى لا تستطيع هذه الجماهير فهم قوانين الصراع التي ستقودها إلى دك أسس الاستغلال والاضطهاد. وتبعا لذلك، تلعب التفاهة دورا في الإلهاء وتوجيه الوعي نحو ما تصبو إليه الرجعية.
لماذا التفاهة؟ ببساطة لأنها سهلة الاستهلاك ولا تحتاج إلى جهد ذهني وعمليات عقلية معقدة. كما أنها تداعب المشاعر اللحظية والآنية، إضافة لكونها تغنيك عن الجواب وعن سبل البحث عنه، بل تضللك عن المشكل وتستطيع أن تقنعك أنه ليس هناك مشكل بالأساس. وأكثر من هذا أنها سهلة الانتشار. وأفضل الأشياء المحبذة عند الأنظمة الرجعية هي أن تجد أفكارها حاضرة ومنتشرة.
من السهل على الأنظمة الرجعية رعاية ونشر التفاهة، خاصة عندما تساهم في إطالة أعمارها، مسخرة كل الوسائل المتاحة لذلك، خاصة وسائل الإعلام المملوكة. فيكفي أن نلقي إطلالة على برامج رمضان مثلا لتلاحظ الكم الهائل من الأفكار والمواقف الرجعية المغرقة في التفاهة.
بدورهم، لم يسلم الأطفال من التفاهة. إنهم عرضة لها أكثر من غيرهم. فهم يتموقعون بين رداءة المحتويات المعرفية الفقيرة والخالية من آلية النقد الموجودة في برامجهم التعليمية وبين الكم الهائل من التفاهة المستفحلة والتي تجسدها شخصيات أفلام الكرتون وبعض الشخصيات المريضة. والأخطر أن هذه الشخصيات تقدم " قدوة" لهم. إن مأسسة التفاهة هو سلاح إيديولوجي يمتلكه الطغاة لإيصال أفكارهم وثقافتهم، بل وسمومهم إلى أوسع الجماهير الشعبية. وكلما انتشرت هذه السموم أكثر، كلما تجنبت الرجعية أكثر ويلات الصراع مع نقيضها الطبقي.
أن تلجأ الأنظمة الرجعية عالميا إلى مأسسة التفاهة، وتتويج أبطالها إلى درجة طرحها في سوق المنافسة كسلعة يؤدى عنها كما تفعل شركة اليوتوب مثلا، فهو أمر نفهمه وندرك مبتغاه وخلفياته السياسية. لكن أن يلجأ بعض المثقفين "المناضلين" إلى نفس السلاح، فهنا الطامة الكبرى. ثقافة الرجعية بمضمونها الطبقي الضحل تلائمها التفاهة وتنسجم معها. لكن ثقافة المناضل لا يمكن أن تمرر عبر هذا اللباس الوسخ والنتن. فلا يمكن أن تكون التفاهة شكلا للوعي الطبقي. إن اعتماد البعض لهذا الأسلوب الوضيع يصب في نفس النهر الثقافي للرجعية.
كفانا استهتارا بالوعي الثوري.. كفانا "تبرهيش"... فحين يحتاج الواقع إلى وعي جاد ومنطقي فإنه يعبر عنه.
شارك هذا الموضوع على: ↓