الجزء الأول: دفاعا عن الجدال
بداية أضع القارئ أمام موضوع النقاش.
على الفايسبوك نشر السيد لحبيب التيتي على صفحته يوم 10 نونبر 2024 التدوينة التالية:
"انزع عن المنطق الجدلي مفهوم القطيعة يصبح منطقا صوريا. وبذلك ينتج صاحبه خطابا غوغائيا شعبويا."
وعلى خيار التعليقات نشرت انتقادا على تدوينة السيد التيتي جاء كما يلي:
"لا يجوز في علم الطبيعة والتاريخ النظريين ، صياغة المقولات، أو تصميم الروابط، وحملها إلى الوقائع.. فالمقولة، أو الافتراض، المسبق غير المؤسس، والمقدم كمحاكمة ذهنية بلا تفكير ولا نقد لوقائع ملموسة، هي مجرد سفسطة..
الطريقة العلمية، وأعني الدياليكتيكية، تستنبط الأحكام من الوقائع وتعمل على إثباتها، بعد اكتشافها، عن طريق التجارب الملموسة قدر الإمكان. أما إنتاج الأحكام وتطبيقها على الوقائع هي مثالية مهما كان حشدها للمفاهيم المادية.."
وبعد مرور خمسة أيام على تعليقي قام السيد التيتي بالرد على نقدي دون أن يدرجه في خانة الردود على التعليق ولا أن يسجل اسم حسابي لكي أتوصل من الفايس برسالة تخبرني بوجود تعليق يعني حساب حسن العبودي. لكن لحسن الحظ توصلت برسالة من الفايس تخبرني بوجود تفاعل مع تعليقي من طرف حساب افتراضي مسجل باسم أحد قدماء جامعة ظهر المهراز، وهو اسم أعرفه حق المعرفة، ولكن لا يوجد على قائمة أصدقائي، ولم ألتقيه منذ مغادرتي للجامعة، وكان دافعا لي لفتح رسالة الفايس، وحينها ظهر لي وجود تعليق ثاني على تدوينة السيد التيتي باسمه، يرد فيه على تعليقي يقول بالحرف وبأمانة:
"تعليقك السي حسن مماحكة غبية وتروم اعطاء الدرس في الطريقة العلمية والديالكتيك وحرفة استنباط الاحكام وتلك امور لا اعتقد انك مؤهل فيها. عاش من عرف قدره. تعلموا تعلموا كما اوصى المعلم لينين."
بداية، فالطريقة التي سلكها التيتي في الرد على نقد حسن العبودي لتدوينته، بنشر النقد دون اعتماد الطرق المعروفة لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي التي تمكن المعني بالتعليق من التوصل برسالة من الفايس تخبره بوجود تعليق يهمه، تعمق بكل وضوح مضمون تعليقه وهو يقول لقرائه بطريقته الخاصة أن صاحب التعليق غير مؤهل للجدال والحوار والنقاش، لهذا لم أهتم به.
وبالمناسبة أقول: قد ابتلينا في عصر انحدار الثقافة والمعرفة بمن احترفوا مجاراة التيار بطريقتهم، بنقل حرفة تقليم الأشجار وإعمالها في مجال الفكر لسحق أحلام التمرد وازدهار الفكر، لإرغام التفكير للخضوع لسقف الانحراف. فمادام أي ناقد غير مؤهل للجدال فما علينا سوى أن ننتظر يوما يقوم فيه الموتى من القبور، ليس ليُمنحوا الحياة، فهذا مستحيل، ولكن ليُجلسونا على مقاعد المدارس ويُعلموننا كيف تحولت فاس لعاصمة العلم، قبل أن يجرها النظام لمستودع الجريمة في محاولة التخلص من تاريخ المعرفة والتضحية، وكيف نجعل الفكر يتوهج ويتقدم ويزدهر، وكيف عرفنا أثينا أكثر مما عرفنا بلداننا..
وبالمناسبة أستسمح من القارئ بسرد طريفة من فترة يمكن القول عنها فترة لخصها ماو تسي تونغ بشعار "دعوا مئة زهرة تتفتح". طريفة قد يذكرنا بها الموتى لعلنا نتعلم،. واستحضر الأديب المصري العملاق طه حسين وسنوات 1945-1948، الفترة التي كان فيها رئيسا لتحرير مجلة "الكاتب المصري"، وتجربة أقلام مصرية كان لها أثر حقيقي في الأدب والفكر مثل لويس عوض، الشاعر محمد مهدي الجواهري، والكاتب محمد رفعت، وسلامة موسى، وجميل صدقي الزهاوي، ومحمود عزمي.. والكوكبة طويلة. وفي تلك الفترة كان الكاتب المخرج المصري الراحل صدقي شفيق، الذي توفي سنة 2016، في سن المراهقة بين أربع عشرة سنة وسبع عشرة سنة، ولكن كان له ميول للكتابة، كتب مقالا في سن المراهقة المبكرة وسلمه لمجلة "الكاتب المصري"، أكيد أول شيء سيتبادر للذهن هو كيف تعامل عميد الأدب العربي، طه حسين، مع مقال طفل مراهق؟ طه حسين الأديب العملاق، ورئيس هياة التحرير لمجلة لها وزنها على المستوى العالمي، وهو من يحرر أكثر من موضوع في كل عدد، ويشتغل على محور جد ثقيل "من وراء البحار"، يتعلق بنقد مستجدات الفكر والسياسة على المستوى الأممي، طه حسين هذا، نشر مقال الطفل المراهق صبحي شفيق، ورافقه برد. لم يكتب طه حسين في رده أن صبحي طفل مراهق ليس مؤهل للكتابة، بل كتب ردا موضوعيا على المقال، باعتبار المقال أفكار، وطه حسين يعرف أن المقال مهما كان لا يمكن أن نقول عنه مقال مراهق أو مقال شاب أو مقال غير مؤهل..، وختم الرد بمطالبة صبحي شفيق أن يستمر في الكتابة.
إذن هل لا يفيد درس العمالقة وفترة "دعوا مئة زهرة تتفتح" لفهم كيف ازدهر الفكر وكانت التفاهة هي الهامش؟!
وهل قلم لحبيب التيتي أكثر مأثرة في ميدان الكتابة من طه حسين؟! أعتقد لا مجال للمقارنة، ومهما كان فإني أومن أن الديالكتيك المادي علم والعلم يمكن أن يتعلمه اي فرد مهتم وله استعداد لاكتسابه، كما نتعلم الرياضيات والهندسة، والطب، وغيرها من العلوم، ولا يقتصر على من يمكن للتيتي أو غير التيتي أن يوقع أهليتهم..
أنا أقول إن الفكر هو توأم الجدال والحوار، فمع ازدهار الفكر ينتعش الجدال والحوار والأخذ والعطاء في الفكر، وينكمش الظلام والتحجر الفكري. هذا الأسلوب عملت قوى الظلام وكل القوى الرجعية على تجريمه ومحاصرته. باعتباره طريقة تقود للحقيقة، وهم أعداء الحقيقة، لأن الحقيقة لا تخدم مصالحهم.
ومن المعروف أن مصطلح الجدال (الجدل- الديالكتيك) الذي أخذناه عن اليونانيين القدامى، وتعلمناه من أسلوب سقراط للوصول إلى الحقيقة، حيث كان سقراط يبدأ بجدال يكشف من خلاله التناقضات ليصل الى إلغاء المعرفة الزائفة وإثارة العقل للتوجه الى البحث عن الحقيقة، وبإيجاز يمكن القول أن الجدال لدى سقراط هو طريقة تمكن من معرفة العالم، ومعرفة أطراف الحوار، ووسيلة للوصول إلى الحقيقة.
وفي تقديري المتواضع أنه مهما نقوله عن الجدال فلن نذهب أبعد من فكرة سقراط واعتباره وسيلة لأن يعيد الانسان بناء أفكاره على نحو منسجم ومتماسك، ووسيلة أيضا لإثارة العقل وجعل الإنسان يسعى بشكل جدي للبحث عن الحقيقة.
فالجدال خلف آثارا في تاريخ الفكر إن لم نقل شكل محطاته البارزة، وأبرز تجارب الجدال التي لازال لها وقعها لحدود الراهن ومحط اهتمام الباحثين الجامعيين، والمهتمين بتاريخ الحركات الفكرية، جدال المعتزلة والجبرية ... جدال الخوارج والشافعي، جدال ابن سينا لفكر أرسطو في حدود ما، وجدال الغزالي مع ابن سينا في "تهافت الفلاسفة" ورد ابن رشد عليه في "تهافت التهافت".. جدال هيغل لمقولات كانط، والجدالات الفلسفية والاقتصادية التي خاضها كل من ماركس وانجلز مع معاصريهم من الهيغيليين الشباب ومع الاقتصاديين البرجوازيين وأبرزها في كتاب "الإديولوجية الألمانية" و"بؤس الفلسفة"، وجدالات لينين السياسية والفلسفية مع المناشفة ومع كاوتسكي والماخيين، والتي غطت أكبر جزء من أعماله البارزة، والجدالات التي كانت تتسلل من السجن المركزي بالقنيطرة.. وكيف أن الجدال هو أساس بناء نسق فكري لأي فكر فلسفي، والجزء الأهم في أي مذهب سياسي أو أدبي..
في كل النقاشات التي أجريتها سابقا مع السيد لحبيب التيتي، حيث كان يتهرب دائما من النقاش، اعتمدت فيها أسلوب الجدال وتبسيط الفكرة لتكون أكثر وضوحا، بعيدا عن البوليميك، وأكثر من ذلك لم أقبل لنفسي ولو مفردة تمس بشخص محاوري ولا استصغاره ولا التقليل من معارفه، كل ما اهتم به هو تفكيك أفكاره وتوضيح أخطائه والدفاع عن الأفكار التي أعتبرها صحيحة، لكن بالمقابل كان السيد التيتي دائما يختار التعالي كطريقة للهروب من الجدال وتجنب النقاش بدعوى أنه أكبر قامة من حسن العبودي، ووصل به الامر لنعت حسن العبودي ب"احد الصبية" للتهرب من الجدال بعد نشري لمقال "مواجهات سياسية في خضم معركة الشغيلة التعليمية" على مدونة "مغرب النضال والصمود: من أجل بديل جذري". ويقتصر في رده دائما على عبارات تعكس في الجوهر الهروب من الحوار والجدال، حتى بدا أن وضع التكوين الفكري بالنسبة للسيد التيتي أشبه بفضيحة مقرونة بأسلوب التعالي للتهرب والابتعاد عن الجدال. وإذا أرغم على الرد تحت تفاعلات حسابات افتراضية على فضاءات المواقع الإجتماعية مع ما يثيره إنسان يكتب أفكارا "غبية" مثلي فإن الرد دوما هو، جملة منتقاة بعناية يبرز فيها إقامته في البرج العالي مثل "لن تقدر على الخوض فيه.. "، ليعكس، بطريقة مكشوفة حتى للصبيان، دوره في إجهاض الحوار والجدال، مع العلم ان معاداة الجدال وتهميشه بإبعاده عن أساليب الماركسيين في النقاشات يخدم هجوم الطرف النقيض لتعميق سيادة الظلامية والتفاهة واللاعقل.
ولما لا أقول أن الميول والانخراط في التنسيق والتحالف مع القوى الظلامية لن يبرره سوى من اختار لنفسه معاداة الجدال، لأن الجدال سيكشف تناقضاته.
لهذا لا أستغرب من اختيار السيد التيتي لأسلوب منع استفزاز العقل، لأنها طريقة لحجب انكشاف الحقيقة حين تكون الحقيقة لا تخدم تعالي ونرجسية السيد التيتي.
قول الحقيقة من أعظم القيم الإنسانية أيها السيد التيتي. والجدال هو مفتاح الحقيقة. والنظام وأزلام النظام والقوى الإمبريالية والصهيونية هي الأطراف التي تعادي كشف الحقيقة وتعمل على تشويهها، أما المناضل وكل الأحرار هم من يقدمون الضريبة من أجل إبراز الحقيقة وإظهارها للراي العام، ومن أجل الدفاع عن حق الشعب في الوصول إليها والتحرر من أعدائها.
أما أسلوب التعالي للتهرب من الجدال وارتداء قناع الكاريزما سيحتفظ لك مؤقتا بطاقم للتصفيق، لكن ماذا بعد؟
أختصر الجواب:
- سياسة تنحدر للمستنقع
- فكر يتسطح ويتماها مع السائد
- جيل عاجز على خوض الصراع من موقع صحيح
وأكيد كل هذا يتبعه سؤال: من المسؤول عن هذا كله؟
أكيد النظام هو المجرم الأول والعدو الذي يعمل على جميع واجهات الصراع لإنتاج وضع الانحطاط والجزر. ولكن أيضا كلنا مسؤولون من أفراد وتنظيمات سياسية ونقابية وجمعوية. ومن ضمن مسؤولياتنا: قتل الجدال. فقتل الجدال هو قتل للعقل؛ هو تكوين قاعدة عاجزة على الوقوف في وجه الأغبياء والسفلة وحلفائهم المنحرفين والمرضى النفسيين الذين تحولوا لقادة ورموز ومشاهير في جميع المجالات والميادين من السياسة وصولا إلى ما يعرف في الإعلام بظاهرة "المؤثرين".
وبالمناسبة أقول كما قالت الكاتبة الشيوعية، صاحبة رواية "الموتى ينتظرون"، ديدو سوتريو: "..
"بالنسبة لي، الكاتب هو الحليف الأول للشعب"، و"الأدب هو لخدمة التاريخ والحياة. دع الحياة تسكن في الكتاب"..
وأنا أقول: لندع الحياة تسكن فيما نكتب. فلا معنى للتشدق بالجدل وبالمفاهيم الماركسية ونتهرب من الجدال. ففي الفكر لا يوجد منتصر ومنهزم، فالفكر لا يشبه لعبة كرة القدم، الفكر يحتاج للبناء والبناء يشيد باستكشاف الفكرة الصحيحة، التي تعكس الواقع الموضوعي، يعني تكشف الحقيقة، وتزيح الفكرة المزيفة والخاطئة، والانتصار هو انتصار للإنسانية على طريق التقدم لفهم الوجود.
أما النرجسية ليست سوى خنجر الثورة المضادة، وهناك من غرسه في ظهره ويتهم غيره بالطعن من الخلف.. فالأنا المتعالية، أو الأنا حين لا تهذب، تتحول لسلاح فتاك لا يسلم منه العقل..
الأنا مرض.. الأنا المتعالية وسخ الفكر.. الأنا المتعالية سم قاتل ومدمر..
والذات المناضلة فعلا هي التي تنظف نفسها من أوساخ الأنا، والأنا المتعالية، باستمرار..
ومهما كان الأمر افترض خطأً كون طريقة السيد التيتي على أرضية صائبة، وعليها أطرح السؤال: هل هناك شروط يفترض أن تتوفر في القارئ لكي ينتقد السيد التيتي المتعالي مع العلم أن السيد التيتي من قادة الصف الأول في الفكر والسياسة وسط حزب النهج الديمقراطي العمالي؟
ما المطلوب أيها السيد التيتي لتنزل من برجك لطاولة الجدال، أم مطلوب منا الصعود، وأي صعود، هل صعود الدرجات الأكاديمية أم الصعود في الهياكل التنظيمية السياسية أم النقابية أم الجمعوية، أم الصعود في المراتب الإجتماعية؟
فحسب ما تعلمته في المدرسة القاعدية، ولازلت أومن به، مع الجيل الذي رفع الماركسية اللينينية وسط شوارع فاس بعد إسقاط علم المطرقة والمنجل من أعلى الكرملين، أيام اخترت أيها السيد التيتي أنت وباقي فرسان السبعينات موجة "النضال الديموقراطي وحقوق الإنسان" و"المراجعات الفكرية والإيديولوجية"، هو أن أمام طاولة الجدال لا ندلي لا بشواهدنا المعرفية ولا بمواقعنا في السلم الاجتماعي، ولا بمراكزنا في الهياكل التنظيمية ولا بدرجاتنا الأكاديمية (بالأحرى في زمن المتاجرة بالدرجات الأكاديمية). على تلك الطاولة لا يوجد أي شرط يقيد المرء في إبداء رأيه أو انتقاده. وهذا المبدأ هو مبدأ أصيل وسط كل التنظيمات الماركسية فعلا ولدى الثوار (وليس المتشدقين بالثورة)، ولدا كل مناضل يقتنع بالشيوعية وله اخلاق شيوعية. والشيوعي فعلا لا يقلل من النقد، ولا يلزم منتقديه لتكون فكرتهم صحيحة أو خاطئة ليخوض معهم الجدال، لأن الجدال هو أحد أعمدة الماركسي التي يعد التخلي عنها أو منعها هو دليل للانحراف، هو دليل قبول التفريط في المستوى الثقافي والعلمي، وهو في العمق تنازل أمام الرجعية وكل فكر ظلامي. لهذا يختار كل منحرف عن الماركسية، أسلوب بناء العقبات، والقيود، وكل الحواجز الممكنة لمنع الجدال وقتل الانتقاد. وهكذا يتم سوق مصطلحات "أحد صبيتهم.." و"انعدام الأهلية" و"انعدام القدرة على الخوض في ذلك.." وغيرها من الذرائع التي تضيق الخناق على ممارسة الجدال والنقد.
ولتبسيط الفكرة أكثر أقول هل يُنتظَر ممن يبني الحواجز أمام النقد أن يكون قائدا ومؤطرا للعمال والفلاحين المغلوب على أمرهم، والمعدمي الوعي، وأن يرفع من مستواهم الثقافي والمعرفي، أم سيجعلهم مجرد رقم من أجل حساباته السياسية وجعل شأن الحزب هو من شأن القادة.
(يتبع)
19/11/2024