2025/05/18

م.م.ن.ص// الجبهات الميدانية ليست شعارات ترفع، بل معارك تعيد تشكيل خريطة الصراع لقلب موازين القوى

الجبهات الميدانية ليست شعارات ترفع، بل معارك تُعيدُ تشكيل خريطة الصراع من جذورها.

 ففي الساحة المغربية، حيث تتصاعد حمى فعل نضالي بتجربة غير مسبوقة، تتحول الشوارع إلى ساحات مواجهة بين جبروت نظام لا وطني لا ديمقراطي لا شعبي وإرادة الجماهير العارية من كل سلاح إلا إيمانها بعدالة مطالبها. عمال "سيكوم/سيكوميك" الذين يناضلون لانتزاع حقوقهم المُغتصبة، والمعطلون الجياع الذين يرفضون تسليع كرامتهم، والطلبة الثائرون ضد خوصصة التعليم، ينسجون معا لوحة نضالية تتعالى فيها أصوات المهمشين فوق زئير القمع. هنا، حيث تغيب النقابات المتواطئة وتتوارى الأحزاب الانتهازية خلف شعارات جوفاء، تعلمنا "معركة الكرامة" في مكناس درسا جوهريا: النضال الحقيقي يولد من رحم المعاناة اليومية، لا من مكاتب البيروقراطيين الذين حولوا النضال إلى مهنة مربحة.
ما يميز هذه المعارك ليس انفلاتها من البنية التنظيمية التقليدية المميزة لتجارب قوى احترفت الانبطاح فحسب، بل قدرتها على تحويل التشتت إلى قوة بخلق اشكال تضامن جديدة مبنية على قاعدة طبقية بين فئات تتقاسم نفس المصير. فالتضامن بين عمال "سيكوم" المعتصمين منذ ما يزيد عن عشرة أشهر وبين طلبة يرفضونَ تحويل التعليم إلى سلعة، ومعطلين يناهضون السياسة الطبقية في التشغيل، ليس تحالفا تكتيكيا عابرا، بل تعبيرا عن تقدم وعي طبقي، بحيث الخصم واحد (نظام يدمج القمع بالنهب الاقتصادي)، والمعركة واحدة (الحق في حياة لا تختزل إلى بقاء). حتى إضراب "الأمعاء الفارغة" في قرية بامحمد – حيث يجابه المعطلون الموت جوعا كآخر سلاح لهم – يصير فعلا ثوريا يفضح زيف "المؤسسات" الساهرة على تأمين مصالح نظام يخدم التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي.

أمام هذه الموجة الجديدة، يعجز النظام عن ابتكار أدوات خارج صندوقه البالي: محاكمات سريعة (كالتي طالت معطلين قرية بامحمد، والتي تطال الرفيق ياسين بوعملات في محاولة لكسر توسع حملة التضامن..)، تلفيقُ تهم "التخريب، والاشكال غير المرخص لها.."، وخطاب أمني/قمعي مدعوم  يحاول محورة الحقيقة واختزال الاصوات التي تعلوا لكشف الحقيقة وتعرف بمطالب شعب بكامله في "مؤامرة خارجية". لكن المفارقة التاريخية هنا أن أدواته المفضلة لتفكيكُ الحركات المناضلة من قيادات المركزيات النقابية الجبانة والاحزاب المنبطحة، والعناصر البياعة، تُواجه بيقضة ومقاومةً غير مسبوقة. فالقواعد المرابطة في الشارع، عاملات وعمال، معطلين ومعطلات، ترفض من يؤتى بهم من فوق، لينصبوا كأولياء على الفعل الميداني، وتعيد  تعريف الزعامة نفسها: القائد هنا من يبقى في الصف الأمامي، لا من يتفاوض خلف الأبواب المغلقة.

في هذا السياق، يصير غياب "الجبهة الاجتماعيةِ" والقيادات النقابية والاحزاب المنبطحة ميزة متقدمة لا نقصا. فالشكل التنظيمي الجديد – تنسيقات أفقية، حملات تضامن ذاتية التمويل، اتصالات مباشرة بين الحركات – يشكل نقيضا للبيروقراطية النقابية الفاسدة وللأدوات السياسية المطيعة. إنها ديناميكيةٌ تذكرنا بالممارسة القاعدية الأولية عبر التجربة اليومية، حيث الجماهير هي من تقرر وتنظم وتسير، محولة اعتصاماتها إلى مدرسة سياسية تلد وعيا جديدا: لا خلاص لنضالات مشتتة غير موحدة تحتَ سماءِ نظام عميل ينهب الثروات.
لكن التحدي الأكبر أمام هذا "الحراك" ليس قمع النظام، بل قدرته على تكريس هذا الخيار وتحصينه وتطويره  وتحويله الزخم العفوي والمنظم إلى تجربة مرشدة وموجهة لاشكال المجابهة، ولاي ممارسة نضالية، لتصب في خدمة دائمة للاستراتيجية الثوريةٍ. فـ"التضحيات" وحدها لا تكفي؛ فالنضال يحتاج إلى تراكم التجارب في وعاءٍ تنظيمي يعمق الممارسة القاعدية الثورية ويحفظ الذاكرة الجمعية من التشتت. هنا يبرز دور المناضل الثوري الذي يفهم أن بناء "حزب الطبقة العاملة" ليس شعارا من الماضي، بل ضرورة تلح عليها التطورات العميقة لتناقضات المرحلة: نظام عالمي ينتج استغلالًا متوحشا، ويعمق الفقر ويواصل حربه اللصوصية والابادة الجماعية، والرد عليه يحتاج أكثر من مجرد ردود أفعال غاضبة.
ربما لا نبالغ إنْ قلنا إن ما يحدث في المغرب اليوم هو الفصل الأول من ملحمة لتعميق مسار وخط المقاومة. وفي ملاحم التاريخ القريب وكيف شكل مخيم "اكديم ايزك" بداية لانفجار المنطقة المغاربية والعربية وامتداد لهيبها لاقدام "وول ستريت" ما يعزز استنتاج تطورات اليوم وفق الغد. فالبذرة التي تزرعُ في اعتصام الكرامة بمكناس وباقي اشكال الفعل بالمدن الاخرى قد تظهر غدا في كل مكان يرفض أنْ يكون رقما في معادلة الرأسمالية المتوحشة، المرحلة الإمبريالية. لكنْ، وكما علمنا التاريخ، لا تهزم الأنظمةُ إلا عندما تفهم الجماهير أن قوتها لا تكمن في انتظار "المنقذ"، –لولا البلاشفة ما كان للتاريخ ان يخلد اللينينية–، بل في اكتشاف ذاتها وتنظيم قوتها كتحالف طبقي نقيض معزز باداة ثورية تحمل مشروع التغيير الحقيقي والمنسجم الذي يشكل منتجو الثروة عموده الفقري، وايمانها بقدرتهما على تغيير العالم.

2025/05/18




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق