كرّرْنا لازمتيْ "ما أجمل" و"ما أروع" حتى الملل.. وكثيرا ما وجدنا أنفسنا نُجامل بدون معنى أو هدف، ونتيه في نفس الدوائر المُميتة..
للمجاملة أو المرونة الزائدة حدود، لأن الكثير من المجاملة، بما في ذلك السكوت عن التخاذل والتواطؤ والتردي و(...)، قد يؤدي الى الانحراف عن الطريق الصحيح وبالتالي السقوط في فخ المهادنة والتعايش مع الواقع المُذلّ، نقيض ما نتطلع اليه. يقول مثل طريف "كثرة البسملة تضسر جنون". وحتى على المستوى الإنساني والاجتماعي، وكما قال أحد الشعراء "أحيانا، صفاتك الجميلة هي سبب مشاكلك"..
لا يخفى أن على المناضل تفادي الصدام المجاني أو الانسياق نحو المهاترات التافهة، وذلك من أجل التفرغ الى مهامه الحقيقية كأولويات، والتركيز عموما على خدمة قضية شعبه وليس حبا لذاته؛ علما أن المناضل معني قبل غيره بثقافة الاعتراف وليس العناد أو المزايدة أو "حب" الانتقام. فالنقد الذاتي سلاح المناضل الثوري، وهذا الأخير لا يدعي الكمال أو القداسة. وقيل لكل جواد كبوة ولكل فارس غفوة، "لكن ليس للجواد أن يكبو للنهاية وما من فارس يغفو للأبد". وعلى عاتق المناضل مسؤولية الالتزام بالممارسة الديمقراطية وبالمقولة التي نُرددها جميعا "لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية" أو "التحليل الملموس للواقع الملموس"..
أن تخوض حروبا مُنهكة دون جدوى، كأنك تُضْعف نفسك بنفسك. أنت أدرى بأهدافك، لتعمل على إنجازها؛ وغير ذلك تفاهات مُعيقة لا غير..
بالفعل، هناك حروب استنزافية مدروسة وماكرة (مفروضة) تستهدف المناضل وتُعرقل مسيرته النضالية. وقد تكون أخطر من القمع المباشر، كالاعتقال أو الاستفزاز والتضييق. ولا غرابة أن تجد المناضلين محاصرين من كل الجبهات، النظام من جهة والقوى السياسية الرجعية والقيادات النقابية والجمعوية البيروقراطية من جهة أخرى، بُغية عزلهم عن المعنيين بالتغيير؛ أي أوسع الجماهير الشعبية المضطهدة، وفي مقدمتها الطبقة العاملة.
وهناك من يمارس بجبن وبشاعة، وباسم الديمقراطية وحرية الرأي، هواية التشويش على المناضلين وعلى الأفكار السديدة والمواقف الإيجابية، دون أن يتحمل المسؤولية في خضم المعارك النضالية أو أن يقدم بديلا نضاليا عمليا؛ وهناك من يقوم بذلك تحت الطلب (أشخاص أو هيئات أو إعلام...) خدمة لأجندات معلومة. وهناك أيضا من يلجأ الى التضليل والافتراء للنيل من المناضلين حينما يعجز عن مقارعتهم..
هنا لابد من تدبر الأمر الى جانب الرفاق والحسم في مدى أهمية الرد والتصدي أم التجاهل، ومن النظر في الصيغة النضالية الملائمة للرد دون انفعال أو ضغينة. فبعض الهجومات الصبيانية لا تستحق الالتفات اليها؛ وقد تُعطى أكثر من حجمها في حال التفاعل معها. وقد تجر المناضل الى الهامش القاتل والى مستنقعات التراشق البئيس التي تسيء اليه أكثر مما تخدمه..
وبالنظر الى الانحطاط الأخلاقي والقيمي الذي يكاد يغطي الممارسة السياسية والنقابية والجمعوية لهذه المرحلة، أضحت لازمة "ما أبشع" أكثر راهنية وملحاحية..
لذلك، لابد من "الشراسة" (الصرامة) النضالية الهادفة رغم مرارتها، كما الحقيقة..
فما أبشع من يسكت عن الحقيقة، وهو أدرى بها من غيره؛
ما أبشع من يقف عند نصف الحقيقة، وهو أعلم بها كاملة؛
ما أبشع من يخفي الحقيقة، بدعوى أن ذلك لا يهمه؛
ما أبشع من يغازل المسخ السياسي المهيمن (شعارات ومبادرات...)؛
ما أبشع الحربائية السياسية و"الرفاقية" المغشوشة أو الانتهازية، أي انصر "رفيقك" بشعا كان أم جميلا؛
ما أبشع من يكون "ليس هو" (N’EST PAS EGAL A LUI MEME). وهنا مثال من يدعي الاستقلالية أو الحياد (نظريا)، ويدعم (عمليا) "عشيرته" السياسية أو النقابية أو الجمعوية أو العائلية..
ما أبشع من يدعي "الحياد" مزهوا، فلا حياد في الصراع؛
ما أبشع من يخون من أجل مصلحته الضيقة أو مصلحة تنظيمه/"عشيرته"؛ وما أبشع الخيانة في كل صورها، إن الخيانة خيانة؛
ما أبشع من يدعي "الجهل"، أي لا يعرف، أو لم يكن يعرف (سْبق الميم تْرتاح)؛ فلا يُعذر مناضل بجهله ألف باء الصراع؛
ما أبشع من يمجد أطروحات الارتداد باسم "النقد الذاتي" أو "المراجعة النقدية"؛
ما أبشع التنكر للماضي النضالي المشع، انتفاضات شعبية أو معارك نضالية من داخل السجون ومن خارجها؛
ما أبشع من يتنكر لرفاقه من الشهداء، إنسانيا واجتماعيا على الأقل، ولعائلاتهم؛
ما أبشع من يتغذى على (يأكل من) كل الموائد؛
ما أبشع "الأستذة". أقصد من يمارس "الأستاذية" بدعوى التجربة والمعرفة والذكاء/الذهاء/المناورة...؛
ما أبشع "الخوف" من الانتقاد ومن القمع أيضا. فبعض "الانتقاد" قمع وليس انتقادا. وهنا أحترم الطاقات المناضلة التي تُحاصر بالاحتقار أو بتهمة "قلة" التجربة والخبرة النضاليتين. فباسم التجربة والخبرة تمت الخيانة وارتكبت جرائم الطعن من الخلف ومن الأمام..
لا أحد يمتلك الحقيقة المطلقة. لكن، " العْشاء الزّينْ فالعصْر تْعْطي ريحْتو"...
وأخيرا، ما أبشع المسخ.. ما أبشع من يعيش نذلا أو يرحل نذلا...