في الجزء الأول، المعنون ب"دفاعا عن الجدال"، قلت الجدال لا يشبه لعبة كرة القدم، التي يحتدم فيها الصراع للفوز بإحدى الجوائز (الذهبية او الفضية او النحاسية او الدولار..). في الجدال الصراع يجري من أجل الحقيقة. والحقيقة ليست سلعة، الحقيقة لا تحتاج لقوة عمل الانسان، الحقيقة هي أصلا موجودة خارج إرادة وقوة الانسان، وخارج دماغه. فهي شيء موضوعي. وكل ما نستطيع الوصول إليه في جدالنا هو التعبير عن انعكاسات الحقيقة في ادمغتنا، والتحقق هل انعكست بشكل صحيح في أدمغتنا ام انعكست بشكل مشوه. وحين نتوصل لاكتشافها بشكل صحيح، أي حين تنعكس في أدمغتنا كما هي في الواقع الموضوعي ونعبر عن ذلك بطريق صحيحة ونتحقق منها في تجاربنا، تتحول هذه الحقيقة الى فائدة تستفيد منها الانسانية.
فهكذا يجب النظر للجدال حول "الجدلية" لتنظيف اسطبلات "أوجياس" من مخلفات موجة "خروتشوف" المعمرة لأكثر من سبعين سنة وما رافقها من تبجح بالماركسية دون عناء دراستها، وما استنبتته من فطر بعد اسقاط علم المطرقة والمنجل من اعلى الكرملين. بمعنى نحن مطالبين بالتحقق من كل ما يقدم بهدف الوصول للحقيقة. وموضوع التحقيق هنا هو تدوينة/اطروحة السيد التيتي، هل هي إضافة صحيحة للمنطق الجدلي ام لا؟
حسب فهمي للماركسية، فالجدلية المادية لا تعطي وصفة جاهزة لكل حركة ولكنها تمنح الباحث الماركسي القدرة على تحليل الحركة التي تجابهه تحليلا علميا. ولو ان السيد التيتي يقول بسطحية فهمي للماركسية، وهذا لا يمكن لي الخوض فيه، لأني اعرف أن القراء، وقراء ما يكتبه التيتي وغيره، ليسوا بالسذاجة والبساطة بحيث يقتنعون بقول بدون تدقيق وتمحيص. لان من يقول بسطحية منتقده عليه ان يحاول ان يقنع قراءه على الاقل بإيراد نموذج او نموذجين من كتابات المنتقد تظهر سطحية فهمه. وفي هذا السياق أود أن أشير إلى ظاهرة مألوفة تتمظهر في ردود العديد من الكتابات السياسية وغير السياسية، أن الكاتب الذي يشعر بجهله وضحالة معلوماته في الموضوع الذي يناقشه يحاول أن يتجاوز مستواه الثقافي وتكوينه النظري بالتهجم غير المبرر على الآخر بطريقة تهدف توهيم قرائه بأنه أعلى من الاخر. ولكن اثبات هذا الوهم مستحيل لأن الكاتب لا يستطيع بأية صورة أن يتجاوز مستواه الفكري والنظري وتكوينه الثقافي وتربيته وأخلاقه، وتهجمه هو صورة لتلك الحقيقة، حقيقة تكوينه، والقارئ لا يحكم سوى على ما يكتبه الكاتب وليس على الأوهام. وما ينجم عن محاولاته هو هراء يبعث على السخرية.
ومهما كان الامر فهذا لا يعفي الماركسيين الفعليين، وليس ماركسيي الجملة الثورية، بكشف كل زيف أو تشويه للحقائق العلمية، وهذا يعد جدال في صلب الصراع على المستوى النظري، ومن المعارك المفترض أن تخاض في حقل النظرية.
وبداية اقول لن تكون النتيجة صادقة إلا إذا كانت المقدمة/المقدمات صادقة. فماذا يمكن القول عن تدوينة اطروحة التيتي التي تقدم لنا النتيجة بدون مقدمة، أي بدون وقائع ومعطيات، بدون موضوع البحث، ويطالبنا نحن القراء الناقدون لطريقته اللاعلمية أن "نشد الخطأ."
في هذه الحالة افترض لو أن داروين لما عاد الى لندن، بعد سفر البحث والدراسة والاستكشاف، ونشر جملة على مجلة علمية، جملة معلقة في الهواء، مثل اطروحة التيتي المعلق في الافتراض، يقول فيها "كل ما نشاهده على الأرض من كائنات حية هي نتيجة النشوء والارتقاء" وختمها بتحدي العلماء والقراء لكي يفككوا خلاصته العلمية، فهل العالم يمكن أن يكون اليوم، وصل لما وصله في علوم الاحياء (رغم الافتراض في ميدان التاريخ غير صحيح)، وهل التاريخ سيسمح لاسم داروين للخلود الى اليوم، ام سيكون مجرد مستملحة من مستملحات عصره؟! أكيد مهما سيبذل من مجهود فجملة داروين لن يعود لها التاريخ يوما واعتبارها كانت منطلق للعلوم التي أتت من بعد. لكن داروين عكس هذا الافتراض الخاطئ، قدم بحثا عظيما ليصل لقول "النشوء والارتقاء". فداروين سلك طريقة العلماء في البحث العلمي كما كارل ماركس في "راس المال"، وعمقها كطريقة تنضاف للمعرفة البشرية. هذه هي طريقة البحث العلمي. هذه هي الطريقة التي يعتمدها أي كان يتحدث في مواضيع العلم.
ومهما كان لنخرج المقدمات من العناصر الثلاث الاساسية المكونة لتدوينة/"اطروحة" التيتي. المنطق الجدلي، والقطيعة، والمنطق الصوري.
"انزع عن المنطق الجدلي مفهوم القطيعة يصبح منطقا صوريا."
فهذه الفكرة يمكن طرحها على الطريقة التالية:
المنطق الجدلي (أي الديالكتيك) _ (ناقص معنى نزع) القطيعة = (يساوي او يصير او يتحول) المنطق الصوري.
هناك قاعدة من قواعد المنطق الصوري، تلزم النتيجة المستنبطة بان تكون متضمنة في المقدمات. وهذه تعد سمة جوهرية في كل استنباط منطقي. والخروج على هذه القاعدة في المنطق الصوري يسمى بمخالفة العملية المحظورة. التي تنص على أنه ينبغي ألا يوجد في النتيجة شيء ما لم يكن موجودا في المقدمات. وهذه القاعدة في الواقع، هي نفسها القاعدة القديمة التي لا تقبل خروج شيء من لا شيء، فاستنباط أطروحة التيتي من قوانين الديالكتيك، أي من المنطق الجدلي، بتطبيق قاعدة المنطق الصوري اعلاه، تشترط تضمن المنطق الجدلي لتدوينة/أطروحة التيتي. لكن هل المنطق الجدلي يقبل بهذه القاعدة، بمعنى هل يقبل بهذا السكون، وإلزام استنباط النتائج من مقدمات تتضمنها، مع العلم أن المنطق الجدلي منطق حي يؤمن بالصيرورة وأسسه تقوم على حركة الطبيعة التي تجهل الهوية الثابتة؟
اقول لا. المنطق الجدلي لا يقبل السكون، وقد حل هذه المعادلة منطلقا من حقيقة أن أي شيء يحتوي على ضده لهذا يمكن استخراج او استنباط هذا الشيء أو الأطروحة من ضده أو ضدها. وفي المقابل المنطق الصوري يرى في طريقة المنطق الجدلي خروج على مبدأ عدم التناقض بطريقة الانطلاق من اعتبار أي شيء محدد يشكل وحدة ضدين متناقضين في صراع، والوحدة متغيرة، نسبية، والصراع مطلق، لأنها طريقة تخالف الثبات. بمعنى تخالف مبدأ الهوية، المبدأ الأول والاساسي في المنطق الصوري.
ومن جانب آخر يعد اعتماد الطريقة الديالكتيكية في هذه الحالة، أي حالة "اطروحة" التيتي، غير ممكن. لكونها لا تتوفر على شروط التحقق، لأن "المنطق الجدلي" و"القطيعة" لا يشكلان ضدان متحدان (بمعنى وحدة الضدين ونفي الضد الثاني يحدث التحول لحالة جديدة) وتحققها يقتضي ان يكون "المنطق الجدلي" نقيض "القطيعة". ف"القطيعة" تعني فصل حاسم لا رجعة فيه بين نظامين، أي فصل ما بين "الما قبل" و"الما بعد" دون رجوع "الما بعد" ل"الما قبل". وضد "المنطق الجدلي" هو اللامنطق بمعنى اللا قانون داخلي يحكم حركة المادة، يعني حركة المادة عشوائية، لهذا المنطق الجدلي والقطيعة لا يشكلان قطبي الوحدة والصراع. لذا نحن مطالبون بالتزام المنطق الصوري، لتفكيك "اطروحة" التيتي الذي اعتبره هيغل الخطوة الأولى في التفكير، قبل الارتقاء إلى العقل، الذي كان يعني الجدل، وهي طريقة طبقتها المادية الديالكتيكية، بمعنى ينبغي، في هذه الحالة، لتفكيك "أطروحة" التيتي النظر في المقدمات هل تتضمن الاستنتاج الذي استنبطت منه التدوينة/"الاطروحة".
ولحل هذه المعادلة يجب اولا الانطلاق من المنطق الجدلي، أي الديالكتيك، لأن تدوينة/اطروحة التيتي تتضمن مقدمة ضمنية وهي "المنطق الجدلي". وهذه الانطلاقة هي للنظر في علاقة المنطق الجدلي ب"القطيعة". والسؤال هو أي علاقة بين المنطق الجدلي والقطيعة؟ وهل المنطق الجدلي يتضمن القطيعة، وفي حالة تضمنه للقطيعة، نعمل بعد ذلك على إخراجها، نزعها، فصلها تعسفيا، ونتحقق في كيف سيصبح ما تبقى منه، أي من المنطق الجدلي، يعني هل سيتحول الى ثبات، وتحقق مبدأ الهوية، أي المنطق الصوري؟
وفي البداية سنضع القارئ أمام نظرة مركزة وموجزة لكلا المنطقين، فالمنطق الصوري، ويقال أيضا "الأرسطي"، هو المنطق الذي اكتشفه أرسطو ويعتبر علم أشكال وقوانين الفكر بصرف النظر عن مادة الفكر او موضوعه، ويبنى على ثلاثة مبادئ، مبدأ الهوية قانونه الأول (a هو a) والمبدأ الثاني هو قانون التناقض ويعرف أيضا بقانون عدم التناقض، والمبدأ الثالث هو قانون الثالوث المرفوع أو الممنوع، ويعتبر المبدآن الأخيرين تابعان لمبدأ الهو، أو الهوية.
والديالكتيك، أو المنطق الجدلي، هو علم قوانين حركة المادة. ويقوم أساسا على استكشاف الأضداد المتواجدة والموحدة في كل شيء، في الطبيعة والمجتمع، وتتبع صيرورتها، واستكشاف تحولاتها، وتعتبر قوانينه الثلاثة المحكمة أسسا لطريقة البحث العلمي، وهي كالتالي:
- قانون وحدة الاضداد وصراعها (صراع الاضداد).
- قانون تحول التراكمات الكمية إلى كيفية.
- قانون نفي النفي. أو ما يعرف ب"نقض النقض".
من خلال هذا التعريف المبسط تبدو معطياتنا الأولية تفتقر إلى "مفهوم القطيعة" أو "القطيعية" كما عبر عنها صاحبها السيد التيتي. ودراسة علاقة نزع القطيعة من المنطق الجدلي مع المنطق الصوري لن تتقدم دون تفكيك علاقة "مفهوم القطيعة" بالمنطق الجدلي، والقبض على هذه العلاقة هو المدخل لنقاش أو بطلان نقاش علاقة نزع القطيعة من المنطق الجدلي مع المنطق الصوري. والأسئلة التي تبدو لي أولية وضرورية هي: هل قوانين المنطق الجدلي تتضمن "القطيعة" او "القطيعية"؟ هل ممكن أن نقول ان نفي النفي يتحقق ب"القطيعة" أو هل حركة نفي النفي يمكن التعبير عنها، أو تعويضها، ب"القطيعة"؟ وهل القطيعة مفهوم يرمز ل، أو يتمثل، حالة من حالات حركة المادة؟
وقبل الانتقال للبحث في علاقة القطيعة بالمنطق الجدلي أشير أن الفخر في اكتشاف قوانين المنطق الجدلي، قوانين الجدل، يعود للعالم والفيلسوف العظيم هيغل الذي اكتشف جميع معالم قوانين الديالكتيك (المنطق الجدلي) وصاغها بطريقة محكمة، فقط هيغل كان مثاليا لهذا كان تطبيقه للمنطق الجدلي وفقا لمثاليته، وكان لماركس ورفيقه انجلز الدور التاريخي في انتشال ديالكتيك هيغل من براثين الصوفية والمثالية ووضعه على قدميه كما عبر ماركس، وذلك بتطبيقه على الفلسفة المادية فأصبحت المادية الديالكتيكية.
كانت فلسفة هيغل، موسوعة عصره، أو الفلسفة الجامع لمعارف الانسان، هي أعظم مصدر من مصادر الفلسفة إلى جانب مادية فيورباخ. (الفلسفة تعد الأولى في المصادر الثلاث للماركسية قبل الاقتصاد السياسي البرجوازي والاشتراكية الطوباوية).
فالجدل المادي هو الصيرورة الواقعية مجردة في الذهن في خطوطها العامة، وقد شكل نقلة نوعية في المنطق، مع ماركس الذي أزال عنه القشرة المثالية وأظهر جوهره العلمي، وجعله ينطلق من الواقع المادي، ويحلل آليّاته <<كما هي>>. وقد طبقه في فلسفته وصارت مادية جدلية. والمادة من وجهة نظر الفلسفة المادية الجدلية دائما في حركة. فلا وجود لمادة دون حركة، ولا حركة دون مادة. وحركة المادة لا تعرف الانقطاع أو التقطع بل في صيرورة، فكل المعارف العلمية تثبت أن الصراع بين الضدين دائم، مطلق، والوحدة نسبية. والجدل المادي هو قانون الحركة سواء في الطبيعة أم في المجتمع، يعمل خارج إرادتنا، وبمعزل عن مبادئ الانسان. وكان يعمل قبل وجودنا ككائنات حية. لهذا يعتبر علم، علم قوانين الحركة في الطبيعة والمجتمع. فقانون التناقض (وحدة وصراع الاضداد) في الحركة هو قانون طبيعي لا يختلف عن أي قانون طبيعي اخر. ووحدة الأضداد لا تنفي الصراع، فكل طرف من أطراف الصراع يحتاج لوجوده الطرف الثاني، فمثلا القول بأن <a> ونقيض<a> متحدان لا ينفي أنهما في صراع، إذ أن الوحدة ليست وحدة بين ضدين فقط، بل وحدة وصراع الضدين، وهذا التناقض هو ما يعطينا الصيرورة. كما أن المنطق الجدلي يثبت أن التضاد حقيقة مطلقة مستمرة، والوحدة حقيقة نسبية تنتفي وتحل محلها وحدة جديدة حينما يحلُّ التناقض وينتفي أحد الطرفين لتحل وحدة جديدة لنقيضين جديدين، أو انتفاء الضدين معا كما يحدث لحظة استحالة خروج الكتكوت من البيضة فيموت الكتكوت، أو مثلما يحصل حين لا يجد برعم حبة الزرع، بعد شق القشرة، ظروفا مناسبة للنمو الطبيعي فيموت فينتفي هو وحبة الزرع، وهي ظاهرة ينتفي فيها كلا الضدين الكتكوت والبيضة، في المثل الأول، وحبة الزرع والبرعم، في المثل الثاني. وكذلك قانون تحول التغيرات الكمية إلى كيفية هو قانون يصدق على الحركة في الطبيعة وعلى الحركة في المجتمع. وهذه القوانين تعمل في الطبيعة بمعزل عن الانسان، وكانت تعمل قبل وجود الانسان، وتعمل في الطبيعة وفي المجتمع، قبل وجود مجموعة من الافراد مقتنعين بموقف القطيعة مع الماضي أو مع مرحلة سابقة لحظة حسم الصراع مع الطرف النقيض المسيطر كحل للصراع ضد نظام سيطرته، في حين حتى القوانين الاقتصادية، المبنية على قوانين المادية الديالكتيكية، هي الأخرى تعمل في المجتمع باستقلال عن إرادة الانسان، ولا يستطيع الانسان تغييرها او ايقاف فاعليتها او استبدالها بقوانين أخرى تخدم نظرته، مثلما لا يستطيع العلماء تغيير أو الغاء القوانين الطبيعية التي يكتشفونها في الطبيعة خارج المجتمع مثل قوانين الميكانيكية او النسبية، او الكمياء، بل يمكن للإنسان مع اكتشافها الاستفادة منها فقط من أجل العمل وفقها لخدمة مصالحه.
والمنطق الجدلي يحكم كذلك حركة المعرفة، ف"انجلز" في كتاب "ضد دوهرينغ" يقول بأن قوانين الديالكتيك تفرض نفسها على حركة التاريخ وعلى حركة المعرفة مثلما تتحكم في حركة المادة بقوله: "لا شك انني اضطلعت بإعادة النظر في الرياضيات والعلوم الطبيعية لكي اقنع نفسي بصورة مفصلة ـــ بما لم يكن لدي اي شك فيه عموما ـــ بان في الطبيعة، ضمن صخب عارم من التغيرات التي لا تحصى، تفرض نفسها القوانين الديالكتيكية للحركة شأنها شأن القوانين التي تتحكم في التاريخ بالأحداث التي تبدو صدفية، نفس هذه القوانين تشكل بطريقة مماثلة الخيط الذي يسري عبر تأريخ تطور الفكر البشري وترتفع تدريجيا الى الوعي في الذهن البشري". بمعنى ان قوانين الديالكتيك تتحكم في كل أشكال حركة المادة بما في ذلك حركة تطور المعرفة البشرية، وتنعكس في أذهاننا عبر تاريخ تطور الفكر البشري. وتفعل باستقلال عن إرادتنا وكذلك عن إرادة أي قوة تصورها الانسان موجودة فوق الطبيعة فهي ليست مبادئ يمكن تغييرها او تبنيها لتفعل فعلها.
إن المنطق الجدلي لا يتوقف على دماغ حسن العبودي ولا أطروحة التيتي المركزة، ولا على وجود كلانا أو وجود غيرنا، يعني أن أشكال الديالكتيك لا تتعلق بتدخل ذاتية الانسان، فهي ليست مبادئ ذاتية تقوم على أرادة الانسان، لهذا نقول الديالكتيك هو مجموع قوانين موضوعية متحكمة في حركة المادة تجري في الطبيعة كما تجري في المجتمع البشري. وحقيقة حركة المادة لا يقررها حسن العبودي أو يقررها لحبيب التيتي أو أنصار هذا الطرف أو ذاك أو غيرهم، بالعكس حقيقة حركة المادة موجودة خارج ذاتنا، وهي التي تنعكس بأشكال مختلفة في أدمغتنا.
فبالعودة إلى كل المناطقة الديالكتيكيين، لا نجد واحدا منهم استعمل مصطلح القطيعة لعكس حالة من حالات حركة المادة، بل إن "ماو تسي تونغ" كان أكثر تفصيلا مبسطا في التعبير عن حالة حركة المادة في كتاب "في التناقض"، ويعتبر أن "الأشياء تتحول على الدوام من الشكل الأول إلى الشكل الثاني بلا انقطاع بينما صراع الضدين موجود في كلا الشكلين ويتم حل التناقض بواسطة الشكل الثاني. لذلك نقول إن اتحاد الضدين مشروط مؤقت نسبي، بينما الصراع بين ضدين متعارضين هو مطلق." وإن "الوحدة المشروطة النسبية تشكل مع الصراع المطلق غير المشروط حركة التناقض في جميع الاشياء". في هذا المقتطف يؤكد "ماو" أن المادة دائما في تحول من شكل إلى شكل آخر، بلا انقطاع، بلا انفصال، والتناقض فيها مطلق.
اذن "ماو تسي تونغ" من المناطقة الذين عبروا بكون التحولات لا تعرف الانقطاع، الانفصال. لأن، بكل بساطة، الانقطاع هو انقطاع التناقض بما يعنيه الموت. والفقرة أعلاه هي الفقرة الوحيدة التي تتضمن مصطلح الانقطاع، والانقطاع لا يعني القطيعة، والذي لا يمكن أن يتحقق كما عبر "ماو". أما القطيعة، بما تعنيه من قطع حاسم بين مرحلتين، فكتاب ماو لم يعتمدها كمفهوم من مفاهيم التحليل والترميز لحالة من حالات حركة صراع الطرفين النقيضين في وحدة محددة.
فقوانين الديالكتيك هي أسس طريقة الباحث العلمي في تحليل الواقع أو تحليل ظاهرة ما، بينما المصطلحات والترميزات هي عناصر مساعدة لطريقة التحليل كأوليّات التي يقوم عليها التحليل، وتصنف في إطار التحديد الصوري. ولا شك في أن كل المصطلحات والترميزات المتداولة في الماركسية، ليست قوانين ولا بطرق البحث، بل تحديدات وترميزات لمعطيات واقعية، الهدف منها هو مساعدة أدوات التحليل والطريقة على التقدم في عملية البحث.
وبعيدا عما تحمله المراجع من مفاهيم ومصطلحات، ان المنطق الجدلي يعتبر كل حركة تتألف من نقيضين يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا وثيقا، وان لا وجود لأحدهما دون الآخر بل يعتمد تطور كل واحد منهما على الآخر. فمثلا إذا اخذنا الماء كحالة من حالات المادة، فالتناقض بين حركة جزيئات الهيدروجين والاكسجين تكون في تجاذب وتشكل تناقضا مترابطا لا ينفصم أحدهما عن الاخر، وإذا قمنا بتسخين الماء تتدافع الجزيئات وتتحول إلى بخار، وإذا أخضعنا البخار المتصاعد من الماء لعملية التبريد تبدأ جزيئات الاكسجين والهيدروجين في الانجذاب مرة اخرى، ويتحول البخار إلى ماء. وإذا قمنا بتبريده لحد درجة الصفر سيتحول من السائل الى مادة صلبة. فهنا مصطلح القطيعة، بما يعنيه فصل حاسم لا رجعة فيه بين حالتين، لا يمكن أن يعكس ويحدد بشكل صحيح ظاهرة التحول من الحالة الأول إلى الثانية ومن الثانية الى الأولى. فتحقق العودة من حالة إلى حالة تزيح مصطلح القطيعة من جدول الترميز وتحديد شكل الانتقال الكلي من حالة الى حالة. لان مصطلحات الديالكتيك من المفترض أن تكون مليئة بالمحتوى، بمحتوى واقعي حي، ومتحدة مع المحتوى بشكل وثيق كما عبر عن ذلك لينين في "دفاتر فلسفية". فتعويض أو تكييف أو مطابقة مفهوم النفي بمفهوم القطيعة في حركة مادة الماء وتحولاتها، بما يحمله مفهوم القطيعة من محتوى يعكس واقع القطع الحاسم بلا رجعة لا يفي بالتعبير الصحيح عن الظاهرة، لأن ظاهرة تحول الماء من شكل سائل إلى بخار، مثلا، لا تنفي التحول من البخار إلى ماء، يعني لا تحقق القطع الحاسم بلا رجعة أي "القطيعة" بما تعنيه قطيعة لحالة "ما بعد" مع حالة "ما قبل". يعني القطع الحاسم بلا رجعة غير صحيح.
وقد قمت بعملية جرد للمصطلحات والمفاهيم الواردة في كل من الكتابين "في التناقض" لماو تسي تونغ و"دفاتر فلسفية" للينين، (حذفت فقرة طويلة جدا من هذا الجزء تتضمن جل المصطلحات والمفاهيم التي استعملها لينين وماو لأني وجدت فيها ارهاقا للقارئ) وكان تركيزي على الكتاب الأخير، لأن من خلاله ينقل لنا لينين منطق هيغل بتفاصيل دقيقة، يتابع مجلد "المنطق الموسوعة" لهيغل صفحة صفحة، الكتاب الذي قدم من خلاله هيغل عصارة بحث واسع إن لم نقل محصلة، أو للدقة أكثر اقول حاصل دراسة المعرفة الانسانية كما عبر عن ذلك لينين. ففي كل ما كتبه لينين وما نقله عن هيغل ولا فيما كتبه ماو تسي تونغ، لم أجد أثرا لمصطلح "القطيعة" كمفهوم، وكمصطلح، يعكس أو ينقل بها المناطقة الجدليين الثلاثة شكل انتقال حركة المادة من سيطرة الطرف الاول في التناقض الى سيطرة الطرف الثاني ونفي الطرف الاول.
لهذا اقول ان ربط علاقة القطيعة بالمنطق الجدلي هو عملية لجعل المنطق الجدلي يعتمد الفاعلية الواعية لذات الانسان، ونسف لعلمية المنطق الجدلي، لأن القطيعة هو مبدأ ذاتي، والمبدأ الذاتي يمكن تغييره وتركه وفقا لتغير الشروط التي تتطلبه. في حين المنطق الجدلي هو موضوعي يفعل في الطبيعة وفي المجتمع الانساني بمعزل عن إرادتنا، اي بمعزل عن مبادئنا.
مثلا نقول الشعب المغربي يلتزم بمبدأ القطيعة للمطبعين، ومقاطعة منتوجات الشركات الداعمة لحرب الابادة على الشعب الفلسطيني، بمعنى أن المقاطعة هي حالة ذاتية تتعلق بمن يتبنى موقف القطيعة ويمارسها بوعي، وهذا المبدأ ممكن تغييره او رفضه، أو التراجع عنه. في حين الصيرورة والنفي لا يمكن أن نقول عنها مبادئ ذاتية لأنها تجري خارج فاعليتنا وتحصل خارج إرادتنا، لهذا لا يمكن اعتبار القطيعة قانون من قوانين الطبيعة، ولا حالة من حالات حركة المادة، لأن حركة المادة تجري باستقلال عن إرادتنا ومبادئنا، وبمعزل عن ذات الانسان. وفي التاريخ لنا تجربة مهمة نستلهم منها الدروس، ويتخذها كل من يتبنى نظرية الطبقة العاملة بوصلة له ومرجعا تاريخيا للاسترشاد، ويتعلق الامر بثورة أكتوبر 1917، والتي انهت سلطة النظام البرجوازي واقامت دكتاتورية الطبقة العاملة وبنت المجتمع الاشتراكي، ولكن ثورة اكتوبر 1917 لم تقطع نهائيا مع نظام الملكية الصغيرة فاستمر التناقض، كما لم تقطع ثورة فبراير من قبلها مع نظام الاقطاع. لماذا لم تقطع الثورة الاشتراكية مع نظام الملكية؟ ان المجتمع يخضع في حركته لقوانين طبيعية، فلا يمكن أن تحدث القطيعة بقرار سياسي، لأن انهاء الملكية محكوم بقوانين الصراع، والتي يجب أن تدرس بشكل ملموس وليس افتراضي، فقوانين الصراع في مرحلة الاشتراكية لن تكون هي نفسها قوانين الصراع في مرحلة الرأسمالية، ففي مرحلة الاشتراكية تستمر الملكية الصغيرة، والمجتمع الجديد الاشتراكي لا يمكن أن يقضي على اشكال الملكية مرة واحدة وإلى الأبد، أي إعمال القطيعة مع الملكية مرة واحدة، بمعنى حسم التناقضات الرئيسية والثانوية مرة واحدة والفصل بين نظام ما قبل ونظام ما بعد. ففي هذه الحالة سيحتاج المجتمع الى انهار وانهار من الدماء التي لن تتوقف لان قاعدة الملكية الصغيرة قاعدة واسعة جدا في المجتمع ونزع ملكيتها سيكلف المجتمع الكثير من الضحايا. وأكثر من ذلك ان اصحاب الملكية الصغيرة هم طرف حليف للبروليتاريا في الثورة ولهم مصالحهم واهدافهم التي يدافعون عليها في الثورة. لهذا لا يمكن وضعهم في نفس موقع البرجوازية الكبيرة والاقطاعيين. ليبقى الفعل في تطوير قوانين الصراع لصالح هذا الطرف او ذاك هو الحاسم. لهذا اقول بكون دراسة تناقضات مرحلة الاتحاد السوفياتي وتطور الصراع الطبقي فيه هو من يجعلنا نفهم كيف نجحت الثورة المضادة وأعادت بناء الرأسمالية في بلدان الاتحاد السوفياتي وتفكيكه. والثورة المضادة هي عودة إلى ما قبل، وذلك حصيلة لتطور واقع الصراع الطبقي داخل مجتمع الاتحاد السوفياتي. إذا لو كانت الثورة هي هي القطيعة فلن تعود الرأسمالية إلى بلدان الاتحاد السوفياتي.
لهذا اقول ان اقحام اشكال الفعل الذاتي مثل القطيعة في المنطق الجدلي لتعويض مفهوم النفي او في السياسة لتعويض مفهوم الثورة، يعد تشويها وتزييفا للعلم.
وخلاصة القول هو ان السيد التيتي اقتبس مفهوم من مفاهيم الأبستمولوجيا وأقحمه في المنطق الجدلي. وصاغ تدوينته/اطروحته دون بحث ولا دراسة، مع العلم ان مفهوم القطيعة في الأبستمولوجيا لا يقر به كل الابستيمولوجيين. لأن المعرفة العلمية تحدث التجاوز والتضمن. ولا يوجد في التاريخ خيط فاصل وقطعي بين معرفة "الما قبل" ومعرفة "الما بعد".
إن أي نظرية تجعل من فكرة القطيعة أحد عناصر قوانين المنطق بشكل عام ستقود معتنقيها إلى العدمية، إلى اللاشيء. فالقطيعة بما هي فصل حاسم لا رجعة فيه بين نظام من الأشياء والعلاقات الجارية في الواقع عن نظام قبل لم تتحقق يوما في الطبيعة ولا في المجتمع البشري، وفي تجربة نظام الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي سابقا درس بليغ. فالثورة لم تقطع نهائيا مع اشكال الملكية، فقد استمرت الملكية الصغيرة في المجتمع الاشتراكي واستمر التناقض فيه، لأن الصراع مطلق، والتناقض لا يمكن أن ينتهي، ولن ينتهي حتى في مرحلة المجتمع الشيوعي (واعني التناقض في المجتمع الشيوعي ولا اعني الملكية، لان الحديث عن المجتمع الشيوعي هو حديث عن مجتمع تنتفي فيه الملكية، ولكن لن ينتفي فيه التناقض لان التناقض مطلق، لأنه الحياة والاستمرارية)، فقط لا يمكن أن نتكهن اليوم كيف قد يكون التناقض في المجتمع الشيوعي، ونحن الآن لا يمكن أن ندرس مجتمعا افتراضيا. وسأقدم نموذجا بسيطا من خلال التطور الذي حققته الرأسمالية بتحولها من مرحلة سيطرة البرجوازية الصناعية الى مرحلة سيطرة البرجوازية المالية، المرحلة الاولى عاشها ماركس ودرسها دراسة وافية ومعمقة ولكن لم يقل شيئا عن مرحلة الامبريالية، الى ان جاء لينين والذي عاش مرحلة الإمبريالية وقام بدراستها دراسة علمية واستخلص منها القوانين المتحكمة فيها. لهذا الدراسة العلمية تعتمد في بحثها على الشيء الواقعي الحي، والقول بانتهاء التناقضات في المجتمع الشيوعي هو تناقض مكشوف مع المادية الديالكتيكية بل هو فناء ونهاية، لان التناقض مطلق وانتهاء التناقض يناقض حقيقة اطلاقية التناقض. لهذا قلت ان معتنقي القطيعة ستقودهم أفكارهم الى العدم، أي الى الفناء.
فهكذا يجب النظر للجدال حول "الجدلية" لتنظيف اسطبلات "أوجياس" من مخلفات موجة "خروتشوف" المعمرة لأكثر من سبعين سنة وما رافقها من تبجح بالماركسية دون عناء دراستها، وما استنبتته من فطر بعد اسقاط علم المطرقة والمنجل من اعلى الكرملين. بمعنى نحن مطالبين بالتحقق من كل ما يقدم بهدف الوصول للحقيقة. وموضوع التحقيق هنا هو تدوينة/اطروحة السيد التيتي، هل هي إضافة صحيحة للمنطق الجدلي ام لا؟
حسب فهمي للماركسية، فالجدلية المادية لا تعطي وصفة جاهزة لكل حركة ولكنها تمنح الباحث الماركسي القدرة على تحليل الحركة التي تجابهه تحليلا علميا. ولو ان السيد التيتي يقول بسطحية فهمي للماركسية، وهذا لا يمكن لي الخوض فيه، لأني اعرف أن القراء، وقراء ما يكتبه التيتي وغيره، ليسوا بالسذاجة والبساطة بحيث يقتنعون بقول بدون تدقيق وتمحيص. لان من يقول بسطحية منتقده عليه ان يحاول ان يقنع قراءه على الاقل بإيراد نموذج او نموذجين من كتابات المنتقد تظهر سطحية فهمه. وفي هذا السياق أود أن أشير إلى ظاهرة مألوفة تتمظهر في ردود العديد من الكتابات السياسية وغير السياسية، أن الكاتب الذي يشعر بجهله وضحالة معلوماته في الموضوع الذي يناقشه يحاول أن يتجاوز مستواه الثقافي وتكوينه النظري بالتهجم غير المبرر على الآخر بطريقة تهدف توهيم قرائه بأنه أعلى من الاخر. ولكن اثبات هذا الوهم مستحيل لأن الكاتب لا يستطيع بأية صورة أن يتجاوز مستواه الفكري والنظري وتكوينه الثقافي وتربيته وأخلاقه، وتهجمه هو صورة لتلك الحقيقة، حقيقة تكوينه، والقارئ لا يحكم سوى على ما يكتبه الكاتب وليس على الأوهام. وما ينجم عن محاولاته هو هراء يبعث على السخرية.
ومهما كان الامر فهذا لا يعفي الماركسيين الفعليين، وليس ماركسيي الجملة الثورية، بكشف كل زيف أو تشويه للحقائق العلمية، وهذا يعد جدال في صلب الصراع على المستوى النظري، ومن المعارك المفترض أن تخاض في حقل النظرية.
وبداية اقول لن تكون النتيجة صادقة إلا إذا كانت المقدمة/المقدمات صادقة. فماذا يمكن القول عن تدوينة اطروحة التيتي التي تقدم لنا النتيجة بدون مقدمة، أي بدون وقائع ومعطيات، بدون موضوع البحث، ويطالبنا نحن القراء الناقدون لطريقته اللاعلمية أن "نشد الخطأ."
في هذه الحالة افترض لو أن داروين لما عاد الى لندن، بعد سفر البحث والدراسة والاستكشاف، ونشر جملة على مجلة علمية، جملة معلقة في الهواء، مثل اطروحة التيتي المعلق في الافتراض، يقول فيها "كل ما نشاهده على الأرض من كائنات حية هي نتيجة النشوء والارتقاء" وختمها بتحدي العلماء والقراء لكي يفككوا خلاصته العلمية، فهل العالم يمكن أن يكون اليوم، وصل لما وصله في علوم الاحياء (رغم الافتراض في ميدان التاريخ غير صحيح)، وهل التاريخ سيسمح لاسم داروين للخلود الى اليوم، ام سيكون مجرد مستملحة من مستملحات عصره؟! أكيد مهما سيبذل من مجهود فجملة داروين لن يعود لها التاريخ يوما واعتبارها كانت منطلق للعلوم التي أتت من بعد. لكن داروين عكس هذا الافتراض الخاطئ، قدم بحثا عظيما ليصل لقول "النشوء والارتقاء". فداروين سلك طريقة العلماء في البحث العلمي كما كارل ماركس في "راس المال"، وعمقها كطريقة تنضاف للمعرفة البشرية. هذه هي طريقة البحث العلمي. هذه هي الطريقة التي يعتمدها أي كان يتحدث في مواضيع العلم.
ومهما كان لنخرج المقدمات من العناصر الثلاث الاساسية المكونة لتدوينة/"اطروحة" التيتي. المنطق الجدلي، والقطيعة، والمنطق الصوري.
"انزع عن المنطق الجدلي مفهوم القطيعة يصبح منطقا صوريا."
فهذه الفكرة يمكن طرحها على الطريقة التالية:
المنطق الجدلي (أي الديالكتيك) _ (ناقص معنى نزع) القطيعة = (يساوي او يصير او يتحول) المنطق الصوري.
هناك قاعدة من قواعد المنطق الصوري، تلزم النتيجة المستنبطة بان تكون متضمنة في المقدمات. وهذه تعد سمة جوهرية في كل استنباط منطقي. والخروج على هذه القاعدة في المنطق الصوري يسمى بمخالفة العملية المحظورة. التي تنص على أنه ينبغي ألا يوجد في النتيجة شيء ما لم يكن موجودا في المقدمات. وهذه القاعدة في الواقع، هي نفسها القاعدة القديمة التي لا تقبل خروج شيء من لا شيء، فاستنباط أطروحة التيتي من قوانين الديالكتيك، أي من المنطق الجدلي، بتطبيق قاعدة المنطق الصوري اعلاه، تشترط تضمن المنطق الجدلي لتدوينة/أطروحة التيتي. لكن هل المنطق الجدلي يقبل بهذه القاعدة، بمعنى هل يقبل بهذا السكون، وإلزام استنباط النتائج من مقدمات تتضمنها، مع العلم أن المنطق الجدلي منطق حي يؤمن بالصيرورة وأسسه تقوم على حركة الطبيعة التي تجهل الهوية الثابتة؟
اقول لا. المنطق الجدلي لا يقبل السكون، وقد حل هذه المعادلة منطلقا من حقيقة أن أي شيء يحتوي على ضده لهذا يمكن استخراج او استنباط هذا الشيء أو الأطروحة من ضده أو ضدها. وفي المقابل المنطق الصوري يرى في طريقة المنطق الجدلي خروج على مبدأ عدم التناقض بطريقة الانطلاق من اعتبار أي شيء محدد يشكل وحدة ضدين متناقضين في صراع، والوحدة متغيرة، نسبية، والصراع مطلق، لأنها طريقة تخالف الثبات. بمعنى تخالف مبدأ الهوية، المبدأ الأول والاساسي في المنطق الصوري.
ومن جانب آخر يعد اعتماد الطريقة الديالكتيكية في هذه الحالة، أي حالة "اطروحة" التيتي، غير ممكن. لكونها لا تتوفر على شروط التحقق، لأن "المنطق الجدلي" و"القطيعة" لا يشكلان ضدان متحدان (بمعنى وحدة الضدين ونفي الضد الثاني يحدث التحول لحالة جديدة) وتحققها يقتضي ان يكون "المنطق الجدلي" نقيض "القطيعة". ف"القطيعة" تعني فصل حاسم لا رجعة فيه بين نظامين، أي فصل ما بين "الما قبل" و"الما بعد" دون رجوع "الما بعد" ل"الما قبل". وضد "المنطق الجدلي" هو اللامنطق بمعنى اللا قانون داخلي يحكم حركة المادة، يعني حركة المادة عشوائية، لهذا المنطق الجدلي والقطيعة لا يشكلان قطبي الوحدة والصراع. لذا نحن مطالبون بالتزام المنطق الصوري، لتفكيك "اطروحة" التيتي الذي اعتبره هيغل الخطوة الأولى في التفكير، قبل الارتقاء إلى العقل، الذي كان يعني الجدل، وهي طريقة طبقتها المادية الديالكتيكية، بمعنى ينبغي، في هذه الحالة، لتفكيك "أطروحة" التيتي النظر في المقدمات هل تتضمن الاستنتاج الذي استنبطت منه التدوينة/"الاطروحة".
ولحل هذه المعادلة يجب اولا الانطلاق من المنطق الجدلي، أي الديالكتيك، لأن تدوينة/اطروحة التيتي تتضمن مقدمة ضمنية وهي "المنطق الجدلي". وهذه الانطلاقة هي للنظر في علاقة المنطق الجدلي ب"القطيعة". والسؤال هو أي علاقة بين المنطق الجدلي والقطيعة؟ وهل المنطق الجدلي يتضمن القطيعة، وفي حالة تضمنه للقطيعة، نعمل بعد ذلك على إخراجها، نزعها، فصلها تعسفيا، ونتحقق في كيف سيصبح ما تبقى منه، أي من المنطق الجدلي، يعني هل سيتحول الى ثبات، وتحقق مبدأ الهوية، أي المنطق الصوري؟
وفي البداية سنضع القارئ أمام نظرة مركزة وموجزة لكلا المنطقين، فالمنطق الصوري، ويقال أيضا "الأرسطي"، هو المنطق الذي اكتشفه أرسطو ويعتبر علم أشكال وقوانين الفكر بصرف النظر عن مادة الفكر او موضوعه، ويبنى على ثلاثة مبادئ، مبدأ الهوية قانونه الأول (a هو a) والمبدأ الثاني هو قانون التناقض ويعرف أيضا بقانون عدم التناقض، والمبدأ الثالث هو قانون الثالوث المرفوع أو الممنوع، ويعتبر المبدآن الأخيرين تابعان لمبدأ الهو، أو الهوية.
والديالكتيك، أو المنطق الجدلي، هو علم قوانين حركة المادة. ويقوم أساسا على استكشاف الأضداد المتواجدة والموحدة في كل شيء، في الطبيعة والمجتمع، وتتبع صيرورتها، واستكشاف تحولاتها، وتعتبر قوانينه الثلاثة المحكمة أسسا لطريقة البحث العلمي، وهي كالتالي:
- قانون وحدة الاضداد وصراعها (صراع الاضداد).
- قانون تحول التراكمات الكمية إلى كيفية.
- قانون نفي النفي. أو ما يعرف ب"نقض النقض".
من خلال هذا التعريف المبسط تبدو معطياتنا الأولية تفتقر إلى "مفهوم القطيعة" أو "القطيعية" كما عبر عنها صاحبها السيد التيتي. ودراسة علاقة نزع القطيعة من المنطق الجدلي مع المنطق الصوري لن تتقدم دون تفكيك علاقة "مفهوم القطيعة" بالمنطق الجدلي، والقبض على هذه العلاقة هو المدخل لنقاش أو بطلان نقاش علاقة نزع القطيعة من المنطق الجدلي مع المنطق الصوري. والأسئلة التي تبدو لي أولية وضرورية هي: هل قوانين المنطق الجدلي تتضمن "القطيعة" او "القطيعية"؟ هل ممكن أن نقول ان نفي النفي يتحقق ب"القطيعة" أو هل حركة نفي النفي يمكن التعبير عنها، أو تعويضها، ب"القطيعة"؟ وهل القطيعة مفهوم يرمز ل، أو يتمثل، حالة من حالات حركة المادة؟
وقبل الانتقال للبحث في علاقة القطيعة بالمنطق الجدلي أشير أن الفخر في اكتشاف قوانين المنطق الجدلي، قوانين الجدل، يعود للعالم والفيلسوف العظيم هيغل الذي اكتشف جميع معالم قوانين الديالكتيك (المنطق الجدلي) وصاغها بطريقة محكمة، فقط هيغل كان مثاليا لهذا كان تطبيقه للمنطق الجدلي وفقا لمثاليته، وكان لماركس ورفيقه انجلز الدور التاريخي في انتشال ديالكتيك هيغل من براثين الصوفية والمثالية ووضعه على قدميه كما عبر ماركس، وذلك بتطبيقه على الفلسفة المادية فأصبحت المادية الديالكتيكية.
كانت فلسفة هيغل، موسوعة عصره، أو الفلسفة الجامع لمعارف الانسان، هي أعظم مصدر من مصادر الفلسفة إلى جانب مادية فيورباخ. (الفلسفة تعد الأولى في المصادر الثلاث للماركسية قبل الاقتصاد السياسي البرجوازي والاشتراكية الطوباوية).
فالجدل المادي هو الصيرورة الواقعية مجردة في الذهن في خطوطها العامة، وقد شكل نقلة نوعية في المنطق، مع ماركس الذي أزال عنه القشرة المثالية وأظهر جوهره العلمي، وجعله ينطلق من الواقع المادي، ويحلل آليّاته <<كما هي>>. وقد طبقه في فلسفته وصارت مادية جدلية. والمادة من وجهة نظر الفلسفة المادية الجدلية دائما في حركة. فلا وجود لمادة دون حركة، ولا حركة دون مادة. وحركة المادة لا تعرف الانقطاع أو التقطع بل في صيرورة، فكل المعارف العلمية تثبت أن الصراع بين الضدين دائم، مطلق، والوحدة نسبية. والجدل المادي هو قانون الحركة سواء في الطبيعة أم في المجتمع، يعمل خارج إرادتنا، وبمعزل عن مبادئ الانسان. وكان يعمل قبل وجودنا ككائنات حية. لهذا يعتبر علم، علم قوانين الحركة في الطبيعة والمجتمع. فقانون التناقض (وحدة وصراع الاضداد) في الحركة هو قانون طبيعي لا يختلف عن أي قانون طبيعي اخر. ووحدة الأضداد لا تنفي الصراع، فكل طرف من أطراف الصراع يحتاج لوجوده الطرف الثاني، فمثلا القول بأن <a> ونقيض<a> متحدان لا ينفي أنهما في صراع، إذ أن الوحدة ليست وحدة بين ضدين فقط، بل وحدة وصراع الضدين، وهذا التناقض هو ما يعطينا الصيرورة. كما أن المنطق الجدلي يثبت أن التضاد حقيقة مطلقة مستمرة، والوحدة حقيقة نسبية تنتفي وتحل محلها وحدة جديدة حينما يحلُّ التناقض وينتفي أحد الطرفين لتحل وحدة جديدة لنقيضين جديدين، أو انتفاء الضدين معا كما يحدث لحظة استحالة خروج الكتكوت من البيضة فيموت الكتكوت، أو مثلما يحصل حين لا يجد برعم حبة الزرع، بعد شق القشرة، ظروفا مناسبة للنمو الطبيعي فيموت فينتفي هو وحبة الزرع، وهي ظاهرة ينتفي فيها كلا الضدين الكتكوت والبيضة، في المثل الأول، وحبة الزرع والبرعم، في المثل الثاني. وكذلك قانون تحول التغيرات الكمية إلى كيفية هو قانون يصدق على الحركة في الطبيعة وعلى الحركة في المجتمع. وهذه القوانين تعمل في الطبيعة بمعزل عن الانسان، وكانت تعمل قبل وجود الانسان، وتعمل في الطبيعة وفي المجتمع، قبل وجود مجموعة من الافراد مقتنعين بموقف القطيعة مع الماضي أو مع مرحلة سابقة لحظة حسم الصراع مع الطرف النقيض المسيطر كحل للصراع ضد نظام سيطرته، في حين حتى القوانين الاقتصادية، المبنية على قوانين المادية الديالكتيكية، هي الأخرى تعمل في المجتمع باستقلال عن إرادة الانسان، ولا يستطيع الانسان تغييرها او ايقاف فاعليتها او استبدالها بقوانين أخرى تخدم نظرته، مثلما لا يستطيع العلماء تغيير أو الغاء القوانين الطبيعية التي يكتشفونها في الطبيعة خارج المجتمع مثل قوانين الميكانيكية او النسبية، او الكمياء، بل يمكن للإنسان مع اكتشافها الاستفادة منها فقط من أجل العمل وفقها لخدمة مصالحه.
والمنطق الجدلي يحكم كذلك حركة المعرفة، ف"انجلز" في كتاب "ضد دوهرينغ" يقول بأن قوانين الديالكتيك تفرض نفسها على حركة التاريخ وعلى حركة المعرفة مثلما تتحكم في حركة المادة بقوله: "لا شك انني اضطلعت بإعادة النظر في الرياضيات والعلوم الطبيعية لكي اقنع نفسي بصورة مفصلة ـــ بما لم يكن لدي اي شك فيه عموما ـــ بان في الطبيعة، ضمن صخب عارم من التغيرات التي لا تحصى، تفرض نفسها القوانين الديالكتيكية للحركة شأنها شأن القوانين التي تتحكم في التاريخ بالأحداث التي تبدو صدفية، نفس هذه القوانين تشكل بطريقة مماثلة الخيط الذي يسري عبر تأريخ تطور الفكر البشري وترتفع تدريجيا الى الوعي في الذهن البشري". بمعنى ان قوانين الديالكتيك تتحكم في كل أشكال حركة المادة بما في ذلك حركة تطور المعرفة البشرية، وتنعكس في أذهاننا عبر تاريخ تطور الفكر البشري. وتفعل باستقلال عن إرادتنا وكذلك عن إرادة أي قوة تصورها الانسان موجودة فوق الطبيعة فهي ليست مبادئ يمكن تغييرها او تبنيها لتفعل فعلها.
إن المنطق الجدلي لا يتوقف على دماغ حسن العبودي ولا أطروحة التيتي المركزة، ولا على وجود كلانا أو وجود غيرنا، يعني أن أشكال الديالكتيك لا تتعلق بتدخل ذاتية الانسان، فهي ليست مبادئ ذاتية تقوم على أرادة الانسان، لهذا نقول الديالكتيك هو مجموع قوانين موضوعية متحكمة في حركة المادة تجري في الطبيعة كما تجري في المجتمع البشري. وحقيقة حركة المادة لا يقررها حسن العبودي أو يقررها لحبيب التيتي أو أنصار هذا الطرف أو ذاك أو غيرهم، بالعكس حقيقة حركة المادة موجودة خارج ذاتنا، وهي التي تنعكس بأشكال مختلفة في أدمغتنا.
فبالعودة إلى كل المناطقة الديالكتيكيين، لا نجد واحدا منهم استعمل مصطلح القطيعة لعكس حالة من حالات حركة المادة، بل إن "ماو تسي تونغ" كان أكثر تفصيلا مبسطا في التعبير عن حالة حركة المادة في كتاب "في التناقض"، ويعتبر أن "الأشياء تتحول على الدوام من الشكل الأول إلى الشكل الثاني بلا انقطاع بينما صراع الضدين موجود في كلا الشكلين ويتم حل التناقض بواسطة الشكل الثاني. لذلك نقول إن اتحاد الضدين مشروط مؤقت نسبي، بينما الصراع بين ضدين متعارضين هو مطلق." وإن "الوحدة المشروطة النسبية تشكل مع الصراع المطلق غير المشروط حركة التناقض في جميع الاشياء". في هذا المقتطف يؤكد "ماو" أن المادة دائما في تحول من شكل إلى شكل آخر، بلا انقطاع، بلا انفصال، والتناقض فيها مطلق.
اذن "ماو تسي تونغ" من المناطقة الذين عبروا بكون التحولات لا تعرف الانقطاع، الانفصال. لأن، بكل بساطة، الانقطاع هو انقطاع التناقض بما يعنيه الموت. والفقرة أعلاه هي الفقرة الوحيدة التي تتضمن مصطلح الانقطاع، والانقطاع لا يعني القطيعة، والذي لا يمكن أن يتحقق كما عبر "ماو". أما القطيعة، بما تعنيه من قطع حاسم بين مرحلتين، فكتاب ماو لم يعتمدها كمفهوم من مفاهيم التحليل والترميز لحالة من حالات حركة صراع الطرفين النقيضين في وحدة محددة.
فقوانين الديالكتيك هي أسس طريقة الباحث العلمي في تحليل الواقع أو تحليل ظاهرة ما، بينما المصطلحات والترميزات هي عناصر مساعدة لطريقة التحليل كأوليّات التي يقوم عليها التحليل، وتصنف في إطار التحديد الصوري. ولا شك في أن كل المصطلحات والترميزات المتداولة في الماركسية، ليست قوانين ولا بطرق البحث، بل تحديدات وترميزات لمعطيات واقعية، الهدف منها هو مساعدة أدوات التحليل والطريقة على التقدم في عملية البحث.
وبعيدا عما تحمله المراجع من مفاهيم ومصطلحات، ان المنطق الجدلي يعتبر كل حركة تتألف من نقيضين يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا وثيقا، وان لا وجود لأحدهما دون الآخر بل يعتمد تطور كل واحد منهما على الآخر. فمثلا إذا اخذنا الماء كحالة من حالات المادة، فالتناقض بين حركة جزيئات الهيدروجين والاكسجين تكون في تجاذب وتشكل تناقضا مترابطا لا ينفصم أحدهما عن الاخر، وإذا قمنا بتسخين الماء تتدافع الجزيئات وتتحول إلى بخار، وإذا أخضعنا البخار المتصاعد من الماء لعملية التبريد تبدأ جزيئات الاكسجين والهيدروجين في الانجذاب مرة اخرى، ويتحول البخار إلى ماء. وإذا قمنا بتبريده لحد درجة الصفر سيتحول من السائل الى مادة صلبة. فهنا مصطلح القطيعة، بما يعنيه فصل حاسم لا رجعة فيه بين حالتين، لا يمكن أن يعكس ويحدد بشكل صحيح ظاهرة التحول من الحالة الأول إلى الثانية ومن الثانية الى الأولى. فتحقق العودة من حالة إلى حالة تزيح مصطلح القطيعة من جدول الترميز وتحديد شكل الانتقال الكلي من حالة الى حالة. لان مصطلحات الديالكتيك من المفترض أن تكون مليئة بالمحتوى، بمحتوى واقعي حي، ومتحدة مع المحتوى بشكل وثيق كما عبر عن ذلك لينين في "دفاتر فلسفية". فتعويض أو تكييف أو مطابقة مفهوم النفي بمفهوم القطيعة في حركة مادة الماء وتحولاتها، بما يحمله مفهوم القطيعة من محتوى يعكس واقع القطع الحاسم بلا رجعة لا يفي بالتعبير الصحيح عن الظاهرة، لأن ظاهرة تحول الماء من شكل سائل إلى بخار، مثلا، لا تنفي التحول من البخار إلى ماء، يعني لا تحقق القطع الحاسم بلا رجعة أي "القطيعة" بما تعنيه قطيعة لحالة "ما بعد" مع حالة "ما قبل". يعني القطع الحاسم بلا رجعة غير صحيح.
وقد قمت بعملية جرد للمصطلحات والمفاهيم الواردة في كل من الكتابين "في التناقض" لماو تسي تونغ و"دفاتر فلسفية" للينين، (حذفت فقرة طويلة جدا من هذا الجزء تتضمن جل المصطلحات والمفاهيم التي استعملها لينين وماو لأني وجدت فيها ارهاقا للقارئ) وكان تركيزي على الكتاب الأخير، لأن من خلاله ينقل لنا لينين منطق هيغل بتفاصيل دقيقة، يتابع مجلد "المنطق الموسوعة" لهيغل صفحة صفحة، الكتاب الذي قدم من خلاله هيغل عصارة بحث واسع إن لم نقل محصلة، أو للدقة أكثر اقول حاصل دراسة المعرفة الانسانية كما عبر عن ذلك لينين. ففي كل ما كتبه لينين وما نقله عن هيغل ولا فيما كتبه ماو تسي تونغ، لم أجد أثرا لمصطلح "القطيعة" كمفهوم، وكمصطلح، يعكس أو ينقل بها المناطقة الجدليين الثلاثة شكل انتقال حركة المادة من سيطرة الطرف الاول في التناقض الى سيطرة الطرف الثاني ونفي الطرف الاول.
لهذا اقول ان ربط علاقة القطيعة بالمنطق الجدلي هو عملية لجعل المنطق الجدلي يعتمد الفاعلية الواعية لذات الانسان، ونسف لعلمية المنطق الجدلي، لأن القطيعة هو مبدأ ذاتي، والمبدأ الذاتي يمكن تغييره وتركه وفقا لتغير الشروط التي تتطلبه. في حين المنطق الجدلي هو موضوعي يفعل في الطبيعة وفي المجتمع الانساني بمعزل عن إرادتنا، اي بمعزل عن مبادئنا.
مثلا نقول الشعب المغربي يلتزم بمبدأ القطيعة للمطبعين، ومقاطعة منتوجات الشركات الداعمة لحرب الابادة على الشعب الفلسطيني، بمعنى أن المقاطعة هي حالة ذاتية تتعلق بمن يتبنى موقف القطيعة ويمارسها بوعي، وهذا المبدأ ممكن تغييره او رفضه، أو التراجع عنه. في حين الصيرورة والنفي لا يمكن أن نقول عنها مبادئ ذاتية لأنها تجري خارج فاعليتنا وتحصل خارج إرادتنا، لهذا لا يمكن اعتبار القطيعة قانون من قوانين الطبيعة، ولا حالة من حالات حركة المادة، لأن حركة المادة تجري باستقلال عن إرادتنا ومبادئنا، وبمعزل عن ذات الانسان. وفي التاريخ لنا تجربة مهمة نستلهم منها الدروس، ويتخذها كل من يتبنى نظرية الطبقة العاملة بوصلة له ومرجعا تاريخيا للاسترشاد، ويتعلق الامر بثورة أكتوبر 1917، والتي انهت سلطة النظام البرجوازي واقامت دكتاتورية الطبقة العاملة وبنت المجتمع الاشتراكي، ولكن ثورة اكتوبر 1917 لم تقطع نهائيا مع نظام الملكية الصغيرة فاستمر التناقض، كما لم تقطع ثورة فبراير من قبلها مع نظام الاقطاع. لماذا لم تقطع الثورة الاشتراكية مع نظام الملكية؟ ان المجتمع يخضع في حركته لقوانين طبيعية، فلا يمكن أن تحدث القطيعة بقرار سياسي، لأن انهاء الملكية محكوم بقوانين الصراع، والتي يجب أن تدرس بشكل ملموس وليس افتراضي، فقوانين الصراع في مرحلة الاشتراكية لن تكون هي نفسها قوانين الصراع في مرحلة الرأسمالية، ففي مرحلة الاشتراكية تستمر الملكية الصغيرة، والمجتمع الجديد الاشتراكي لا يمكن أن يقضي على اشكال الملكية مرة واحدة وإلى الأبد، أي إعمال القطيعة مع الملكية مرة واحدة، بمعنى حسم التناقضات الرئيسية والثانوية مرة واحدة والفصل بين نظام ما قبل ونظام ما بعد. ففي هذه الحالة سيحتاج المجتمع الى انهار وانهار من الدماء التي لن تتوقف لان قاعدة الملكية الصغيرة قاعدة واسعة جدا في المجتمع ونزع ملكيتها سيكلف المجتمع الكثير من الضحايا. وأكثر من ذلك ان اصحاب الملكية الصغيرة هم طرف حليف للبروليتاريا في الثورة ولهم مصالحهم واهدافهم التي يدافعون عليها في الثورة. لهذا لا يمكن وضعهم في نفس موقع البرجوازية الكبيرة والاقطاعيين. ليبقى الفعل في تطوير قوانين الصراع لصالح هذا الطرف او ذاك هو الحاسم. لهذا اقول بكون دراسة تناقضات مرحلة الاتحاد السوفياتي وتطور الصراع الطبقي فيه هو من يجعلنا نفهم كيف نجحت الثورة المضادة وأعادت بناء الرأسمالية في بلدان الاتحاد السوفياتي وتفكيكه. والثورة المضادة هي عودة إلى ما قبل، وذلك حصيلة لتطور واقع الصراع الطبقي داخل مجتمع الاتحاد السوفياتي. إذا لو كانت الثورة هي هي القطيعة فلن تعود الرأسمالية إلى بلدان الاتحاد السوفياتي.
لهذا اقول ان اقحام اشكال الفعل الذاتي مثل القطيعة في المنطق الجدلي لتعويض مفهوم النفي او في السياسة لتعويض مفهوم الثورة، يعد تشويها وتزييفا للعلم.
وخلاصة القول هو ان السيد التيتي اقتبس مفهوم من مفاهيم الأبستمولوجيا وأقحمه في المنطق الجدلي. وصاغ تدوينته/اطروحته دون بحث ولا دراسة، مع العلم ان مفهوم القطيعة في الأبستمولوجيا لا يقر به كل الابستيمولوجيين. لأن المعرفة العلمية تحدث التجاوز والتضمن. ولا يوجد في التاريخ خيط فاصل وقطعي بين معرفة "الما قبل" ومعرفة "الما بعد".
إن أي نظرية تجعل من فكرة القطيعة أحد عناصر قوانين المنطق بشكل عام ستقود معتنقيها إلى العدمية، إلى اللاشيء. فالقطيعة بما هي فصل حاسم لا رجعة فيه بين نظام من الأشياء والعلاقات الجارية في الواقع عن نظام قبل لم تتحقق يوما في الطبيعة ولا في المجتمع البشري، وفي تجربة نظام الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي سابقا درس بليغ. فالثورة لم تقطع نهائيا مع اشكال الملكية، فقد استمرت الملكية الصغيرة في المجتمع الاشتراكي واستمر التناقض فيه، لأن الصراع مطلق، والتناقض لا يمكن أن ينتهي، ولن ينتهي حتى في مرحلة المجتمع الشيوعي (واعني التناقض في المجتمع الشيوعي ولا اعني الملكية، لان الحديث عن المجتمع الشيوعي هو حديث عن مجتمع تنتفي فيه الملكية، ولكن لن ينتفي فيه التناقض لان التناقض مطلق، لأنه الحياة والاستمرارية)، فقط لا يمكن أن نتكهن اليوم كيف قد يكون التناقض في المجتمع الشيوعي، ونحن الآن لا يمكن أن ندرس مجتمعا افتراضيا. وسأقدم نموذجا بسيطا من خلال التطور الذي حققته الرأسمالية بتحولها من مرحلة سيطرة البرجوازية الصناعية الى مرحلة سيطرة البرجوازية المالية، المرحلة الاولى عاشها ماركس ودرسها دراسة وافية ومعمقة ولكن لم يقل شيئا عن مرحلة الامبريالية، الى ان جاء لينين والذي عاش مرحلة الإمبريالية وقام بدراستها دراسة علمية واستخلص منها القوانين المتحكمة فيها. لهذا الدراسة العلمية تعتمد في بحثها على الشيء الواقعي الحي، والقول بانتهاء التناقضات في المجتمع الشيوعي هو تناقض مكشوف مع المادية الديالكتيكية بل هو فناء ونهاية، لان التناقض مطلق وانتهاء التناقض يناقض حقيقة اطلاقية التناقض. لهذا قلت ان معتنقي القطيعة ستقودهم أفكارهم الى العدم، أي الى الفناء.
شارك هذا الموضوع على: ↓