كثيرا ما تختزل ثورات الشعوب المضطهدة في نهاياتها، أي في المحطات الأخيرة للثورة. ليس ذلك عيبا كله، لكنه يخفي السياقات والانزلاقات والمد والجزر
والإخفاقات والنجاحات، والكثير من العوامل والإفرازات التي صنعت الثورة أو التي فشلت في صنعها. فلم تأت أي ثورة على خط مستقيم، كما لم تصل أي ثورة الى أوجها/قمتها، بما في ذلك ثورة أكتوبر 1917 العظيمة.. وهنا وجب على المناضلين الثوريين قراءة الثورات المظفرة وحتى "الفاشلة" منها بعيون نقدية ثاقبة، من أجل صنع ثورات قادمة والذهاب بها الى نهايتها بكل ما يتطلب الأمر من تصدي ومواجهة للإمبريالية والصهيونية والرجعية وأذنابهم وعصاباتهم ومرتزقتهم..
إنه من تحصيل الحاصل الحديث عن تضحيات وبطولات العمال والفلاحين الفقراء وأوسع الجماهير الشعبية الكادحة. فلم تقم ثورة، سواء ناجحة أم فاشلة، دون تقديم الكثير من التضحيات البطولية، استشهادات، اعتقالات، تشريد ونفي وأعطاب.. ومن ينتظر الثورة على طبق من ذهب، أو الثورة "الناعمة"، فليغرق في أوهامه وهلوساته، وليس حتى أحلامه.. وقد يكون متواطئا أو مرتدا أو مندسا... إن الصراع الطبقي لا تحكمه الأهواء أو الأماني، إنه يقوم على تناقض/تضارب المصالح الطبقية. فإما أن تسود البورجوازية في ظل استمرار نمط الإنتاج الرأسمالي أو أعلى مراحله المتجسدة في الامبريالية، حيث يعم الاستغلال والاضطهاد الفظيعين والقمع الأسود؛ أو أن تسود الطبقة العاملة (ديكتاتورية البروليتاريا) حاملة مشروع المجتمع السعيد؛ حيث "كل حسب عمله" أولا (المجتمع الاشتراكي)، ثم ثانيا "كل حسب حاجته" (المجتمع الشيوعي)..
وأسوق بهذا الصدد دور ثورة 1905 في روسيا في التمهيد لثورة 1917. وكما قال لينين في إحدى تقييماته ما معناه "لولا ثورة 1905 لما كانت ثورة 1917". بدون شك هذه الخلاصة ليست بالمعنى الحرفي الجامد، بل للدلالة على قيمة تراكم تضحيات الشعوب وأهمية استخلاص الدروس منها. ومن بين أهم دروس ثورة 1905 بروسيا هو الفرز السياسي الذي حصل حينذاك وكذلك "الاصطفافات" السياسية، في علاقتها بالمعارك العمالية بالدرجة الأولى..
ولم تأت أيضا بين عشية وضحاها.. لقد ساهمت التنظيرات الخلاقة المستمدة من الأفكار الاشتراكية العلمية لكل من ماركس وانجلس، وكذلك الواجهة الإعلامية (البرافدا...) في ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للشعب الروسي، في بلورة الرؤية السديدة للثورة الروسية المظفرة. لقد عاشت روسيا الكتابات تلو الكتابات من طرف مناضلين كان شغلهم الشاغل هو التأسيس لثورة عظيمة بروسيا، إعمالا للمقولة اللينينية الشهيرة "لا ممارسة ثورية بدون نظرية ثورية"..
والمهم الذي أكد عليه مؤسسو ثورة 1917 البورجوازية (فبراير) والاشتراكية (أكتوبر)، ومن بينهم المعلم لينين، هو استيعاب اللحظة التاريخية (الشرط الموضوعي والشرط الذاتي) وصياغة/رفع الشعارات المناسبة، وبالتالي بناء الخطط النضالية الملائمة (التكتيك) من طرف تنظيم قوي ومبدع، وتوضيح الرؤية الاستراتيجية، أي الثورة التي تثبت ديكتاتورية البروليتارية.. فلم تأت ثورة 1917 من العدم أو من خلال الرغبات الذاتية، لقد صنعها التنظيم البلشفي الصامد تحت قيادة مناضلة رصينة ومنسجمة وحكيمة، منظمة على قاعدة المركزية الديمقراطية..
وكخلاصة، فاستحضارنا لذكرى ثورة أكتوبر 1917 التاريخية بروسيا، ورغم هذه العجالة التي لا تعكس عظمة هذا الإرث الإنساني الخالد، هو تجديد للعهد الماركسي اللينيني الذي جمعنا والعديد من شهداء شعبنا.. إنه دعوة لتمثل تلك اللحظة الحاسمة في عمقها وبالتالي العمل المبدع على ترجمتها العلمية في الواقع المغربي وفق شروط مرحلتنا ومتطلباتها..
شارك هذا الموضوع على: ↓