بعد التنصيب الماكر سنة 1998 من طرف النظام القائم لحكومة عبد الرحمان اليوسفي (الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية) المعززة بترسانة
من الشعارات الزائفة والآمال الخادعة والوعود الكاذبة وبتصفيقات الأحزاب السياسية المتواطئة والنخب الانتهازية المعزولة، تبنت النقابات (المقصود للدقة القيادات النقابية) وبالمكشوف مفهوم النقابة "التشاركية" (النقابة المتواطئة باختصار) من أجل توفير الأجواء السياسية والاجتماعية الملائمة لتجاوز ما عرف آنذاك بوضع "السكتة القلبية". وكان الهدف الأساسي أو بالأحرى التآمري يتوخى فرض "سلم" اجتماعي (مستحيل في ظل صراع طبقي محتد) وشراكة قسرية بين العمال والرأسماليين (الباطرونا) وضمان الانتقال السلس للسلطة في ظل نفس النظام اللاوطني اللاديمقراطي اللاشعبي القائم. وعليه، كان إطلاق الإشارات المفضوحة والتصريحات الصريحة على نطاق واسع لتعميم مفهوم الشراكة وتثبيته وسط الشغيلة وفي الفضاء العام وتسريع وتيرة التفويتات للمشاريع المملوكة من طرف الدولة لفائدة القطاع الخاص، ووضع مفاهيم النضال والثورة والكفاحية والصراع والفضح والنقد والتشهير بالخوصصة والاستغلال والاضطهاد... إلخ، على الرفوف المنسية. علما أن إجرام القوى السياسية الانتهازية من خلال أدرعها في شخص القيادات النقابية المافيوزية لم يتوقف عند هذا الحد، حيث سعت بكل الوسائل الخبيثة إلى جانب الباطرونا إلى جعل العمال مجرد أرقام تخضع لمصالحها الآنية والمستقبلية ولقوانين ومصالح الباطرونا الطبقية، وذلك من خلال تلجيم الحركة العمالية وشلها، بل واستدراجها ل"الشراكة" الوهمية مع الباطرونا. وهذا ما وقع ويقع مع شريحة عريضة من العمال الذين يشكلون الرقم الصعب في الإنتاج، وضمنهم نموذج عمال مجموعة مناجم.
إن الحديث عن مآسي عمال المناجم لا ينفصل عن حجم المعاناة التي لا يمكن إحصاؤها ماديا ومعنويا ونفسيا، إلا من باب ما يتطلبه حصريا موضوع البحث، وهي معاناة تذكرنا بالتاريخ الأسود الذي مرت به البشرية عبر عصور من الزمن، كعصر أو نمط الإنتاج العبودي؛ إنه الموقع الذي يخندق فيه عمال المناجم. وليس من باب الصدفة أن تتم محاصرتهم والحد من تفاعلهم مع تطورات الشارع المشتعل وتوجيههم عكس ما تستدعيه مصالحهم، وهذا ما كانت القيادات النقابية تتكفل بتنفيذه والالتزام به لضمان مصالحها الضيقة والأنانية. وقد كان لها الدور الريادي والمحوري في التأثيث لهذا المسار، بحيث تفننت وابتكرت والتزمت مع شريكتها الباطرونا بتنفيذ مخططات جعلت العمال يخضعون للاستغلال بربطهم بالإنتاج أكثر من اللازم. هكذا إذن بعد تنظيم ورشات تحسيسية اعتبرت فيها القيادات النقابية المافيوزية تسهيلات القروض بضمانة من الشركات مكسبا للطبقة العاملة، وتشجيعهم لاقتناء أقفاص للسكن خدمة لمشاريع الكمبرادور، و"الاستفادة" من قروض الاستهلاك، تم ربط العمال بالبنوك وإغراقهم بالديون لصالح الرأسمال المالي وعملائه المحليين في شخص الكمبرادور، وتلجيمهم وجعلهم يفكرون فقط في كيفية تسديد الدين بعيدا كل البعد عن التفكير في كيفية تحسين موقعهم المعيشي، وعن العمل والنضال والكفاح لبناء مشروعهم المجتمعي البديل.
وبعد أن نجحت الباطرونا بمساعدة المافيات النقابية في تمرير هذا المخطط الطبقي الخطير وتلجيم العمال لمدة ليست بالهينة، كانت الخطوة الموالية هي تعميق هذه المؤامرة بإغراق العمال وتكبيل أيديهم بأصفاد الديون؛ وهذه المرة تحت غطاء الشراكة في رأس المال، في الوقت الذي تبين للباطرونا والبيروقراطيات النقابية نهوضا نضاليا عماليا لا مثيل له يهدد مصالحهم جميعا، إثر تفجير معارك بطولية وإخراج ملف/قضية عمال المناجم للعلن بعدما تم قبرها. ونستحضر هنا الإضرابات البطولية لمناجم بووازار منجم الكوبالت بورززات، وعمال الذهب بأقا، وعمال النحاس سواء بمراكش أو بإمينتانوت، أو عمال جبل عوام الذين خاضوا معركة من تحت الأرض شعارها "إما الكرامة أو الموت"، حيث أبانت عن خلاصات/دروس في النضال عرت موقع النقابة إلى جانب الباطرونا، كوسيط يتاجر في مآسي العمال.
إن موقع البيروقراطية النقابية كفئة وسيطة بين رأس المال والعمل يدفعها دوما إلى أن تكون فئة فاسدة وانتهازية وخائنة ومساومة وجبانة ومعادية للطبقة العاملة، وحريصة وراعية لتبعيتها ومنع إمكانية استقلالها عن مستغليها ومضطهديها أو انخراطها في المسار الكفاحي لشعبنا. وهذه حقيقة يثبتها تاريخ الصراع الطبقي ببلادنا. وبالمناسبة نشير الى أنه في غياب المس بالإنتاج تبقى المعركة، أي معركة مجرد رقم؛ وللتذكير فقط، نستحضر معركة ٩٦ بإيمضر تينغير التي لازالت صامدة (كل تضامننا ودعمنا)، لكن دون جدوى ما دامت لا تمس بالإنتاج أو تعرقله. إن النظام القائم لا يتسامح مع المعارك التي تمس جوهر مصالحه أو التي تسعى إلى ذلك...
فبعد أزمة ٢٠٠٨ التي شكلت الخلفية لتسريح/تشريد ملايين العمال عبر العالم وإغلاق آلاف المعامل، زد على ذلك المد النضالي الذي عرفه عمال المناجم بالمغرب في هذا السياق كان من الضروري ومن اللازم على مالكي وسائل الإنتاج أن يؤطروا المرحلة بصيغ قديمة/جديدة بضم النقابات لها لتكون شريكا في تكسير شوكة العمال وتقديمهم للباطرونا كعربون لامتصاص غضبهم، ودمجهم بشكل مباشر في دواليب الإنتاج دون المس به أو مجرد التفكير في عرقلته في افق القفزة النوعية التي من خلالها تجعل الباطرونا تنتج أكثر وتتجاوز مرحلة الركود بالنسبة لها (على اعتبار أن أثمنة المعادن في السوق انخفضت شيئا ما) وفتح مشاريع أخرى في ظل هذه الأزمة ويكون فيها العامل هو المنقذ والمسؤول عن فك هذا اللغز، وذلك بإجباره على الدخول مع الباطرونا ك"شريك" لتجاوز الأزمات لكن على حساب عرق جبينه، وعلى حساب المعركة الطبقية، بإغرائه وتوهيمه بأن ادخاره سيضمن الطريق لقيام مجتمع الرخاء، لينتزعوا منه قسطا من أجرته الهزيلة مقابل تملك أسهم في الشركة بهدف ضخ مليارات الدولارات في حساب مجموعة مناجم (مجموعة مناجم تضم أكثر من خمسة عشر شركة عملاقة لمختلف المعادن كالذهب والفضة والكوبالت والنحاس والفليورين ...الخ). هذا المخطط، الذي كان فيه للقيادات النقابية الدور الريادي في نشر وهم تكوين الملكية على حساب المطالبة بالزيادة في الأجور، استنزف العمال وحتى الذين لم يتوفروا على مدخرات لشراء الأسهم وهم الغالبية العظمى من العمال،(وهو ما يفوق 25 ألف عامل موزع على ما يفوق 15 شركة منجمية) عملت المجموعة (مجموعة مناجم) بتقديم تسهيلات جديدة للاقتراض من البنوك وخاصة "التجاري وفابنك" لتقديم كل المساعدات لخنق واستنزاف العامل ماديا لصالح المجموعة (مع التذكير أن "التجاري وفا بنك" ينتمي لنفس المجموعة أونا)، ليتم منح العامل قسطا من الأموال، مثلا ثمانية أو عشرة ملايين تماشيا مع عدد الأسهم التي اقتناها، بالمقابل يفرض عليه البنك وقتا محددا لاسترجاع الدين الذي ضخه في حساب المجموعة، وهذه الأخيرة استثمرت هذه المبالغ الضخمة لصالحها في مشاريع أخرى تحت ذريعة تحصين دخل العامل وجعله طرفا شريكا في رأس المال، مع العلم أن هاته الشركات العملاقة هي التي تحدد وتوجه وتتحكم في البورصة. ليتم دفن عامل المنجم قبل مماته، وذلك بربطه بأهداف وهمية لم يترتب عنها، عن عملية شراء الأسهم، أي تحسن في وضعه الاجتماعي أو زيادة فائدة ملموسة في داخل العائلة جراء "تسلم الفوائد على الأسهم"، بل كانت بمثابة الدافع السلبي لخضوعه للاستغلال بالاجتهاد والكد والانضباط في العمل لرفع الإنتاج لا لشيء سوى لرد الدين قبل اعتقاله. ليكون أداة محكمة في يد الباطرونا. إنها مؤامرة تهدف لجعل العامل المنجمي أداة في يد مستغليه، وتحويله لعامل مُفقر مُطيع مقيد بكيفية تسديد الدين، في وقت يبقى فيه وجها لوجه أمام البنوك. هكذا إذن استطاعت الباطرونا بمساعدة النقابات أن تستنزف العمال ماديا ومعنويا وأن تغطي كل حاجياتها في المشاريع الجديدة على حساب عرق جبين العمال. وكان نصيب العمال الويلات لمدة ليست بالقصيرة. آلت بهم لخيارين، إما استرداد المبالغ التي استأجروها من البنك أو السجن، ليبقى الخيار أمامهم هو إعادة جدولة الدين بتكاليف أكثر. ويتم تأجيل المعركة الطبقية لموعد لاحق. أما خيار بيع الأسهم لاسترجاع ما ضاع منه فتعتبر الخسارة بعينها بحكم تحكم المجموعة في تقلبات البورصة إضافة إلى أن عملية البيع محكومة بعدة اقتطاعات ورسوم تحكم على الصغار بالوقوف موقف المتفرج خوفا من ضياع نصف ما ادخروه. ولشرح ذلك ندرج نموذجا لمشكل المستثمرين الصغار والعمال في أسهم شركة "سنيب" (الشركة الوطنية للبيتروكيماويات والكهرباء) والذي يبلغ عدد أسهمها 2.400.000، وهي شركة ولجت البورصة سنة 2007 والتي قيل عنها في حينه، لتشجيع الادخار فيها، بأنها شركة واعدة وأرباحها مضمونة، ليصل سعر سهمها 1250 درهم وقد شجع ذلك مستخدمو الشركة للاقتراض من البنوك لشراء الأسهم وصلت قروض بعضهم ل 50 ألف درهم بهدف تحسين دخلهم، وهو ما صار حلما وسرابا بعد نزول قيمة السهم للحضيض منذ سنة 2010، أي بعد ثلاث سنوات من ادخار المستخدمين والمستثمرين الصغار فيها، دون أن يتدخل أصحاب الشركة، والمتلاعبون الفعليون بادخارات صغار رأس المال والمستخدمين، لإرجاعه لمستوى يسمح بإنقاذ المستثمرين الصغار وبالأخص مستخدمي الشركة الغارقين في الديون.
وتعود هذه "النظرية"، نظرية/مؤامرة شراء العمال للأسهم داخل الشركة، للاقتصاديين الداعين ل"دمقرطة الرأسمالية" (ما يعرف حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية ب"الرأسمالية الشعبية") كإمكانية لتحويل المجتمع الرأسمالي منذ أواخر القرن التاسع عشر. والتي كانت يتوخى من خلالها المنظرون الاقتصاديون البرجوازيون وضع أيادي الشركات المساهمة على كل الفائض الناتج عن عرق الكادحين لتدعيم قوتها وتعزيز إمكانياتها. وقد أوصى بها مؤتمر باريس 1889، وبان إفلاسها منذ الأزمة العالمية لسنة 1929 لتعيد البرجوازية العالمية هيكلتها بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم صارت موضة في الحديث عن الاقتصاد الامبريالي وخصيصا الأمريكي لتفادي الخوض في إجرامها الممارس على المكشوف في كل بقع العالم.
إن إدماج الطبقة العاملة في لعبة الشراكة من خلال سياسة الادخار بشراء الأسهم في الشركة، قد دخل مرحلة جديدة نظرا لتفاقم التناقض الأساس للرأسمالية الذي يتجلى في توزيع شديد التباين للدخل والثروة، بحيث بلغ هذا التفاوت درجة من العمق والخطورة الاجتماعية وصارت الانفجارات الحادة هي سمة المرحلة، تنسف ما يدعونه "الاستقرار" و"السلم" الاجتماعيين. والطبقة العاملة لم ولن تربح شيئا من استدراجها لعملية شراء الأسهم داخل الشركات؛ والفائدة المترتبة على انخراطها في عملية شراء الأسهم في الشركات هي:
أولا، حصول البرجوازية على رؤوس أموال إضافية بالنصب على العمال خدمة لمصالحها.
ثانيا، تحويل العمال إلى شركاء في رأس المال؛ وهي خدعة زكتها القوى الانتهازية من خلال أدرعها النقابية للمزيد من تفقير العمال والسيطرة على عرق جبينهم، لأن العمال تحت غطاء "مالكين وشركاء" لرأس المال في الشركة لا يمنحهم الحق في التقرير داخل المجلس الإداري للشركة وبالأحرى اتخاذ القرارات، ولأن كل الخطط تنص على وجود فترات زمنية طويلة لا يحق خلالها "للمالك" الصغير استخدام مدخراته، في حين يستطيع أرباب العمل التصرف بها كاستثمارات تحت ذريعة منع الأجير من "تبذير" ملكيته، وهي في العمق حرمان العمال من الاستفادة من مبالغهم لسنوات إن لم تتعرض للإفلاس، أو للإفلاس المفبرك. وتمتلك الاحتكارات إمكانيات واسعة للتعويض عن مدفوعات تكوين الملكية في حالة عدم الإفلاس سواء باللجوء إلى الأسعار أو إلى سياسة الدولة في الميدان الضريبي أو كلاهما معا.
وثالثا، هذه العملية تسعى الى الحيلولة دون لجوء العمال للمطالبة بالزيادة في الأجور والانخراط في المعارك التي من شأنها تغذية الصراع الطبقي ضد البرجوازية، وبالتالي استدراج الطبقة العاملة المنتجة لفائض الإنتاج للسلم الاجتماعي المزعوم، ولمقاومة الأشكال النضالية المعادية للاستغلال الرأسمالي والسيطرة الامبريالية على خيرات الشعوب بإحلال "الشراكة" محل الصراع الطبقي.
شارك هذا الموضوع على: ↓