08‏/04‏/2022

نعيمة البحاري // التضامن يتدحرج، و"الرفاقية" بعناوين جديدة


رماد داكن اكتسح السماء. خيوط شمسية تلقي اطلالتها البئيسة من حين لآخر. 
الطبيعة تبدو وكأنها تلقحت بشقاء الناس ولبست كآبتهم وهم خاضعون لحرية خاصة، ويترقبون هذه الحرية. حرية الأسواق. حرية الأسعار. حرية المضاربات. حرية "الأسواق المالية"، حرية العمل،.. وهذه الحرية،  تتفحصهم، تخلع ثيابهم، تحمل عواصف تثقب الجيوب، وتضيف الوشم على الجلود المسلوخة، بموجاتها الحارة وانيابها الحادة، في ظل ضوضاء حرب جديدة تلقي الستار على حرب كورونا، أمام صمت النقابات والأحزاب. صمت أشبه بصمت القبور. صمت بنكهة الخيانة، والانبطاح. وتنقش سؤالا في الذاكرة الجمعية، هل استسلم الجميع؟! وتبصم على قاموس الحروب، التدمير البيئي للكوكب، الاستغلال، حرية الاموال ووحدتها، تسويق كل شيء، نزع الصفة الإنسانية عن جوهر الإنسان وتغريبه، ديكتاتورية رأس المال، الفاشية، كمضامين للديموقراطية. ووسط الاضطراب، وبخطوات تبتلع الرصيف بمهل، في اتجاه أقرب مقهى لكي لا أفقد القدرة على المشي ذهابا وايابا، جالت أفكاري مخزون الذكريات، فتشت في ظلالها، وأوقفتني أصداء متواصلة من الحكايات، وتذكرت فاس، و الماضيات من الأيام، وحكايات رفيقي عن معشوقته، المدينة القديمة، وجولاته لوحده بعد كل اعتذار لمرافقته نظرا لوضعي الصحي.. 

الدروب، والساحات، والأبواب، الفنادق، الأقبية المظلمة، المقاهي الشعبية.. باب الشمس، ساحة بوجلود، باب بوجلود، الطالعة الصغيرة، أو ولوج الطالعة الصغيرة عبر طريق البوسطا(طريق البريد)، يمينا عبر درب السراج، أو عبر البطحاء، زربطانا، الطالعة الصغيرة، زقاق الرواح، التوقف عند سعيد الخراز لتقصي المستجدات في السجل الإجرامي ل"جمعيات المرقة" كما يسميها سعيد، التي تفوق 30 جمعية، كأيادي وعيون للنظام  يحاصر ويراقب بها نشاط ساكنة المدينة القديمة، ثم الطريق المسروقة، زقاق لحجر، ملتقى الطالعة لكبيرة وعين علو، العطارين، مع اطلالة خفيفة على "بابا" المواظب على اوقات الصلاة، والذي زار بلد المسيرة التاريخية الكبرى والمليار ونصف من ورثة الصور العظيم وآلهة بودا، والسلع الرخيصة في الشرق البعيد، كما يحلو له تسمية الصين الشعبية، ليسأله عن احواله في رغبة منه لسماع سمفونيته الجميلة، وهو يضع يديه على صدره، "ولله الحمد، ولله الحمد، ولله الحمد،.. بلا عدد.. لو كان غير يخطيك شر العباد". وفي يوم من الايام وجده على ميزاج لا يرام ولما سأله أجابه بعد ان أخذ نفسا طويلا من السبسي، واحد من لذاذاته المتبقية، واخرج دخان كثيف ملأ فضاء دكانه الضيق، "يا صاحبي هد البشر الله لي خلقهم أو مقدش عليهم.. شوف معايا شحال من نبي بعث أو شحال من رسول ومع ذلك مقدش يهديهم" لتظل تلك القولة موشومة في ذاكرة رفيقي يرددها كلما تشابه له الموقف في نقاش ما، "لعشبة الكتامية تفتح بعض الادمغة وتخرج منها أفكارا فلسفية ليس لها سبق عند الفلاسفة مثلما حصل مع بابا".. بعد توديعه، ينحرف على اليسار وسط الحوانيت المجوفة في اتجاه فندق الصاغة. وعبر درج متهالك ملتوي لا يتسع لمرور أزيد من واحد، يبعث واقفا أمام لحبيب بشاربه المتدلي الخفيف وكأنه ريش علق تحت انفه الحاد مثل ازميل خرج من يد صانع ماهر ويتحرك بنغم حين يلزم، تحت ملحاحية عادل الموقوف من شركة "كوكا كولا"، لسرد إحدى طرائفه بعيون مبتسمة في مغيب الأسنان، على مسامع الشلة، ليضفي على أجواء الألفة، نكهة الانشراح، وهو يعد كؤوس القهوة "المعطرة" على الجمر. وينتهي بأخذ مكانه على كرسي خشبي طويل  يتسع لثلاث زبائن بجوار النافذة  والكأس على طاولة منبسطة ويتأمل دون ملل حركة التجار وأصوات الحرفيين ونقوش صامدة لقرون من الزمن على عود الارز بباب فندق الصاغة المهمل والآهل للسقوط، وهي تحتفظ بمهارة الصانع المغربي وفنه الحضاري العريق. هناك تتمثل له شعبية المدينة القديمة، وثقافتها العريقة، وأفكار التجار وتجاربهم، وجدل الصنايعية والمعلمية، والحمالة، والعمال البؤساء، حول المستقبل المجهول مع زحف الرأسمال الاستعماري على المدينة، والحكايات الأسطورية الجميلة التي تخرج من تلك البنايات المتكئة بعضها على بعض في تضامن وحماية.. وانبعث في الذاكرة مقطع من "ازهار الشر" لشارل بودلير

  "أيها الألم إن الزمن يبلي الحياة

والعدو الغامض الذي ينهش قلوبنا

على دمنا المسفوح ينمو ويقوى"

لكن رفقة اليوم لا تشبه الماضيات المخزونة في الذاكرة.

على الشارع الرئيسي الوحيد وبمحيط مؤسسات إدارية كبيرة، تتنافس المقاهي لاستقطاب النخبة، اقتحمنا باب المقهى الأقرب، وأخذنا مكانا يطل على الشارع من خلف الزجاج، وبخدمات تستجيب لعالم السرعة كانت طلباتنا جاهزة على الطاولة، مع ابتسامات لطيفة. قناة على التلفاز تديع برنامجا حول الحرب في أوكرانيا. لا أحد مهتم. عيون الاغلبية متصلبة أمام شاشة الهواتف الذكية. غابت الضحكة. غاب المرح. غابت جموع الجدال. حديث خفيف، غير مسموع بين الزبناء، لا يشوش على السفر الافتراضي، وعلى نمط الحياة الجديدة.

ثلاث زبناء على الطاولة المجاورة، تفكير بصوت عال اشبه بمن تمرن الحديث في الاقسام المكتضة بالتلاميذ. قراءة منشور الاضراب على الهاتف. "الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد في إضراب لثلاثة أيام انطلاقا من..".

 فتح النادل علبة "مارلبورو marlboro"، سحب سجارتين، وضعهما على  الطاولة. ابتسم، وتساءل وعيونه تتفحص خطوات زابون متوجه للطاولة الفارغة في الركن المقابل لنا:

 - شكون فيكم مضرب اليوم؟

 أجاب أحدهم

- الأستاذ حسن

- ونتما؟

- عندنا الحصة المسائية

وبابتسامة لطيفة لا تضمر المكر أخرج سؤالا 

- أو فين التضامن

أجاب صوت مخالف للصوت الأول

- راحنا متضامنين، أو حسن واحد من رفاقنا، أو نقابتنا خرجت ببيان تضامني مع المضربين.. 

وبعد انتهاء النادل من تقديم طلبات الزابون الجديد، عاد ليقول:

- تخلطو علينا لعرارم، كنا كنعرفو إضراب التعليم واحد، دبا ولا كلها بإضرابو.. والله ما عرفت كيف ممكن البيانات تكون بديل على الفعل..

ليجيب صاحب الصوت الأول وبلغة المقرات

- نحن ديمقراطيون، والنقابة لها هياكلها، ولها اجهزة قيادية تقرر، والمناضل النقابي أول من يلتزم بتنفيذ القرارات، وموقف نقابتنا واضح، ومعلن في البيان.. 

لف النادل جوابهم بغلاف الدعابة، بعيدا عن الهزء أو التجريح. ربما من أدب المهنة، أو لطبعه. فتحت مخزون هاتفي على رواية ناظم حكمت "الحياة جميلة يا رفيقي.."، الصفحة74 لإتمام القراءة

"وها أنا أنصت إلى ضجة البحر الأسود. لمياه البوسفور، أمام البيت في سكوتاري. للبحر صوت آخر، أكثر نعومة، ومليء بالأسرار. سمعت سفارة سفينة. أهي السفينة التي ترحل بتوفيق وسليمان. هل حبسوهما في حجرة ضيقة. هل ألقوا بهما في قعر الأنبار؟ يا للعنة! يأس يغمرني. يتنامى بسرعة. يؤول إلى خجل غامض. ويبدو لي أنني أخلفت بوعدي، فلم اساندهما. ولم أسارع إلى نجدتهما. هل أنا جبان؟ انهض. المصباح مازال يضيء. أطفئه. ينعكس شحوب الليل المتلألئ بالنجوم في عتمة الغرفة. وأجلس على فراش سليمان. لا يزال ساخنا بعد. حسنا! لكن لماذا يرجعونهما الى إسطنبول؟ هل كان علي أن أطلب ارجاعي أنا أيضا؟ أأنا سلمت صديقي؟ إلى من؟ ثم، هل كانا حقا صديقي؟ لكن سليمان أعانني. إنني هنا بفضله. لو حدث أن ارجعوني أنا، ترى ماذا كانا يفعلان؟ لم يكونا ليحتجا بالتأكيد. أليس هذا التفكير والبحث عن التبرير أمرا مخجلا؟ هدير البحر الأسود يملأ الغرفة. لا شك أن الريح تحركت. انحنيت على النافذة، وتنشقت رائحة الهواء. رائحة الملح، غير رطب كريح البوسفور. إنه ملح مبلل بالماء. أغلقت النافذة." 

ثم توقفت، واعتراني شعور بالغربة، وبالغرابة. غريبة حيث أقدمت بقدمي، والغرابة بما استقبلته مسامعي. هل انا من هذا العصر؟! هل انا من هذا المكان؟! وهل الناذل غريب هو ايضا، وألف الغرابة، ويجاريها بابتسامة الشفقة؟!

بدى لي المحيط مظلم. الكراسي لم تعد تبعث الارتياح. كل ما فوق الطاولات مجرد قادورات. أحسست بالغثيان. شعرت برغبة الاندفاع بأسرع ما يمكن إلى الخارج. يجب أن استنشق هواء الشارع. رائحة العمال. رائحة الرفض، والاندفاع والحماس، والعفوية، والبساطة، وكل ما يحتاج لجهد اولائك البنائين. لمن يعدون بصدق، وبكل جهد، لتنظيم حركة الشوارع.

إلتفت لي رفيقي ونحن نعد للمغادرة وقال: "لا تنتظري من المرآة أن تغير، أو تعدل، صورة الواقع المنتصب امامها، الاشياء تتغير بالعمل بالعناية والاهتمام وبانسجام ما نقوم به وما نطمح إليه"

خرجنا، وبراءة الشمس تغرق في موج المساء، و الظلام يبلع الحاضر.. يعبث بالحدائق. رياح المشرق اشعلت اللهيب في الأحلام المضطربة. ونجوم عدة انسحبت خوفا من هول العاصفة. وباع الذئاب غطاء ركوب الخيل الاحمر، وضاعت الكثير من الجهود. اتخذنا طريق العمال الزراعيين في قوافلهم كل صباح لصندوق الضمان الاجتماعي. الإدارات أغلقت أبوابها، لان العمل ترسم بالتوقيت المستمر ليستجيب لمتطلبات إدارات المقيم العام هناك. ساد الصمت. الصمت في جدال، تأمل. التضامن يتدحرج، ويهوي للأسف، والصداقة، و"الرفاقية"، بعناوين جديدة.. 

"نحن ديمقراطيون، والنقابة لها هياكلها، ولها اجهزة قيادية تقرر، والمناضل النقابي أول من يلتزم بتنفيذ القرارات، وموقف نقابتنا واضح، ومعلن في البيان.." كلمات مستمرة في ازعاجي. هل انسحابي من المقهى سيحد هذا الازعاج؟ هذا القاموس، الروسم، الذي يزينه المتنفذون والأشرار وجميع سماسرة العمل النقابي، ويضعونه على رقاب "المناضلين" ليتمسكوا به مزهوين، ترجمته: الطاعة، التسليم بالواقع، التسليم بالظلم.. وانا لن اطيع ولن استسلم للكراسي المريحة، ولا لتلك الواجهات الموضوعة لاستقطاب النخبة. انا أرفض الديمقراطية بهذا الروسم، بهذا الشرف الوهمي، بهذا المنوم، بهذا المبرر لقبول طريق الهزيمة. الزمالة ليست هكذا، وليست هكذا الصداقة، وليست هكذا الرفاقية تتحدى الكون. هل صرنا نخاف المواجهة؟! هل صرنا نخاف النظام؟! هل صرنا نخاف الموت؟!.. 

الإنسان المناضل في أرقى نضجه السياسي يتضامن مع كل مظلوم في هذا الكون، بل يتوحد معه. وينظر لكل النضالات في أفق تحويلها لصبيب في مجرى واحد، لتصير نضالا واحدا، وكل البشر أنسانا واحدا، لا فرق مهما تنوعت القطاعات، وتنوعت الفئات. وأنا لا أريد حجرا في يسراي، لا أريد تلك الموضة. لا أريد الامتثال لأدب النخبة ولأماكنها. لا أريد الانضباط للصمت لكي لا أزعج المسافرين في العالم الافتراضي. انا اريد شيئا يخفق، يدق، يحدث اصواتا، ويبلغ الرسالة بدقاته. اريده بدقات توقض القضية. لا أريده بدقاة الموت أو بدقات انتظار الموت، ولا بدقات للعيش وسط الاموات، لأني بكل بساطة لست من أهل القبور.. 

عادت بي الذاكرة للأقواس، الزقاق، الأبنية العتيقة، الدروب، والحمير المحملة بالبضائع، والفنادق والخرائب والفقر المحيط بها، والمقاهي الشعبية البسيطة، والقهوة المعطرة المعدة على الجمر، والفلاحين ببلدتي الصغيرة، وارتسم امامي سؤال: من يتضامن مع ناقل البضائع في المدينة القديمة، مع سعيد الخراز، مع عادل المطرود من شركة "كوكا كولا"، وأخوه العامل بمعمل السيارات بطنجة، مع بابا التاجر الذي زار الصين ولم يتمكن من جمع الاموال لاستيراد منتوجاتها الرخيصة، مع فلاح زاوية "سيدي عبد الجليل" الذي  تحول لرباع في أرضه بعد أن نزعها منه "الشريف الوزاني" بدعم فرنسي وجهات يقال عنها وازنة في الرباط، مع عمال الضيعات الذين خلت منهم الطريق بعد انتهاء التوقيت الإداري، مع الذي افلس ويعمل مياوما الان لذا ممون الحفلات، مع من يسهرون الليل بدرب النجمة، بالحي الحسني، لحين خروج أحد افراد الاسرة للعمل ليخلي له مكانا للنوم.. 

الفنا أن نخسر ونبدأ من جديد مرات ومرات لا حصر لها، ونحفظ الخلود للضمير، ونخلد الذكريات والتضحيات، ووسط الرماد يركن جنون التحدي  متمسكا بالأحلام والآمال المعلقة على خيوط الفجر. قلت في نفسي، انا لا أقبل أن يكون حماة الحرف أشبه بماء راكد تدرو عليه رياح الشرق الغبار، وعاجز عن المجرى وشق الدرب. وكل من لن يقبلوا المستنقعات لن يقبلوا حمل الروسم على الأعناق.




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق