تضيع الحقيقة عندما نسكت عنها في حينها. وكم حقيقة ضاعت
نفهم أن الصمت أحيانا أبلغ من الكلام وأحيانا أخرى تعبير عن الرضى. ونتفهم أن الصمت موقف عندما لا يجدي الكلام..
وكثيرا ما نردد "للتاريخ" و"للحقيقة"، وكثيرا أيضا ما "نقسم بدم الشهداء" كتعبير عن الجرأة والوفاء (الجرأة والوفاء المزيفان في كثير من الأحيان)؛ لكن السكوت حيث يجب تسجيل الموقف وممارسته يعتبر جُبنا وتخاذلا. وأبسط "الخسائر" تشويه الحقيقة والتشويش عليها. فكم من المغالطات تُعد بعد فوات الأوان حقائق!!
المسكوت عنه كثير، حتى صارت محاولات "الكلام" من الموقع الطبقي المناهض للنظام القائم، أي النطق بالحقيقة، شذوذا..
ومن بين أسباب اللجوء الى السكوت/الصمت، وللدقة الإبداعية "الخرس"، من هذا الموقع الطبقي المزعج، وبالدرجة الأولى، الخوف من القمع بكافة أشكاله (الاغتيال والاعتقال والتشريد والتضييق...). ويأتي في الدرجة الثانية الحفاظ على المصالح والامتيازات (الريع) وما يستدعيه ذلك من ولاءات سياسية ونقابية وجمعوية...
صار مألوفا اليوم، في ظل الميوعة الإعلامية و"الراحة" التكنولوجية، توجيه سهام "النقد" طولا وعرضا. وبات مطلوبا من طرف العديد من الجهات "تنشيط" الحياة السياسية بما يُخلط الأوراق ويُكرس فُقدان الثقة في العمل السياسي والنقابي والجمعوي...
ليس سهلا اليوم وواقع الفوضى "المنظمة" (المُوجهة) إنتاج موقف سديد وممارسة سديدة. وهنا توسع "هامش" المسكوت عنه وببشاعة...
وأثير الانتباه بهذا الصدد الى "مسكوتين" عنهما الآن وحتى بالأمس، وعن "سبق الإصرار"، وهما:
- المسكوت عنه الأول:
تواطؤ الأحزاب السياسية المحسوبة على اليسار (القوى الإصلاحية في أحسن الأحوال)، وعرقلتها لأي نهوض سياسي قد يؤثر على موازين القوة الحالية لفائدة الجماهير الشعبية المضطهدة، وخاصة الطبقة العاملة. قد لا نرى هذا المعطى "الصامت" بالعين المُجردة بالحقل السياسي. ببساطة، لأن حضور هذه القوى السياسية باهت وضعيف للغاية أمام الهيمنة المطلقة للقوى الرجعية المدعومة من طرف النظام والكيان الصهيوني والمؤسسات الامبريالية (صندوق النقد الدولي والبنك العالمي...). لكنه يفقأ العين في صفوف النقابات (أساسا، الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل) والجمعيات (أساسا، الجمعية المغربية لحقوق الإنسان). فبدل ممارسة وازنة بالحقل السياسي والتصدي للمخططات الطبقية سياسيا (الزيادات المهولة والمتسارعة في أسعار المواد الغذائية والمحروقات، نهب الخيرات الطبيعية برا وبحرا وجوا، الطرد والتشريد، تدمير المدرسة والوظيفة العموميتين، التطبيع مع الكيان الصهيوني، الإجهاز على المكتسبات مثل التقاعد والتنظيم والتظاهر...)، يتم تسجيل "الحضور" (المقاعد) من خلال النقابات والجمعيات وعبر حوارات/لقاءات/اجتماعات مغشوشة وبئيسة. والمؤسف أن هذا الحضور يتناغم ومصالح البورجوازية الكبيرة (طبقتي الكمبرادور والملاكين العقاريين)، القاعدة الطبقية الواسعة للنظام القائم والقوى السياسية الرجعية، ومن بينها القوى الظلامية والشوفينية.
المسكوت عنه الثاني:
تواطؤ القيادات النقابية البيروقراطية، وأقصد بالخصوص قيادات المركزيتين الاتحاد المغربي للشغل والكنفدرالية الديمقراطية للشغل. إن حضور القوى السياسية المحسوبة على اليسار (القوى الإصلاحية في أحسن الأحوال) في صفوف، بل في قيادة هاتين المركزيتين لا يعكس رهاناتها "الإصلاحية" ولا يُترجم شعاراتها على أرض الواقع.
أين الكفاحية (العمل النقابي الجاد)؟ أين الديمقراطية (الديمقراطية الداخلية)؟ أين الشفافية (الشفافية المالية)؟ أين التشبث بالمكتسبات؟ أين تحقيق المطالب؟ لماذا تزكية الحوارات الشكلية؟ لماذا القبول بالتراجعات؟ لماذا معانقة الباطرونا والتنسيق معها؟
ولا أدل على التواطؤ من اجتماع الحكومة اليوم، الأربعاء 09 فبراير 2022، مع "الميلودي المخاريق، الأمين العام للاتحاد المغربي للشغل، وخديجة الزومي، مستشارة مكلفة بمهمة في الاتحاد العام للشغالين بالمغرب، وخالد العلمي لهوير وبوخالفة بوشتى، نائبي الكاتب العام للكنفدرالية الديمقراطية للشغل، ومحمد زويتن، نائب الأمين العام للاتحاد الوطني للشغل بالمغرب، وعبد الحميد فاتحي، الكاتب العام للفيدرالية الديمقراطية للشغل، وعلي لطفي، الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل". ويضيف البلاغ الحكومي الصادر عن الاجتماع "من جهتهم، أبرز ممثلو المركزيات النقابية، في مداخلاتهم، أن استكمال مسار التلقيح سيسمح بالعودة التدريجية إلى الحياة الطبيعية، وخاصة الجرعة الثالثة المعززة التي ستحمي أرواح الموظفين والمستخدمين في حالة الإصابة وتحميهم من مرحلة الخطر.
وعبروا عن انخراطهم في الرفع من وتيرة تحسيس المواطنين وتعبئتهم من أجل الإقبال على التلقيح، منوهين بما حققته المملكة من مكتسبات في مجال مكافحة الجائحة".
هذه هي الاهتمامات المفضوحة للقيادات البيروقراطية، أين شعارات الأحزاب السياسية هنا بالواضح والملموس وأين مناضليها، عشية ذكرى انتفاضة 20 فبراير المجيدة؟
إن المسكوت عنه هنا ومصدر الخطورة هو صمت المناضلين في صفوف هذه المركزيات النقابية وفي صفوف أو في قيادة النقابات القطاعية (التعليم والصحة والجماعات والفلاحة والأبناك والموانئ...)، وهو صمت بدلالة التزكية والدعم. وحتى الأشكال الاحتجاجية "البديلة" (الباردة) لا ترقى الى مستوى التصدي للهجومات الشرسة والمنظمة للنظام. ما هي يا ترى مصلحة هؤلاء المناضلين إذا لم تكن "الحفاظ على المصالح والامتيازات (الريع) وما يستدعيه ذلك من ولاءات سياسية ونقابية وجمعوية"؟!! وربما صار "الحفاظ على المصالح" أقوى سببا للخرس من "الخوف من القمع"..
المسكوت عنه كثير، ونتحمل القسط الوافر من المسؤولية في ذلك...