2025/08/23

م.م.ن.ص// الرفيق: المفهوم، المضمون، والوجود الثوري


حمولة التاريخ وصِراع المعنى

 

في حقبة النضالات العظيمة، حين كان ملايين المنتمين للأحزاب الشيوعية يتبادلون لقب "الرفيق" كان الصدى يعبر عن أكثر من مجرد تحية؛ كان قسما بالولاء للطبقة ولأفق التحرر. هذا المصطلح، الثقيل بدماء الشهداء ووعود المستقبل، تعرض لعمليات اختطاف ممنهجة من قبل الخطاب السائد وحلفائه من المرتدين والانتهازيين، الذين جندوا أدواتهم لتفريغه من مضمونه النضالي وإعادة تعبئته بدلالات تخدم هزيمتنا الثقافية. 

وإذا كانت شرارة البعد السياسي للـ"رفيق" قد انطلقت مع رفض الثورة الفرنسية للامتيازات الإقطاعية، ثم تبلورت مع صعود الحركة العمالية لتعبر عن التضامن الطبقي والأخوّة في خندق النضال، فإن ارتباطه المصيري بالثورة البلشفية والمشروع الشيوعي هو ما جعله هدفا للحرب الإيديولوجية المعاصرة. فالأنظمة المسيطرة تدرك أن اللغة ساحة معركة، والسيطرة على المعنى هي انتصار في معركة الوعي. لذا سعت من خلال خطابها، عبر أجهزتها الإيديولوجية في التعليم والإعلام، إلى فصله عن تقاليده، وتجريده من الشحنة الثورية والعاطفية التي اكتسبها من خلال نضالات الدم ضد الاستغلال والفاشية. فلم يغب عن الطبقة الحاكمة أن اللغة هي ساحة صراع إيديولوجي، وأن السيطرة على المعنى هي خطوة نحو السيطرة على الوعي.وهكذا، شهدنا في السنوات الأخيرة انزياحا دلاليا مقصودا، حيث تحول "الرفيق" إلى مجرد وصف لعاطفة فردية أو هوية شخصية – هو ضربة متقنة في هذه الحرب. لم يعد المصطلح يعبّر عن الوحدة في ساحات النضال، بل أصبح سلعة في سوق الهويات الفردانية. هذه ليست ظاهرة بريئة، بل هي ذروة صعود "سياسات الهوية" الليبرالية وموجة الردة التاريخية، التي توحدت لطمس الصراع الطبقي وتفكيك أي إمكانية لوحدة نضالية شاملة. يتم عزل نضالات الأقليات والهويات وتقديمها كبديل متنافس – وليس مكملاً – لصراع الطبقات، مما يخدم في النهاية إبقاء الجميع مشتتين وتحت السيطرة. 

الرفيق ليس مجرد صديق أو زميل..  الرفيق ليس شكلاً.. بل مضموناً ثورياً. إنه مفهوم منحاز بشكل صارخ للطبقة العاملة، يستمد شرعيته ليس من قواميس المكتبات، بل من تناقضات الواقع المادي ومن ساحات المواجهة. هو الطريق الثوري نفسه الذي يرسمه الصراع الطبقي نحو تحرير البشرية. حتى أيقوناتنا لم تسلم من محاولات الاختطاف؛ فـ"جيفارا الرفيق" المناضل الذي أرعب الإميريالية، تم اختزاله إلى "جيفارا الماركة" السلعة المربحة، مجرد صورة على قميص بلا روح نضالية. 
تريد الرأسمالية "رفيقاً" على مقاسها: مثقفاً برجوازياً "لايت" يطفو على كل الموجات دون أن يسأل عن مصدرها، يرقص على إيقاعات جميع الميادين دون أن يزعج فرقة الموسيقى. لكن الرفيق الحقيقي هو من يزعج النظام، لا أن يكون ديكوراً فيه. 
الرفيق في التقليد الشيوعي الأصيل ليس من يشاركك هويةً أو خياراً حياتياً. الرفيقة ليست شريكة السكن وأم الأولاد فحسب. الرفيق (والرفيقة) هو ذلك المناضل الذي يقف معك في نفس الخندق، منخرطاً في تنظيم جماعي يهدف إلى قلب نظام القهر، ملتزماً بتنفيذ قراراته بوعي ومسؤولية. رابطة الرفقة تُبنى عبر الممارسة النضالية المشتركة: في الإضرابات، التظاهرات، أعمال التحريض، الالتزام السياسي الحديدي، والعمل اليومي وسط جماهير الشعب. إنها علاقة تتجاوز الفردية والعلاقات الشخصية لتشكل كتلة طبقية صلبة، حيث يُعرف الرفيق بما يفعله لا بهويته، وبموقعه من الصراع لا بخصوصياته. 
في زمننا هذا، الزمن المظلم، حيث تُسحق الكرامة تحت عجلات الرأسمالية المتوحشة، وتغيب الآفاق، وتتحول حتى ذاكرة الاعتقال والنضال إلى "موضة" و"رصيد سيرة ذاتية" للتكسب، تصبح استعادة المعنى الأصيل للرفقة مهمة نضالية بحد ذاتها. إنها مقاومة ضد طمس الذاكرة الجماعية وأمل التحرر. الدعوة العملية على الأرض للتخلي عن "الرفيق" كمصطلح طبقي هي دعوة للاستسلام للفردانية والنسيان. 
الرفيق الحقيقي هو الذي يجد ذاته لا في عواطف فردية (لا تتعدى حدود صناعة ذاته)، بل في الالتزام بتنظيم يذوب فيه الفرد طوعاً لصالح الجماعة. هذا ليس إبادة للذات، بل هي أسمى حالات التحرر، حيث يصير الانضباط الطوعي تعبيراً عن الإرادة الحرة في خدمة القضية المشتركة. الهجوم على هذا المفهوم، حتى من دوائر تدعي الثورية، هو في جوهره هجوم على فكرة التضامن ذاته، وعلى ضرورة تجاوز الأنا الضيقة، الأنا المريضة التي تتحول لخنجر يغرس في ظهر الرفاق، لبناء قوة ثورية قادرة على المواجهة. 
الرفقة هي الوجود الثوري في عصر الانظمة الطبقية.. هي رفض قاطع للفردانية المتوحشة التي تفرضها الرأسمالية. هي الخروج من الأنا الذاتية الضيقة (الأنا المريضة) إلى الأنا الجماعية المناضلة. هي البناء الملموس لعلاقات إنسانية جديدة على أنقاض العلاقات السلعية البائدة. هي التزام بشركاء في المصير النضالي، وليس فقط في الحياة. الرفيق هو من يهمس في أذنك وفي وجدانك: "لست وحدك.. معركتك معركتي، ومصيرك مصيري". وهذا بالضبط ما تخشاه الرأسمالية وتعمل ليل نهار لجعلنا ننساه.

مدونة  مغرب النضال والصمود: من أجل بديل جذري، المعبر الحصري عن تيار البديل الجذري المغربي.

2025/08/23 

 




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق