03‏/09‏/2021

نعيمة البحاري// من الآلام ما يوقض الذاكرة .... وداعا أيتها الشامخات.


فى صباح يوم 7 ماي، تم تنقيلي من قاعة الإنعاش إلى قاعة العناية
المركزة، لم أكن أقوى على الحركة، كل احتياجاتي اللحظية اقضيها بمساعدة الممرضات.. كان الوقت يمر ببطء، من شدة آلام الجراحة، ومن الإنتظار.. انتظر رؤية رفيقي، وهو الذي أرى من خلال عيونه، ومشاعره، ابني ورفاقي وأسرتي وحقيقة ما يجري من تطورات ومستجدات، وهي أول زيارة مباشرة مرتقبة بعد دخولي لقاعة الجراحة يوم الثلاثاء 4 ماي 2021 وانفصالي عن العالم الخارجي.. وبعد ولوجه للغرفة، اثر السماح له بزيارتي قبل وصول موعد الزيارة، لم يبدو لي كما عهدته ولو انه حاول التمظهر بابتسامته التي يخفي بها اضطرابه ، ومن خلال أسئلة للاطمئنان علي وكأنه عادي.. ولما سألته: 

- "هل تم اخبار الرفاق باجرائي العملية، من خلال صفحتي، كما اتفقنا؟" 

حينها أخبرني: 

- "الظرف غير ملائم.. ارسلت ليهم صورتك ف الإنعاش عبر الواتساب.. رحلت أم الشهيد مصطفى مزياني فالوقت لي كنتي فقاعة العمليات.."

 نظرت في عينيه وسلمتني تذكرة السفر، فعاودتني الذكريان.. وتحت جو الآلام والحزن بدأت تتحدد ملامح تلك المرأة.. إني لا أزال اتذكر التفاصيل، وكل المشاهد والوقائع التي جرت إبان معركة الشهيد مصطفى مزياني، الحية في ذاكرتي، وكان ما يلفها ولا يترك لي فرصة ترميم الذاكرة هو تلك المرأة المتشبتة لدرجة الإشباع بالواقع والحقيقة كما تراها أمامها.. تستقبل المكالمات من أفراد عائلتها لتستقصي أحوال الرفيق مصطفى، في تلك الليلة، وكان ردها دائما:

- "مصطفى مات مصطفى مات غير كيكذبوا علينا.."

تلك الدموع المتصلبة بالداخل، في وجه الاعداء بالنهار، أخذت حريتها تلك الليلة، واجلت عيونها الموعد مع النوم إلى حين.. أحاول تهدئتها كما احاول إخفاء اضطراب صوتي، لكن لم أستطع وانا اقبض بيدها بحرارة، وسؤال بداخلي يلفني ويخنقني باعتباري أم: 

-"ماذا لو كان ابني، كيف سأتصرف؟! هل لن اصرخ؟! هل اقبل للجدران أن تأويني؟! ألا اعرف مشاعر الامومة؟!..".. 

ودعتها في الصباح لتقل سيارة الأجرة الصغيرة، مع رفيقي، في اتجاه  المركب الجامعي بفاس، ولم أكن أتوقع أنه آخر يوم أحتضنها فيه.. كنت أعدها بزيارتها كلما هاتفتها، وللأسف رحلت دون أن اف بوعدي.. رحلت رحلتها الأخيرة ولم يهدئ الآلام حتى نزل علينا خبر وفاة أمنا رقية، أم الشهيد شبادة، وظل الحزن يهبط ويدنو من اضلعنا وأبى دخول خريفه. بل تكاثرت الأحزان، قاسية، مؤلمة، غير مشفقة.. وها نحن مازلنا نتقاذف من آلام لآلام، و"وجرحنا ولا عمره دبل" (من مقطع لاحمد فؤاد نجم وغناء الشيخ إمام ). 

 فمن رحيل ام الشهيدين، مصطفى وشبادة، إلى رحيل أمنا هنية ام رفيقنا حسن أحراث المعتقل السياسي السابق مجموعة 84، يوم الأحد 29 غشت 2021.. رحلن تباعا وكانهن يلقين برحيلهن غضب رفضهن لحالة الهوان.. رفضهن للضعف رفضهن للبؤس.. 

 في السنوات الأخيرة من الجامعة كنا نناقش ضرورة تدوين تجارب شعبنا.. كانت التجارب الحية والقريبة منا تحتل الصدارة، والأولوية، في نقاشاتنا بعد حضور العديد من ذكريات الشهداء.. وأتذكر أننا خلفنا أرضية مدونة بأرشيف طلبة النهج الديمقراطي القاعدي بفاس كإطار توجيهي لاشتغال المناضلين حول الموضوع، ولا أدري مصير تلك الأرضية اليوم.. وفي مراكش موسم 95/96 كان لنا موعد مرة أخرى حول هذا النقاش.. وهنا اتذكر المدينة الحمراء وأتذكر الرفيق رضوان العيروكي والرفيق لحبيب ابن محاميد الغزلان.. وأتذكر نجمة التضحية بسخاء الرفيقة نعيمة رفيقة الرفيق حسن احراث..  

اه.. كم نحت يا مدينة الحمراء من ذكريات لا تمح، كم استقبلتنا شمسك بابتسامة وليلك بدفئ.. كم اسكنت البهجة الرفاقية فينا،.. فيك يا مدينة الشهداء تقبل بعضنا البعض في نقاشات رفاقية مسؤولة، وبجدال عميق، وبنضج، وبروح نضالية، وتعاهدنا.. فيك تصلبت روابطنا أكثر فأكثر، وكانت التضحية تتواصل، وكان الرفاق صادقين.. وكان الحماس مرفوق بالمسؤولية.. فيك يا مراكش استمع بعضنا لبعضنا، ومن خلالك عرفت أن القلعة الحمراء بفاس لها مكانة في وعي الرفاق، كما أخبرك يا مدينة البهجة، والكلمة المرحة، ان الرفيق رضوان العيروكي والرفيق لحبيب ابن محاميد الغزلان غادرانا دون وداع ودون أن نلقي عليهما النظرة الأخير، وظل حالنا على إيقاع الصبى، نتعثر، نسقط، ونعيد الوقوف، ومسرون على السير.. ننجز الكثير ويبقى الأكثر الكثير.. إنه الحلم حلم الشهداء، حلم أمهات الشهداء، حلم أمهات المعتقلين السياسيين،.. فمتى سنضع الحبر على الورق لجعل تجربة "القديسات" (كما عبر بصدق الرفيق حسن أحراث) مادة للتدريس والتكوين وسط المناضلين والمناضلات؟!.. إنه الوفاء.. 

الكتابة مسؤولية، الكتابة صدق، والصدق ثورة، فالكتابة، حول ما جرى ويجري في الواقع، تكون بشعة لما تخضع (بضم التاء) للميزاج والتكييف.. فالكذب والحشو لا يخدم المعرفة.. ولن يكتب سوى تاريخا مزورا.. والتاريخ المزور يخدم الأعداء.. فكم هو مؤلم أن تصادف كتابات تحكي ما لم يكن معكوسا على مرآة كنت شاهدا بمرورك أمامها.. فرجاء يا من تتحدثون باسم "الرفاقية" ادعكوا زجاج المرآة كما تنظفون وجوهكم كل صباح، وتوقفوا ولو للحظة لرؤية ما فيها واحكوا بصدق.. إن التاريخ الحقيقي تكتبه الأقلام الصادقة.. فكم يصعب الاحتفاظ بهدوئنا ونحن نشاهد الكتابة المصطنعة عن من عايشناهم من شهداء وأمهات الشهداء.. كفى من البؤس السياسي.. كفى من الثرثة بالثورية وعلى المقابل المساومة على اتفه الأشياء..   

فالتاريخ لا يرحم..

فالوفاء، ثم الوفاء، للشهداء، وأمهات الشهداء والمعتقلين السياسيين، ولكل أمهات أبناء شعبنا، ولكل الحرائر..




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق