مندفعة بسرعة، غير مبالية للعيون المنصوبة على الكراسي الامامية للمقاهي، ولا
صعدت إلى المقعد الخلفي للسيارة بجوار سيدة سمينة. لا أحد يسافر على متن سيارة الأجرة في اتجاه خميس آيت عمير خارج العمال أو من لهم صلة بهم اما غيرهم في المنطقة اصغر أولاده يملك سيارة الدفع الرباعي.
انطلقت السيارة بعدما دفع كل المسافرين واجبات الرحلة، بسرعة منخفضة قبل خروجها مدار المدينة، على مسمع إذاعة تقدم برامجا بالأمازيغية.
من المقعد الخلفي، خلف المسافرين الاربعة والسائق، راودتها الرغبة في الصراخ. لكن لم تجرؤ أن تسحب غطاء الحياء. كأن الحياء تواطأ على حياتها، ولم تنبس بكلمة لتقول لا لأي شيء. هزمها البكاء.. أخرجت هاتفها المحمول، ضغطت على الأزرار. فتحت المكالمة. أمها على الخط. أوقف السائق صوت الأثير. لم ينفع الحديث على الهاتف في إيقاف انجراف السيلان على الخدود. أخذت تفكر بصوت عال، كأنها فرصتها الأخيرة لتدوين مذكرة فقدان الأمل.. رحلت عنها بديهيات الخصوصية، وتكسرت قاعدة الكلام بعيدا عن الأعين والاذان، كأن بركانا داخلها استحال توقيفه، وأخذت تعود لبدأ الحكاية من انتظارها لساعة أمام مكتب "وكالة إنعاش الشغل والكفاءات" لعودة الموظف من أخذ وجبة الإفطار بالمقهى واقتناء سيجارته الامريكية المفضلة، ليسلمها أوراق لبدأ إجراءات إعداد جواز السفر بعد قبولها للعمل في الحقول الاسبانية لمدة ثلاثة أشهر.
"ساعة من انتظارنا، يا امي، كلفته ما نتقاضاه في يوم عمل تحت حرارة الحقول المغطات والمبيدات.. سيجارة بأربعين درهما ووجبة إفطار بسيطة بخمس وعشرين درهما" قالتها بحسرة.
وواصلت: "نسيت الانتظار ونسيت الجوع ونسيت كل الارهاق، وقلت هذه فرصتك الأخيرة يا جميلة، أخذت اتسابق مع عقارب الساعة من أجل السفر ل"دمنات"، لأنه قيل لي بمكتب الجوازات بالعمالة، بعد انتظار لساعة ونصف، أن البطاقة الوطنية لا تفيد في سحب "عقود الازدياد" عكس اشهاراتهم التلفزيونية"
وصلت الى مركز الجماعة القروية في الصباح الباكر بعد ان غادرت المحطة على متن الحافلة على الساعة 9 ليلا. كان الوقت أمامها لزيارة بيتهم في القرية الذي هاجروه منذ أن فرض على العائلة البحث عن لقمة العيش في ضيعات سوس ماسة حيث وجهة العديد من الأهالي والجيران قبلهم.
"ارتجف قلبي، يا امي، لما وقفت أمام الباب. غادرته الروح، يا أمي، لا أحد ينتظر. أشجار الواجهة ذبلت، الجدران ينبعث منها الألم، غادرها الفرح، سقطت دموعي قبل فتح الباب، ولما فتحته كان الغبار في انتظاري ليعانقني ويواسيني، وكأنه يقول أنا من يحرس الدار. جلست على كرسي المرحوم أبي، الخشبي. هل تتذكرينه؟! وقبضت على قلبي وعيناي تجول في الفناء الذي أخذ منه الوقت الفرح وخلف له الألم.. لا أريد أن احكي أكثر لأن في الحكي ما قد يزيد من جروح فؤادك. ودعت الجدران والغبار وقلبي مكسور، يا أمي. لالتحق بمركز الجماعة البئيس، لأجد ابن الجيران الموظف بالجماعة. فهو من سرع في تهيء عقود الازدياد دون اخضاعي لقاعدة الانتظار، لأجعل من الحافلة فندقي للمبيت لليلة الثانية على التوالي"
واصلت حكايتها بصوت عال وكأنها تعوض عن جميع الأشياء الأخرى، تشتم إدارة البلدية تشتم القيادة، تشتم الدائرة وكل موظفيها، تشتم أعوان السلطة، تشتم في الماضي والحاضر.. تشتم مفتشي الشغل.. تشتم أعوان السلطة وقيادتهم.. ثم تتوقف لتنطلق تنهيدة تنمو عن مشاعر مختلفة، وتستأنف الحديث..
"منذ ان اكتريت الغرفة عند الحاجة فاطمة وانا اتعامل مع الشيخ الحسين عون السلطة. كنت أظنه سندي للحصول على شهادة السكن لاعداد جواز السفر. بعد ان رفضت الحاجة تسليمي وثيقة تمكنني من إثبات سكناي. الشيخ يعرف هذه الحقيقة، وقائد الدائرة يعرف الحاجة ويعرف كل من يسكن بيتها، ومع ذلك اختاروا جميعهم لعبة القانون، كأنهم ليسوا شهود عن حقيقة سكني عند الحاجة.. لم اكن، انتظر رؤية الشيخ الحوسين على الوجه الآخر.. غدار، وكذاب ولا كلمة له، يتقاسم الأدوار مع القائد في التخلص من تسليمي أبسط وثيقة بدعوى القانون لإرضاء الحاجة صاحبة الملك، ويحكموا علي بالعودة للمصير المظلم تحت حرائق الحقول المغطات بسبعين درهما لليوم، ولو انهم يعلمون علم اليقين بأننا نسكن، انا وبنتي، عندها منذ قدومي من دمنات إلى اليوم."
"كنت أسمع حكايات عن الإدارة وفسادها وظلمها واحتقارها، والآن وبعد أول مرة لي في الحياة قابلتها، بدت لي الحكايات المألوفة هي اقل ما يمكن أن يواجه الناس يوميا على أبوابها. وأن الفساد في القطاع الخاص هو واجهة لفساد أعمق يحميه القانون والمؤسسات.. قطاع عام وقطاع خاص، "بحال وجوه الدرهم"، كلاهما وجهان لعملة واحدة اسمها الفساد..
الإدارة، يا امي، وكر المحتالين بسند القانون، بصفة موظف، برابطة العنق. في حين انبعاثات روائح الفساد اليومي تفضحهم، وهي نفسها الرائحة المنبعثة من الباطرونا في شركة التلفيف التي تشتغلين بها والمزارع المغطات التي اشرب سمومها.."
توقفت وارخت السمع لأمها تحدثها عن المكاتب وأنه لا يجب عليها أن تغضب من مشيئة الله..
استغفرت، ثم استغفرت، ثم استغفرت. استغفرت بالثلاث، وواصلت حديثها. أفاضت في الحكي، وضربت كل المعتقد عرض الحائط وصرخت في مشيئة الله:
"إنها فكرة تافهة تخدم "الشلاهبية" والمتاجرين في محنتنا.. كلهم واجهوني بمشيئة الله، وانت أيضا، يا امي، تواسيني بها، وكأنك تقفين إلى جوارهم لجعل حياتي دوما تحت الحقول المغطات والمبيدات السامة بسبعين درهما في اليوم.. سبعين درهم في اليوم، لتستمر محنتي بين كراء غرفة وسط الجيران، والمربية التي تطالبني بالزيادة، ومتطلبات التربية، ومساعدتك في شراء الادوية، ومتطلبات شيء اسمه "العيشة الكحلة"، العيش الرديء.. سبعون درهما في اليوم لن تنقذ مصيرنا يوما من الهلاك، يا امي.."
قطعت حكايتها بعد سماع مسافر يطلب بالتوقف عند مدخل المدينة المنكوبة، لتنزل وتقطع الشارع دون إلتفات لا يمينا ولا شمالا لتأمين مرورها وسط طريق السيارات. وتترك خلفها، لباقي المسافرين، حكاية جعلتهم لا يشعرون بالوقت ولا بالمسافة التي قطعتها السيارة، في حين أن ذاكراتهم طافت حول تجارب المأساة المتنوعة.. لتختصر لهم المشهد في متابعة المعدم وهو يبدل الجهد، يفقد الكثير من قواه، من أجل أمل معلق، وحين يفتح الباب يجد نفسه أما جدار..
اما كل ما ذكرته فرغم انه فظيع، لكن مألوف. فقط طريقتها ودموعها أثناء حديثها ادخلت جميع المسافرين لقاعة التجربة ليتأمل كل واحد الهاوية السوداء تحت قدميه، والمواد المتفجرة التي تستقر في قلبه. ويتذكر كل واحد كيف عرضت التجربة، تجربة المآسي على هذه الرقعة، رقعة العمال الزراعيين، الكثير ممن يعرفهم لنوبات مميتة في سن مبكرة..