للحديث عن انتفاضة وحركة 20 فبراير لابد من العودة إلى حركة شعبية غير مسبوقة في تاريخنا المعاصر، حركة الملايين من شعب تونس التي نزلت إلى الشوارع بعد
استشهاد البوعزيزي (ونقول حركة وليس حراكا...)، والتي هتفت بشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، وأرغمت النظام القائم بتونس على التضحية برأس السلطة. وبعدها انطلقت حركة الشعب المصري التي كانت أقوى تحت نفس الشعار واستطاعت إرغام النظام المصري بالرضوخ جزئيا لتجاوز العاصفة وامتصاص الغضب والقبول بتنحية "قيصر" مصر المعاصر.
كان لهاتين الحركتين اللتين تمسكتا بالانتفاضة الشعبية كوسيلة نضالية لتحقيق الهدف الثوري المكثف في شعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، رد فعل إيجابي على المنطقة العربية والمغاربية وعلى نطاق عالمي، في ظل واقع طبقي لا يقل حدة عما كان في كل من تونس ومصر. بحيث لم تلتزم الشعوب بالتضامن وفقط، بل انخرطت فعليا في المعركة على نفس الشعار كإعلان ضمني عن وحدتها الأممية في شروط تغيب فيها الأدوات السياسية الثورية المؤهلة للفعل في هذا المستوى. وكان الدرس التاريخي الذي لم تنتبه له الحركات والتيارات والتنظيمات ذات البعد الأممي والمعنية بالتغيير الثوري هو أن أي فعل ثوري بأي رقعة من العالم، في المرحلة التاريخية التي نمر منها، مرحلة الهيمنة القوية للامبريالية، عسكريا واقتصاديا وسياسيا، يهم باقي الشعوب المضطهدة وتتفاعل معه بشكل إيجابي. وكان المستوعب لهذا الدرس بالدرجة الأولى هو الطرف النقيض، المتمثل في الإمبريالية والصهيونية والرجعية، بحيث جمع كل قواه بهدف اجتثاث الانتفاضات الشعبية أو على الأقل إفراغها من مضامينها الكفاحية، وتحويل مساراتها وتسقيف بعضها في حدود الأفق الإصلاحي ليحافظ على مصالحه وتوظيف بعض القوى الرجعية ومنها القوى الظلامية في لعبة سد الفراغ، ونزع بالتالي عن شعار المرحلة الذي رددته الشعوب المنتفضة دلالته الثورية، أي ربط إسقاط النظام بإزاحة رأس السلطة. ولذلك نجح الى حدود بعيدة في محورة أهداف الشعوب التواقة الى التحرر والانعتاق وحال دون المساس بالنظام الرأسمالي، مكرسا واقع البطالة والفقر والجوع والشقاء... لأن الرأسمالية لا يمكن لها البقاء/الاستمرار دون هذه المستلزمات المأساوية...
صحيح أن التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي نجح في الحيلولة دون أن تحقق الجماهير الشعبية المنتفضة أهدافها، سواء في تونس أو مصر أو في باقي المناطق، لكن هذا لا يعني أن بإمكانها وقف تطور نضالات الشعوب المقهورة الى الأبد، مهما بذلت من جهود رجعية ومؤامرات إجرامية (من القمع والاعتقالات والاغتيالات والاختراقات والوعود الزائفة وغيرها من المناورات المحبوكة). فحركة التاريخ دائمة ومستمرة ولا يمكن توقيفها، أو توقفها. وبشكل موضوعي يؤدي التطور حتما الى نشوء شروط تاريخية تكون فيها الحاجة الى نظام بديل للنظام القائم على الاستغلال والاضطهاد الطبقيين.
ويمكن التذكير، بالمناسبة، بأن الشعوب من أجل الخلاص وهزم الأنظمة الرجعية وتغييرها في كل المحطات التاريخية، منذ ثورات العبيد إلى الثورات ضد الرأسمالية والاستعمار، اعتمدت على تفوقها العددي وعلى وحدتها وتنظيمها واستعدادها للتضحية في معارك عنيفة، ولم تكن أي إمكانية لذلك بطريقة سلمية. لأن الطبقة، أو أي تحالف طبقي مسيطر يحمي قلاعه وحصونه وحتى آخر حصونه بالسلاح والقوة، والمعركة الحاسمة ضده معركة عنيفة بقوة الواقع...
إن واقع الصراع الطبقي الجاري يؤكد أن إطفاء شرارة المد النضالي الحالي الذي أعطت حركة الشعب التونسي انطلاقته في 2011، لم يوفق في الحد من أي نهوض ثوري، حيث تعود الشرارة المشتعلة متجددة ومبدعة وفي أشكال أكثر قوة. ومن انتفاضة الريف المغربي نسوق العبرة والدليل. ونضيف أن ما لم تستطع حركة شعبنا وباقي حركات شعوب العالم بلوغه في الأمس واليوم ستبلغه غدا، لأن استمرار نفس الأوضاع المتردية وتعمقها يؤسس لنهوض أقوى وأشمل، إنه قانون الصراع الطبقي. كما يؤكد أيضا أن أي مشروع سياسي ومجتمعي غير مستقل عن الرأسمالية عاجز عن حل أزمات الشعوب، والتاريخ لا يكف عن تذكيرنا بهذه الحقيقة العلمية، مثلما يذكرنا أيضا أنه لا نجاح لأي ثورة دون وجود حزب منسجم يمثل القيادة السياسية، وكذلك تطلعات الطبقات الصاعدة في هذه المرحلة التاريخية. ولعل هذا الدرس هو أهم ما يقدمه لنا تاريخ ثورات الشعوب.
إذا، فتحقيق هدف شعبنا في التخلص من واقع البؤس والحرمان والفقر والاستغلال والاضطهاد الذي يتحمل النظام القائم كل تبعاته، رهين ببناء نظام وطني ديمقراطي شعبي، بطريقة ثورية. وهذه المهمة التاريخية تتطلب أداة سياسية ثورية تهدف بجدية ومسؤولية، الى تحقيق استراتيجية التغيير الجذري. وفي المرحلة الراهنة، لا وجود لحزب سياسي أو تحالف أو جبهة تضع هذا الهدف كاستراتيجية لتحقيقه. ويمكن القول إن أي أداة سياسية، حزبا كانت أو جبهة أو أي شكل من أشكال البناء السياسي، لا تهدف الى الوصول إلى السلطة واستلام الحكم، لا ترقى الى مستوى الأداة السياسية الثورية الحقيقية المنشودة. وأيضا وجود أداة سياسية تسعى الى التغيير الجذري، لا يكفي القول إنها جادة ومسؤولة لتحقيق استراتيجية التغيير الجذري، لأنه من المعروف تاريخيا أن الأداة السياسية وحدها لا تستطيع إنجاز هذا الهدف الثوري دون الجماهير الشعبية المعنية. بمعنى أنه لن يكون بمقدورها إنجاز ذلك دون القوى الطبقية المؤهلة تاريخيا لذات المهمة. فالجماهير المؤطرة سياسيا والواعية والمنظمة هي القادرة على تحقيق الإنجازات الثورية والتاريخية. ودونها تعجز الأدوات السياسية المنبطحة والمتواطئة مع الأعداء الطبقيين تحقيق المشروع السياسي والاجتماعي الذي تدعو إليه...
لذا، فمن مهمات الأداة السياسية الثورية للنجاح في المهام الثورية هي إقناع الشعب بالثورة وتنظيمه وتأطيره ورسم أهدافه ووضع تكتيكاته، بمعنى الوعي بأن المهمة الثورية تستدعي الكفاحية وروح التضحية لتحطيم كل قلاع وركائز نظام الكمبرادور والملاكين العقارين الكبار والعملاء والبياعة وتجار العمل السياسي والنقابي والجمعوي، وبسط السيطرة على كل خيرات شعبنا، وليس الاكتفاء بإزاحة رؤوس الأنظمة أو تغيير حكومة أو نواب برلمانيين أو تعديل دستور أو انتخاب برلمان جديد...
لهذا يجب على المناضلين الجذريين الوعي بأنه لن يكونوا كذلك إلا إذا كانوا متجذرين وسط أوسع الجماهير الشعبية، وقادة فعليين للعمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين... ولن يكونوا كذلك إذا لم ينخرطوا في كل مبادرات أبناء شعبنا والمساهمة في توجيهها، وإذا لم يشاركوا في إنجاح الاحتجاجات المتصاعدة في مختلف مناطق بلادنا (الريف، زاكورة، جرادة...).
إن مقدمة هذا المشروع الثوري هو بناء الأداة السياسية المكافحة، وهي المهمة الآنية التي لا تقبل التخلف عنها مهما كانت الظروف، وخاصة في المرحلة التاريخية التي نمر منها، وهي المهمة الأكثر إلحاحا في الوضع الراهن، ولو أن الرجوع لهذه الخلاصة النظرية وخلاصات أخرى يعد تكرارا لما سبق لنا أن تعمقنا في الوقوف عنده في عدة أعمال، لتبقى المسؤولية والمهمة الآن هي وضع هذه الخلاصات محل التطبيق العملي لإيجاد التكتيك والحلول العملية للتقدم في إنجاز المهمات المطروحة. وهذا الجانب يستدعي منا عملا جماعيا منظما يهدف الى المزيد ثم المزيد من تعميق جذورنا في الأرض بالارتباط بالجماهير، وفي المقدمة الطبقة العاملة، وربط الحركة الجماهيرية بالمشروع الثوري وبمشروع المجتمع الاشتراكي. وأيضا، فالتقدم في هذه المهمة سيؤهلنا للمساهمة في وضع أقدامنا على أرضية البناء الفعلي للأداة الثورية، مع الاقتناع بأن معيار التقدم في المهام يتبلور من خلال الحكم على مستوى التطبيق، أي الاحتكام الى الواقع الفعلي.
إننا اليوم، في حاجة الى الأداة الثورية، الأداة الماركسية اللينينية الحقيقية؛ وليس هذا في حدود المحلي؛ بل كل بلدان العالم في حاجة الى أحزاب ثورية حقيقية، أحزاب تناضل في سبيل توحيد الطبقة العاملة وقيادتها وبناء تحالفاتها، وتدرك أن الطبقة العاملة هي القوة القادرة في إطار الصراع الطبقي على تحقيق المجتمع البديل الذي ينتفي فيه استغلال الإنسان للإنسان.
تيار البديل الجذري المغربي
C.A.RA.M.
شارك هذا الموضوع على: ↓