بداية أُذكر بقانون فيزيائي معروف باسم قانون حفظ الطاقة ينص أن أي نظام معزول خلال التفاعل داخل النظام، الطاقة لا تستحدث من العدم ولا تنعدم ولكن
يمكن تحويلها من شكل لآخر. وبمقتضى هذا القانون لا يمكن للطاقة، شأنها شأن ركيزتها المادة، أن تُخلق ولا أن تُفنى. وما تفعله في شروط معينة هو انها تتحول تنقلب من شكل الى آخر. مثلا الطاقة الميكانيكية تنقلب الى حرارة، في حالة الصدام او الاحتكاك، كما تتحول الطاقة الحرارية الى طاقة ميكانيكية مثلما يحصل باستعمالنا الفحم الحجري كطاقة لتشغيل محركات القطارات القديمة.
وبالنظر لهذا القانون نتوصل لوجود حركة دوران في فراغ داخل أي نظام منعزل في الطبيعة، والسؤال هل الحركة في هذا الشكل من النظام لن تكون جدلية، وان حقا هيغل وماركس لا يقبلان بها لانها تدور في حلقة مفرغة؟!
وعليه أتساءل ما يريد التيتي ان يقوله برفضه للحركة الكيماوية التي تنعكس في تحولات الماء من السائل لغاز ومن الغاز لسائل بمبرر كون هيغل والماركسيين يرفضون الدوران في الحلقة المفرغة؟ هل يعني ان هذه الحركة الكيماوية لا تحكمها قوانين الجدل؟
إن هيغل وماركس يؤكذان أن المادة في حركة وفي تطور وتغير. فاين وجد السيد التيتي رفضهما لشكل من أشكال الحركة؟
إن القول برفضهما لشكل من اشكال الحركة لا يعني سوى ان جدلهما جدل ذاتي وليس موضوعي، بمعنى ليس بعلم. ولهذا اقول إن مثل هذا القول يعد من الأكاذيب الكبرى، افتراء.
وللأسف أن انجلز بدوره اعتمد في شرحه للديالكتيك مثال الماء وتحولاته، بغاية تبسيط الفكرة لكي يستوعبها العمال المغلوب على أمرهم.
ورفض مثال الماء من طرف التيتي باختلاق الأكاذيب هو كون المثال لم يترك لمفهومه/"قطيعته" اي متسع للتسلل للمنطق الجدلي.
عموما سأعود لنفس المثل وسأعمقه اكثر، ولن اعير اي اهتمام لأكاذيب التيتي، ولا لأحكام القيمة التي استعملها للتهجم دون أن يحلل ولو فكرة واحدة، لأن الأهم هو تقديم القارئ وبالدرجة الأولى المعنيين بالنظرية العلمية، الماركسية اللينينية، للوصول الى الحقيقة وإزاحة كل ما يلفها من لبس.
فالأمثلة التي اعتمدتها في نقاشي السابق تسمى الشكل الكيميائي للحركة، والشكل البيولوجي للحركة، كما اعتمدت ايضا شكل اجتماعي للحركة الذي يطرأ على الحياة الاجتماعية في شخص تجربة الاتحاد السوفياتي.
وكما شرحت في الجزء الاخير من خلال مقتطف لانجلز، فبالنسبة له الحركة تضم في ذاتها جميع التغيرات والعمليات التي تحدث في الكون بدأً من الانتقال البسيط وصولا الى الفكر. ومن خلال هذه الفكرة نستخلص أن الحركة هي كل تغير يحدث في المادة والمجتمع. وكذلك أكدت ان المادية التاريخية تعتبر كل جسم في حركة ولا توجد مادة دون حركة. وان العلم أثبت ولازال يثبت ما استخلصته الفلسفة المادية الجدلية في القرن التاسع عشر.
وقد اشرت ان قوانين الجدل ترتبط بعضها ببعض، ويكمل بعضها البعض وتعطينا في مجملها أشمل فكرة عن تطور العالم..
إذا كان مثال تبخر الماء وتحوله لبخار والتحول في الاتجاه المعاكس يعد حلقة مفرغة يرفضها التيتي بالافتراء على هيغل والماركسية فأكيد سيرفض حتى مثال حركة الأجسام التي نقذفها في السماء وتعود الى الأرض لان اي جسم نقذفه بأيدينا في السماء يسقط على الارض، لكونها حلقة مفرغة. ولا أدري هل بإمكانه ازالة العديد من اشكال حركة المادة من الوجود حتى يتحقق في الممارسة من صحة "قطيعته".
إن الحقيقة أيها السيد التيتي توجد خارج إرادتنا وخارج إرادة الذين سبقونا، وعلم المادية الجدلية لم يُبن على انتقاء اشكال الحركة.
لهذا اعتبر المقطع اسفله، للسيد التيتي، فيه افتراء وكذب ومحورة مقصودة ومكشوفة.
يقول السيد التيتي في مقال "إذا كنت لا تعرف العلم فلا تعاند في الزيادة فيه" وهو يرد على مقال "دفاعا عن الجدال.. دفاعا عن الجدل" [ما سيأتي بين قوسين فهو من تعليقي]: "لقد ناضل هيغل نفسه ضد الذين يعتبرون أن جدله يبرهن على تكرار عملية نفي النفي إلى ما لانهاية، ورفض ذلك رفضا قاطعا في كتابه علم المنطق. كما ان ماركس ومعه تلامذته اعتبروا الجدل المادي ينتج التجاوز وليس التكرار والدوران في الحلقة المفرغة (التجاوز لا يعني عزل الظواهر الطبيعية والمجتمعية ورفض الظواهر التي تتكرر في الطبيعة، بل درسوا بشكل شامل تلك الظواهر على ضوء ما وصلته المعرفة الانسانية في تاريخهم، ومن خلالها تم اثبات صحة اكتشاف هيغل اي اثبات صحة قوانين الديالكتيك، وظاهرة التبخر وتحول البخار الى امطار وثلوج لا تعد دراستها دورانا في حلقة مفرغة، كما لا تعد دراسة التحولات التي تحصل في حبة الزرع بتحولها الى نبتة ومن نبتة الى حبات زرع جديدة، دوران في حلقة مفرغة، بل هي حركات كيماوية وبيولوجية تحدث في الطبيعة، وهي حركات ديالكتيكية. اما مبرر التيتي هو مجرد افتراء. وهذا القول ينم عن ان السيد التيتي يقوم بعملية اخضاع الديالكتيك لما ينفعه للتهرب من الجدال والبحث والدراسة، واكثر من ذلك، الحديث هكذا دون مرجع هو مجرد كلام عام يلفق.) ولان صاحبنا لم يطلع على تنبيه هيغل أم لم يعره الاهتمام، فانه ارتكب بدوره نفس الخطأ الذي حذر منه هيغل (اين الخطأ في اعطاء المثال. ام ان مثال التحولات التي تحصل في تجارب الماء لا يخدم قطيعتك). هاكم ما كتبه صاحبنا لما تناول مفهوم نفي النفي (المثل لم يتناول قانون نفي النفي، والنص لازال موجودا، وهذا يعني أنك تلصق اي شيء باي شيء لتدبيج ردك) وطبقه على الماء الذي يدور في حلقة مفرغة." (انتهى الاقتباس)
ويضيف أيضا، في نفس المقال السابق، بالقول: "فإن نكران القطيعة أو استبعادها، يسقط صاحبها في النظرة الأحادية والسطحية وهو الاكتفاء بالتحولات الكمية المتواصلة (من اي فقرة استقيت هذا الفهم أيها "العالم العلامة"، كون صاحب المقال ينكر التحول النوعي ام أن خير خطة للدفاع هي الهجوم) وخروج الجديد من القديم من دون قفزة نوعية، وهذا هو منطق التحول السلمي والبرونشتينية والكاوتسكية" (انتهى الاقتباس)
هذا يسمى قمة التسنطيح، بما تحمله من معنى في اللهجة المغربية.
طريقة الهروب وتكييف الافكار ووضعها في قالب للهجوم عليها لا يفيد في العلم. ولهذا اقول ان استخلاصك مركب عجيب، وهروب من دراسة أحد اشكال حركة المادة، والمعروفة بشكل من اشكال الحركة الكيماوية والذي تم تقديمه كمثال يفنذ مفهوم "القطيعة" بكونه لا يشمل ولا ينطبق على جميع التحولات التي تحدث في الظاهرات، بل كل التحولات دون استثناء، من خلال القول أن تجربة تحول الماء الى بخار لا تنفي تحول البخار الى ماء. بمعنى إذا قلنا طبقا لفهم التيتي أنه كلما تصاعدت الحرارة كلما تسرع التدافع بين ذرات الاكسجين والهدروجين، وحين تصل الحرارة الى 100 درجة حرارية نستدعي مفهوم التيتي، القطيعة او القطيعية، لنقول تحدث "القطيعة" ونحصل على البخار، لن يكون تعبيرنا هذا عن الظاهرة شاملا وصحيحا لان البخار بخضوعه لعملية التبريد يتحول بدوره إلى ماء، وتثبت ان "القطيعة" بين البخار كشكل "ما قبل" والماء كشكل "ما بعد" غير صحيحة. وهذه التجربة في الاتجاه المعاكس جارية في الطبيعة، وتجعل من "القطيعة" مفهوم بلا معنى، باعتبار "القطيعة" هي الفصل الحاسم بلا عودة ما بين "الما قبل" و"الما بعد". وكل ما يجري من تطور في الطبيعة لا نقول عنه أن هيغل او الماركسيين لا يقبلونه، فهذه فكرة غير علمية، لأنها تقدم الماركسيين وهيغل كدارسين يخضعون الطبيعة لجدلهم. وهذا تشويه وافتراء وضرب علمية قوانين الجدل، باعتبارها قوانين عامة تحكم اشكال حركة المادة والمجتمع بدون استثناء، قوانين تخضع لها كل تغيرات المادة، وتنصاع لها وتشملها. ولهذا اقول ان ما كتبه التيتي هو أكبر افتراء في حق الجدل. وهو افتراء مقصود للتهرب من دراسة حركة تحدث في الطبيعة دراسة ديالكتيكية. وأن عملية التحول من ماء الى بخار، ثم من بخار الى ماء هي كلها حركات ديالكتيكية، حصل فيها التراكم الكمي وأفضى للتحول النوعي في الحالة الأولى عند بلوغ الحرارة 100 درجة وكذا في الاتجاه المعاكس عند هبوط درجة حرارة البخار الى اقل من 100 درجة حرارية، وهذه ظاهرة تجري في الطبيعة وليس في عقل حسن العبودي، وكل ظاهرة في الطبيعة يجب دراستها دراسة علمية، أي دراسة ديالكتيكية، وليس التهرب منها وقول أن هيغل وماركس رفضا الدوران في الحلقة المفرغة، وهو قول كاذب. وانا قلت ان مفهوم القطيعة بما تعنيه القطع الحاسم بلا رجعة مع شكل حركة المادة ل"ما قبل" مع شكل حركة المادة ل"ما بعد" لا يتحقق في هذه الظاهرة والمفهوم الذي سيعبر عن تلك النقلة او القفزة تعبيرا صحيحا هو المفهوم الذي سيشمل جميع الظاهرات، ويعكس، بشكل صحيح، لحظة انتفاء السمات والخصائص الجوهرية القديمة وبروز سمات وخصائص جديدة. بمعنى ملامسة تحول الظاهرة القديمة الى الظاهرة الجديدة.
المفهوم أيها "العالم"، الذي نزل اخيرا للرد على من "لا يعرف العلم" باحكام القيمة، هو الذي يشمل جميع الظاهرات، ويعكسها بشكل صحيح، بتضمينه أكثر السمات جوهرية واكثرها عمومية ولا ينطبق على ظاهرة او بعض الظواهر فقط، بل يشمل كل الظواهر. أما إذا كان المفهوم يؤتى به لاستعمالنا الذاتي لوصف واقع دون أن يعكس جوهر خصائصه المميزة لذلك الواقع الموضوعي ولتعويض مفهوم أكثر شمولية وحيوية يعكس الحالة بعمق ويعكس جدلية الذات والموضوع، فهذا لا يخلق سوى العجز عن عكس الفكرة الموضوعية بما هي وحدة المفهوم والواقع.
إن الفكر بارتقائه من الملموس المحدد الى المجرد لا يبتعد عن الحقيقة الموضوعية القائمة خارج ذاتنا، بل يقترب منها، إذا كان فكرا يتوخى العلم، أي يتوخى الحقيقة. لهذا نجد أن كل التجريدات العلمية وما يحصل فيها من اجتهادات وتطوير هي نتيجة اعمال جادة وصارمة لعكس الطبيعة وقوانينها على نحو أدق وأعمق واتم. لكن التيتي عكس ذلك فهو يقتبس من المحرفين ويتنكر لاقتباسه، وينكر الحقيقة التاريخية، لشق الطريق للانحراف.
فهذا هو النقاش، وهذا هو الفهم المادي حسب معرفتي البسيطة انا الذي "لا يعرف العلم" كما وصفتني، ايها السيد التيتي، "العالم العلامة" الذي لا تخف عنه خفية، والذي يفترض ان تخوض فيه وتثبت العكس، وتدافع بكون مفهوم "القطيعة" هو الأكثر شمولا والأكثر عمومية والاكثر تعبيرا عن السمات الجوهرية، ليس لظاهرة فقط او بعض الظواهر بل يشمل كل الظواهر، مثلما هو مفهوم التحول النوعي، ومفهوم النفي ولا اعني قانون نفي النفي (وانا لم اقل نفي النفي في تناول ظاهرة تحول الماء الى بخار، فقط التيتي يلعب الدور الخارجي في تقديم النص على هواه، وتقديمه للقارئ لتسهيل نقده ولا يعرف انه ينتقد افكاره وليس أفكار الكاتب. فانا كتبت فقط نفي، اما قانون نفي النفي فلم افصل فيه نظرا لمنهجية البحث التي تقتضي دراسة القطيعة في المستويات التي يحتمل ان يقحمها صاحب الاطروحة التي علقت في الفضاء الافتراضي دون مقدمات)، لأن شرح قانون نفي النفي يستدعي دراسة تحول الصلب الى سائل وتحول السائل الى غاز، وهذه "دورة"/حركة حياة وتقدم وازدهار وليس "دورة مفرغة" وسكون وموت. وهي ظاهرة من ظواهر الطبيعة. وقوانين الجدل هي قوانين عامة لأشكال حركة المادة بدون استثناء، بمعنى هي قوانين تشمل اشكال حركات ظواهر الطبيعة والمجتمع والفكر، ولا تنتقي الظواهر، وتميز بين "من تدور في حلقة مفرغة" من غيرها. فلو كان الامر كذلك ما سميناه علم. واستدعائي لظاهرة محددة تحدث في الواقع هو بهدف خدمة طريقة النقد لاستكشاف اخطاء التيتي وفرز الحقيقة وتنقيتها من شوائب التشويه.
وهو نفس الشيء الذي أشرت له في تفحص تجربة الثورة البلشفية وما آل إليه الوضع في الاتحاد السوفياتي. وقد عبرت عن الثورة بمفهوم الثورة ولم أنكرها، ولم أعتبرها "قطيعة"، ولن أعتبرها "قطيعة"، بل هي ثورة كما عبرت عن ذلك، وليس كما حالُ حزب التيتي، الذي تنكر لدكتاتورية البروليتارية، وللثورة ويعوضها في شعاره السياسي بإسقاط النظام المخزني، وهو مفهوم شعبوي يمكنه من التستر على حقيقة الصراع الطبقي، وعن اطرافه المتصارعة. وقلت أن الثورة لا تعني "القطيعة" ابدا، وان من يقول ب"القطيعة" هدفه تعويض مفهوم الثورة ب"القطيعة"، وهذا ينطبق على التيتي بشكل واضح في ما كتبه، بحيث يقول ان "القطيعة" هي الثورة ثم يقول ان "القطيعة" هي القفزة النوعية. وعبرت أيضا أن الملكية الصغيرة استمرت في المجتمع الاشتراكي، بمعنى ان المجتمع الاشتراكي لم يقطع كليا مع نظام الملكية ووضحت لماذا، واشرت أن الانحراف، تحريفية خروتشوف، كانت بمثابة دفع للصراع الطبقي في اتجاه إنضاج شروط إعادة الرأسمالية الى بلدان الاتحاد السوفييتي وهو الأمر الذي حدث فعلا في عهد غورباتشوف. وقد استعملت هذه الظاهرة التاريخية للتأكيد على أن الثورة لا تعني "القطيعة"، فلو كانت الثورة تعني القطيعة ما تحققت هذه الظاهرة، اي ظاهرة التحول من الاشتراكية الى الرأسمالية في تجربة الاتحاد السوفياتي. وهذه ظاهرة تاريخية وليست من اخراج دماغ حسن العبودي، فالنقاش يستدعي من السيد التيتي الدفاع عن مفهوم "القطيعة" وإثبات انه مفهوم يشملُ شكل حركة لحظة تحول المادة من وحدة متناقضة الى وحدة جديدة متناقضة. واكثر من ذلك لماذا لم يسمي التحول الذي حصل في بلدان الإتحاد السوفياتي، أم أن تلك التجربة التاريخية ستفضحه، لأن القول بحصول القطيعة فيها سيقوده لاعتبار الانهيار ثورة. وهذا هو الدافع لمحورة نقاش التجربة السوفياتية الذي قدمتها كمثال في نقاشي.
إن القفزة النوعية لا تعني الثورة دائما، بل هناك تجارب تكون فيها القفزة النوعية ردة. كما حصل في الاتحاد السوفياتي وبلدان المعسكر الشرقي.
ولتعميق النقاش أكثر وإزالة كل ضبابية عن الموضوع واللبس الذي يخلفه التيتي بأحكام القيمة وبالافتراء والتشويه للحقائق، وبالأخص بعد خروج التيتي لإعطاء فهمه ل"القطيعة" باعتبارها، طبقا لما كتب في نصه، بأنها هي القفزة النوعية.
اولا حين نتكلم في قوانين الجدل المادي عن القفزة النوعية او التحول النوعي فجدليا يقابلها التراكم الكمي. لهذا اطرح السؤال: ماذا تعني الكمية وماذا تعني النوعية، وما هي العلاقة بينهما، ولما تم اعتماد علماء الديالكتيك على مفهومي الكمية في تراكمها والنوعية كمفاهيم تنقل لنا بشكل صحيح دون سواها لشكل من أشكال حركة المادة؟
بداية ما معنى النوعية؟
بالنسبة لهيغل في موسوعة المنطق كما نقله بطريقة مادية "لينين" بعد قلب مفاهيمه المثالية في كتاب "دفاتر فلسفية"، يعتبر أن لكل شيء في الوجود مظاهر وخصائص باطنية وسمات أساسية وجوهرية خاصة، وهامة تحدده وتميزه عن أشياء اخرى، وبها نعرفه، وهي ما تسمى بالنوعية. وهذا الفهم يتفق مع العلم. وحين نكتشف خواص جديدة نعرف أننا أمام نوعية جديدة.
مثلا الماء هو سائل لا طعم له ولا لون ولا رائحة، وله قدرة عالية على امتصاص الحرارة وبالتالي التبريد، وهو جيد التوصيل للكهرباء، تتكون جزيئاته من ذرتين من الهيدروجين وذرة من الاكسجين، وهذه تعد خصائص الماء النوعية. وفي حالة نزول درجة حرارة الماء الى الصفر تظهر خصائص ومظاهر جديدة مغايرة عن الحالة الأولى، بحيث يتجمد يعني يتحول من سائل إلى صلب، ويتغير حجمه ويصير أكثر من حجمه في حالة السائل، وهذا تحول في النوع، وظهور خصائص نوعية جديدة من خلالها نتعرف على الشيء الجديد الذي حصلنا عليه بعد تخفيض درجة حرارة الماء. ولكن جزيئات الماء حين يتجمد لا تتغير، تبقى. يعني تحول الماء من حالة السائل الى صلب لم تجعله يقطع مع تركيبته الكيماوية، بحيث ظلت جزيئاته تتكون من ذرتي الهيدروجين وذرة من الاكسجين وهذه الحركة تحدث في الطبيعة ويتحقق فيها تحول النوع.
إذا فالنوعية هي من تمكننا من استكشاف التحول من شيء الى شيء آخر لحظة وقوعه، لان التحول النوعي نلمسه مع بروز مظاهر وخصائص وسمات جديدة مغايرة لمظاهر وخصائص وسمات الظاهرة الأولى، وعملية التحول لا تحدث في لحظة وجيزة بل تستغرق وقتا حتى تنتفي كل الخصائص النوعية السابقة. بمعنى في مثل الماء، ليست هي لحظة حدوث الغليان، بل الزمن الذي يستغرقه الماء في الغليان للتحول الى بخار حتى انتفائه كحالة سابقة. ولهذا نقول إن التحول النوعي، والقفزة النوعية، للتعبير العلمي الصحيح الشامل والذي يحيط اي عملية تحول تحصل في الأشياء، لهذا عبر ماركس والماركسيين على تلك الحركة بالتحول النوعي ولم يقولوا "القطيعة".
ومثال الماء يوضح كون التحول يحصل وهو تحول نوعي، ولحظة حصوله يتمظهر بقفزة نوعية تبدأ مع بداية الغليان وتنتهي مع التحول الكلي للماء، ولا يحصل بالقطيعة، لان التحول مثلا من شكل السائل الى بخار لا يعني انه حدثت القطيعة، لان الهيدروجين والاكسجين مستمرين في كلا الحالتين، وهو ما ينتج عنه عن طريق تراكم كمي معاكس للعودة للحالة السابقة. وهي حركات تحدث في الطبيعة بمعزل عن إرادتنا.
فكل يوم تسلط الشمس اشعتها على البحار والوديان والبحيرات، ويحصل التبخر، ويصعد البخار الى طبقات الجو العليا ويبرد ويتحول الى قطرات ماء. وهي ظاهرة طبيعية تجري في الطبيعة دون تدخل الانسان.
وإذا كان تغير الشيء وتحوله لشيء آخر يعني تغير في النوعية، أي تغير للخصائص النوعية، فما علاقة التراكمات الكمية بالموضوع؟
إن الأشياء لا تتميز بالنوعية فقط بل تتميز كذلك بالكمية. وسؤالي هو ما هي الكمية، وهل تراكماتها تفضي إلى تحول نوعي أم تفضي الى القطيعة؟
الكمية هي كل ما يعبر عن الأبعاد والدرجة والحجم والكتلة.. يعني كل ما يبنى على قابلية الأشياء للقياس بواسطة اعداد. ونعود مرة اخرى للماء.
فمثلا من بين خصائص الماء الكمية هي بقاؤه سائلا كلما بقيت درجات حرارته اقل من 100 وأكثر من الصفر، وكتلة لتر من الماء تزن 1 كلغ. فإذا وضعنا إناء من الماء فوق النار ففي البداية يسخن الماء وتنتقل درجات الحرار من درجة أدنى الى درجة اعلى، مثلا من 20 الى 30 الى... إلى 99، فطول هذه العملية يظل الماء كما هو ولا يفقد احدى خصائصه النوعية، لكن بمجرد أن تتجاوز حرارته 99 درجة بدرجة واحدة يبدأ الماء بالغليان والتحول الى بخار ونكتشف أن نوعية جديدة تظهر، ولهذا نقول أن التغيرات الكمية في درجات الحرارة لا تكون محسوسة في البداية ولكن في لحظة معينة، مع التراكمات التدريجية، تؤدي إلى تغيرات نوعية، وهذه التراكمات الكمية هي ما يعرف بالتطور ويحدث عبر سيرورة متواصلة، والتطور المرتبط بالتحول النوعي يعرف بالقفزة النوعية. لهذا فالتراكم الكمي في علاقة جدلية مع التحول النوعي وليس مع القطيعة، ولحظة التحول تسمى بالقفزة النوعية وليس القطيعة، يعني لحظة تحول نوع قديم إلى نوع جديد، أو كما اعتبرها لينين، الديالكتيكي الحازم، بكونها "اشبه بانعطاف حاسم من النوع القديم إلى النوع الجديد"، (لينين شبهها بالانعطاف ولم يعتبرها قطيعة) ولم يسقط عليها مبدأً ذاتيا لا يحمل اي دلالة في التعبير عن شكل الحركة الموضوعي، مثل القطيعة. (والغريب هو كون التيتي ذيل مقاله بمقال لينين والذي يثبت أكثر بكون شيء اسمه القطيعة لا وجود لها في مفاهيم الجدل).
فإن كان القانون الطبيعي هو رابطة موضوعية بين الأشياء والظواهر تعقدها الطبيعة الداخلية للظواهر الموجودة في علاقة، ولا تعقده ظروف طارئة خارجية عابرة، ويفعل فعله في جميع الظواهر المنتمية لميدان محدد، ويعكس فقط الروابط الاساسية الفاصلة والضرورية وليس كافة الروابط. ويجعلنا نعرف أعمق ما في الأشياء وأهم ما فيها، فهل مفهوم القطيعة بإدخاله ضمن مفاهيم قوانين الجدل المادي سيجعلنا نفهم أعمق ما في التحول من شيء الى شيء جديد؟
اقول لا، وأكثر من ذلك القطيعة كمفهوم لا يحمل دلالة كوننا أمام شيء جديد، لأن الشيء الجديد لا نعرفه سوى بخصائصه الباطنية اي بالنوعية، باعتبار النوعية شيء موضوعي، اما القطيعة لا تحمل اي دلالة على كونها لحظة تحول لخصائص باطنية كانت تميز الشيء الأول إلى خصائص جديدة تثبت تحول الشيء الأول إلى شيء ثاني مغاير. لهذا اقول ان هذا المفهوم لا يعكس الظاهرة بشكل صحيح، لأنه لا يعبر عن أكثر السمات جوهرية واكثرها عمومية.
وفي نفس السياق، للتوضيح أكثر، يمكن أن ننظر للقفزات النوعية التي حدثت عبر التاريخ وهل يمكن أن نكيفها او نضبطها او نؤطرها بمفهوم "القطيعة". فمثلا عرف المنطق مع ماركس تطورا نوعيا فتح الطريق لعملية البحث العلمي ولباقي العلوم الانسانية للتطور بشكل سريع واقتحام ميادين جديدة لم تفتح من قبل. لكن هل القفزة النوعية التي أحدثها الجدل المادي وضعت المنطق الصوري او المنطق البرهاني السابقين في المتاحف او رمت بهما إلى النفايات، او رمت ب"هيغل" الى المزبلة؟ اقول، مرة اخرى، لا، كما قالها ماركس وقالها انجلز وعبر عنها لينين بدقة العالم والفيلسوف الحازم في كتابه "دفاتر فلسفية" بالقول "إن تفنيد منظومة فلسفية لا يعني نبذها، بل تطويرها، لا أن تستبدل بها منظومة اخرى، معارضة لها احاديا، بل أن نستوعبها في منظومة أرقي"
إن هذه الحقائق لا تترك لمفهوم "القطيعة" اي شقوق للتسلل لإقحامه كمفهوم من مفاهيم المنطق الجدلي. وإن كان ألتوسير الذي تأثر ب"غاستون بشلار" كما تأثر به بعض المفكرين العرب والمغاربة، مثل محمد اركون والجابري، وعبد الله العروي،.. هو من جعل من "القطيعة" أداة لتقطيع الماركسية وفصلها عن الفلسفة المادية الجدلية والاحتفاظ بالاقتصاد السياسي كمادة علمية للاستئناس في مشروع حزبه المنحرف، الحزب الشيوعي الفرنسي، الذي يقول بالقضاء على العمل المأجور عن طريق التطور السلمي لنظام الرأسمالية في أوروبا، فهذا لا يعني ان الماركسيين الفعليين سلموا بالأمر.
إذا لماذا حاول التيتي محورة النقاش، من نقاش حول علاقة "القطيعة" مع "المنطق الجدلي" الى نقاش وضعه على مزاجه بأخذ الأمثلة التي قدمتها للتحليل وتحويلها بطريقة تفتح له فرصة لإصدار أحكام القيمة؟! لماذا لا يدافع عن افكاره؟! لماذا يجتهد في المحورة والتلفيق والكذب للهروب من النقاش؟!
قلت في آخر مقال "دفاعا عن الجدال.. دفاعل عن الجدل" في الجزء الخاص ب"دفاعا عن الجدل" "يجب النظر للجدال حول "الجدلية" لتنظيف اسطبلات أوجياس من مخلفات موجة خروتشوف المعمرة لأكثر من سبعين سنة وما رافقها من تبجح بالماركسية دون عناء دراستها، وما استنبتته من فطر بعد اسقاط علم المطرقة والمنجل من أعلى الكرملين". وكنت أعني ما أعني، لأن مفهوم "القطيعة" هو مفهوم اقتبسه "لويس ألتوسير" من "غاستون بشلار"، مثلما اقتبسه العديد من المفكرين العرب والمغاربة واعتباره وصفة سحرية للتطبيق على التراث، واستعماله في بناء نظرياتهم الفكرية. وكان لويس ألتوسير صاحب السبق في تطبيقه على الماركسية. وألتوسير هذا كان أحد أبرز قياديي الحزب الشيوعي الفرنسي واحد منظريه. اقتبس مفهوم "القطيعة" من صديقة "غاستون باشلار" وشيد به هرمه البنيوي، ممزقا الماركسية بقطعها الى نصفين، نصفها علم الاقتصاد والذي اعتبره الجانب الناضج لدا ماركس، ونصفها الثاني الفلسفة، والذي أعتبره جزء يعود لماركس الشاب المتأثر ب"هيغل" ليحتفظ بالجزء المتعلق بالاقتصاد وبتر الجزء المتعلق بالفلسفة وقذف به الى المتلاشيات، وهكذا كانت "قطيعته" طريقة لاستنبات الانحراف في الإيديولوجية وفي النظرية من داخل الأحزاب الاوروشيوعية التي فتحت لها تحريفية خروتشوف البوابة لبناء توجه برجوازي بغطاء الشيوعية، ومن داخل الاحزاب الشيوعية، مثل الحزب الشيوعي الاسباني، والحزب الشيوعي الفرنسي، والحزب الشيوعي الإيطالي، وتخليها عن الهدف الثوري للحركة الشيوعية، وهي نفسها الموضة التي عمت الاحزاب الشيوعية في المنطقة العربية وشمال افريقيا، للتكيف مع كل جراثيم إيديولوجية البرجوازية المستهدفة للماركسية وتلويث كل ما هو ثوري، ونشر وهم التحرر من الاستغلال من خلال إصلاحات جزئية دون ثورة، اي دون تحطيم الدولة البرجوازية وإقامة سلطة دكتاتورية البروليتاريا.
هنا لسنا في المزايدات، أيها السيد التيتي، فمفهوم "القطيعة" يعود للابستيمولوجي "غاستون بشلار" وأخذه منه مفكري التراث والسياسة ليعلنوا أن الحل هو في تطبيقه، أي تطبيق "القطيعة" مع الماضي. وأسجل ان الفارق بينك وبينهم هو كونهم اعتبروه مهمة تستدعي تدخلنا الذاتي لتطبيقه على التراث والفلسفة والسياسة، كما فعل لويس ألتوسير، أي انه مبدأ ذاتي، وانت تنكر هذا وتقول في ردك من موقع العالم العارف بكل خبايا العلم، بانه تعبير موضوعي يعكس اشكال حركة المادة، دون أن تعطي اي تحليل، فقط قولك "هذه هي القطيعة" وما علينا نحن سوى الاخذ بقولك لأنك لا تنطق عن الهوى.
هذه الحقيقة التاريخية، اي ارتباط مفهوم القطيعة بالابستيمولوجي "غاستون بشلار"، لا يتناطح حولها كبشان، واليوم تتعرض للتزييف والانكار من خلال بعض من يقفون على قيادة حزب يقود الانحراف ومصر على تزييف الحقائق وافراغ الماركسية من جوهرها العلمي. واذكر أن السيد التيتي زعيم هذا الخراب هو من قال في جدال سابق (1)، مع حسن العبودي، أن الماركسية هي الصراع الطبقي، ليقطعها قطعا ويمزقها تمزيقا ويفصلها فصلا عن الفلسفة الالمانية والاقتصاد السياسي والاشتراكية، وقال أيضا بان "ماركس انطلق من تحليل السلعة باعتبارها نتيجة سلسلة من العلاقات الاجتماعية قطبيها طبقتين العمال من جهة والرأسماليين" (2) ليحرف الحقائق العلمية تحريفا، ويعطي فهما للسلعة لا علاقة له بالعلم، ثم يعود مرة اخرى ويمثل دور البطل في نقاش تعليق سابق على نقاشي، -معتقدا ان ما كُتب سابقا تم "قطعه"/لم يعد موجودا، ولم يعد له اثر-، وهو النقاش الذي تناولته سابقا في ثلاثة حلقات. وها هو اليوم يجهز نفسه وسلاحه لاستهداف الجدل، استهداف علم دقيق، ويعلن أن "القطيعة" من الجدل ويتنكر بأنها مفهوم ادخلته البنيوية بعد اقتباسه من الأبستمولوجيا للتأسيس لفلسفة الانحراف باسم الماركسية.
هل حقا السيد التيتي لا يعرف هذه الحقيقة التاريخية ام له اهداف من عملية تشويه الحقيقة؟
السيد التيتي راكم ما يكفي من التزييف ومن التشويه وهذه حقيقة اثبتتها في كل جدالي معه بالتحليل الملموس والموضوعي لأفكاره بعيدا عن أحكام القيمة، في حين أن السيد التيتي في إطار تهربه من الجدال والنقاش يعمل على انتاج أحكام قيمة وربطها بمقطع من المقاطع التي كتبتها دون أن يكون للمقطع أي رابط بأحكامه. وينسى كونه ينتقد نفسه ولا ينتقد صاحب الاقوال، وأن القراء ليسوا بسذج، أو قطيع، وهذا يسمى جبن وكذب وتلفيق، وقلة اخلاق. وانا اقول مهما يقول اي كان فينا فلن يتجاوز ثقافته وتكوينه وتربيته واخلاقه. فما يسلكه التيتي ليس سوى انعكاس لثقافته وتربيته واخلاقه ونظريته المبنية على تحريف الحقيقة، ودفن حقائق التاريخ. لكن هذا "الثوري" القطيعي لم ينسجم في تطبيق قطيعته مع اعداء مشروع الطبقة العاملة والفلاحين الفقراء، اعداد "القطيعة"/الثورة، قتلة الثوار والتقدميين، حاملي المشروع الرجعي، بل يعانقهم في السر والعلن.
.......
(1) "الماركسية هي علم الصراع الطبقي ومعها تحول الصراع الطبقي الى علم له قوانين صاغها ماركس" من تعليق سابق للتيتي على مقال: -ملاحظات نقدية حول مقالة: "الخطأ الشائع لا يتحول الى قانون"- وكان الرد في ملحق نفس المقال.
(2) الرد على فهم التيتي للسلعة جاء في مقال: "ملاحظات نقدية حول مقالة: "الخطأ الشائع لا يتحول الى قانون". - تتمة -"