06‏/04‏/2023

محمد سعيدي //أثر الأموال الإلكترونية في الانهيارات البنكية الأخيرة.


ما عشناه خلال شهر مارس عاد بالذاكرة الجماعية إلى الأزمة المالية لسنتي
2008-2009 وما تلاهما. وإذا شئنا المقارنة بينها وبين أزمة 2023، فوجه الشبه أنهما  بدأتا بإعلان إفلاس أبناك أمريكية. أما أوجه الاختلاف، فنذكر منها أن أزمة 2008 كانت مرتبطة بما يسمى مخاطر الائتمان ( risque de crédit) وكانت أعم،  بحيث تأثر  بها كثير من القطاعات الاقتصادية وكثير من البلدان . و في تلك السنة،  بدأت الأزمة بعجز عام لزبناء  أبناك أمريكية عن تسديد القروض العقارية وانخفاض مهول في ثمن العقار بالبلد.   وبسبب هذا الانخفاض، كانت الأبناك  غير قادرة على استخلاص أموال كافية لتسديد ماعليها من ديون حتى وإن وضعت الأبناك يدها على العقارات التي كانت  تتسلمها كضمانات للقروض بمقتضى العقود القانونية . وهكذا، فالأبناك التي كانت تعتمد بشكل كبير على القروض العقارية، انهارت وأثرت على القطاع المالي بأكمله داخل وخارج أمريكا.

أما أزمة هذه السنة، فترتبط  بمخاطر معدل الفائدة (risque du taux d’intérêt).  النسبة الأكبر من استثمارات الأبناك الثلاثة التي أفلست كانت عبارة عن سندات طويلة الأمد للخزينة الأمريكية.  وكما هو معروف، فهذا النوع من الاستثمار لا يعرض صاحبه لمخاطر الائتمان، لأن  الخزينة تؤدي الفوائد السنوية وأصل (ثمن) السند  مضمون عند حلول الأجل. فالدولة الأمريكية ليست في حالة إفلاس رغم حجم الدين، وكل الحروب التي تخوضها لا تشكل إلى حد الآن أي تهديد لكيانها لأنها تدار خارج بلدها وضد جيوش صغيرة. ولمزيد من التوضيح وإذا تجاوزنا التسميات، فالشخص الذي يشتري سند الخزينة، في الواقع يقرض الدولة إلى أجل مقابل الحصول على فوائد سنوية.  لكن هذه الفوائد تكون جد منخفضة مقارنة مع السوق لأن خطر ضياع الأموال المستثمرة جد منخفض.  وما يقصد بمخاطر الفوائد في الأوساط المالية، هو أن السند يفقد قيمته مع كل ارتفاع لنسبة الفائدة في السوق. مثال ذلك:

شخص "أ" اقترض 1000$ لشراء سند أجله سنة واحدة و يعود عليه ب 1% كفائدة سنوية. نفترض أن نسبة الفائدة على قرض الشخص هو 0%. في نهاية السنة، بعد تسديد قرضه، سيحصل الشخص على دخل صافي يقدر ب 10$.

مباشرة بعد الشراء ، ارتفع سعر الفائدة على القروض إلى 2% والشخص "أ" يحتاج المال ويريد بيع السند وشخص "ب" يريد شراع السند.  "ب" لن يكون مغفلًا كي يقترض ب2% ويشتري سنداً يعود عليه ب 1%.  كي يحصل على نفس دخل "أ" 10$، عليه أن يفاوض  لشراء السند على الأكثر ب 980$ (1000/1,02). هكذا، سيحصل في نهاية السنة على 1000$ من الخزينة (الأصل) وعلى فوائد 10$، ويسدد دينه 980$ وفوائد  دينه 20$، ويحصل على دخل صافي  10$.  وكما رأينا كلما ارتفعت نسبة الفائدة  ، انخفضت  قيمة السندات. وتزداد انخفاضاً كلما كان أجل السند أطول.

كل الأبناك في امريكا حققت خسائر نتيجة انخفاض قيمة أصولها بعد الرفع من معدلات الفائدة ؛ وبعض الإحصائيات قدرت الخسارة في نهاية 2022 ب 622 مليار دولار. لكن ما ميز الأبناك الثلاثة هو زيادة الطلب على سحب الأموال رغم أنها كغيرها كانت دائما معرضة لمخاطر السيولة (risque de liquidité). وللحد من هذه المخاطر، تفرض القوانين في كل البلدان أن يحتفظ البنك على نسبة معينة من السيولة للاستجابة لطلبات زبنائها، قد تكون بين 5% و 10% من الودائع الإجمالية لديها. لكن هذه النسبة تبقى ضئيلة جدًا إذا فقد الزبناء الثقة في البنك لسبب من الأسباب وطلبوا أموالهم المودعة في وقت متقارب.  وهذا ما حصل مع الأبناك الثلاثة التي عرفت انتعاشًا كبيرًا في السنوات الأخيرة إبتداءً من 2019 بعد أن ركزت على التعامل مع  شركات الأموال الالكترونية والتكنولوجيا واشتثمرت في الخدمات التي تساعد على هيكلة قطاع تصاعد بشكلٍ سريع. لكن ما أن  أعلنت شركة  FTX  الأمريكية إفلاسها في نوفمبر 2022 واعتقل مؤسسها  Sam Bankman Fried، حتى بدأ الشك يتزايد حول هذه الشركات.  وFTX كانت بمثابة بورصة   وغرفة مقاصة (chambre de compensation) لها. هذا الإفلاس ساهم في انخفاض قيمة الأموال الالكترونية وشركاتها  والأ بناك التي تتعامل معها بشكلٍ رئيسي.

عملة Bitcoin مثلا التي كانت قيمتها سنة 2018 فقط 3200$، وصلت في 2021 إلى 60 ألف دولار، لتعود سنة 2022 بعد إفلاس FTX إلى 20 ألف.  مما ساهم في زيادة حاجة الشركات لسحب الأموال المودعة من أجل تعويض خسائرها  ، وصعب مهمة الأبناك خاصة بعد الرفع من معدلات الفائدة. و رغم أنها بدأت في بيع أصولها (السندات) في السوق  محققة خسارة مهمة، كانت وتيرة الطلب متسارعة  وحجم السحب أكبر، وهو ما أدى إلى انهيارها في الأخير.  قد يتساءل البعض لماذا  التسارع على سحب الأموال المودعة، والجواب هو أن القانون الأمريكي لا يضمن  مافوق 250 ألف دولار من الأموال المودعة في حساب بنكي. لهذا ما أن يبدأ الشك حول بنك ما ، حتى يتسارع الزبناء لسحب أموالهم.

إن الأبناك  تعتمد بشكل كبير على ثقة الزبناء ، فما أن تهتز هذه الثقة حتى تنهار بسرعة. لهذا سارعت السلطات المالية الأمريكية  للإعلان عن ضمان كل الودائع لدى الأبناك الثلاثة للحد من تداعيات الانهيار.  أما رأسمال البنك أو مجموع أموال المساهمين في البنك فتبقى ضئيلة بالنظر إلى مجموع الأموال التي تروجها.  سيتضح هذا أكثر إذا نظرنا إلى التقارير السنوية:

بنك Silicon Valley Banb (SVB) بلغت في سنة 2022 أصوله 211 مليار دولار، بينما الرأسمال المساهم كان فقط 16 مليار دولار. أما الودائع فوصلت 173 مليار دولار، ولا يؤدي عنها البنك أي فائدة لاصحابها. مثلًا إذا حسبنا خسارته بناء على نسبة 15% التي تم تقديرها بعد أن وصل معدل الفائدة في أمريكا 4,5%، يكون خسر  حوالي 32 مليار من قيمة أصوله، أي ضعف رأسماله.

بنك Signature Bank الذي كان يحتل المرتبة 21 من حيث حجمه في أمريكا، فوصلت في سنة 2022 أصوله 110 مليار دولار، أما الرأسمال المساهم فوصل 8 مليار دولار، بينما كانت الودائع 102 مليار دولار.

والبنك الجهوي الصغير Silvergate Bank ، فأصوله وصلت 14 مليار دولار، ورأسماله المساهم وصل 1 مليار دولار ، أما الودائع فكانت 13 مليار دولار سنة 2021.

رغم  ضخامة الأرقام إذا قارناها مثلًا بمجموع صادرات المغرب  الذي وصل 35 مليار دولار سنة 2021، فهذه الأبناك الثلاثة تصنف إما صغيرة أو متوسطة بمقاييس الولايات المتحدة الأمريكية. لهذا فتبعات إنهيارها السلبية تبقى محدودة على باقي المؤسسات المالية ، بل سجلت بعض الجرائد تبعاتها الإيجابية على بنكين كبيرين لعبوا دور المستقبل للودائع" الهاربة " من الأبناك الثلاثة وهي JP Morgan Chase و Bank of America. ويمكن أن نقول أن الخاسر الأكبر في هذه الأزمة هم أصحاب رؤوس الأموال المساهمين الذين تبخرت ملياراتهم كما أشرنا أعلاه ، والعمال والموظفين الذين تم تشريدهم عبر هذه الإفلاسات المتلاحقة.  والخاسر على الدوام هي الشعوب التي تؤدي دائما الفاتورة النهائية عبر الزيادة في الأسعار، عبر النقص في الخدمات الصحية والتعليمية وغير ذلك.

 هل ستكون هذه آخر أزمة؟ حتمًا لا بالنظر إلى القوانين التي تسير  الرأسمالية.  فنهاية كل أزمة تكون بداية لأزمة ثانية لاحقة. وكل واحدة بالقدر التي تشرد أناساً وتفقر أناسًا ، تزيد في غنى آخرين. ومارأيناه خلال شهر مارس ربما شكل مصدر ارتياح لأصحاب الأبناك التقليدية. فهم لم يكونوا يخفون قلقهم من التطور التي شهده استعمال الأموال الإلكترونية وهم يرون بورصة جديدة تتطور بالموازاة  مع البورصة المالية التقليدية،  ونظامًا جديدًا للتحويلات المالية على مستوى العالم يتطور  بالموازاة مع الانظمة التقليدية (مثل SWIFT) .   هذا التطور لو استمر بنفس الوتيرة، لكان شكل الأزمة وحجمها   مختلفين تمامًا عما رأينا.  فالودائع عند SVB فقط انتقلت من 49 مليار دولار سنة 2018 إلى 173 مليار دولار سنة  2022. ورأينا كيف أن الشاب Sam مؤسس FTX ذو الثلاثين سنة أصبح يتلاعب بالملايير عبر العالم ومنها الأموال السهلة المنهوبة من شعوب العالم الثالث والتي كانت تبحث عن ملاذات آمنة وجدتها في الأموال الالكترونية .  

بقي أن أشير إلى أن ما يحدث بمناسبة هذه الأزمة أو غيرها، إن لم تحدث ثورة عمالية، لا يتعدى أن يكون تجدداً من داخل الرأسمالية وليس نظامًا كليًا جديدًا كما تشير إلى ذلك بعض الكتابات. فمنذ اعتماد المعلوماتية و تطور الشبكة العنكبوتية، لم تتوقف التحولات  و الإفلاسات والانهيارات والمتاعب في بعض القطاعات الاقتصادية بالموازاة مع تراكم لرأس المال وزيادة في الأرباح في قطاعات أخرى. حدث هذا مثلًا بالنسبة للجرائد والصحف والكتب المطبوعة والإذاعة والتلفزيون  التقليديين  مع تطور اليوتوب ووسائل التواصل الاجتماعي و بدائل أخرى من نفس الصنف. و حدث أيضاً هذا لعدد من المحلات والشركات التي أرغمت على الإغلاق بعد التطور الكبير الذي شهدته أمازون Amazon وغيرها من الشركات التي تعتمد البيع عن طريق الشبكة العنكبوتية.

محمد سعيدي 

 4 أبريل 2023






شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق