جرت العادة بالمغرب وخارج المغرب أن تخلد الطبقة العاملة العيد الأممي للعمال.
وكانت المناسبة تجسد بالفعل قوة العمال وتطلعهم للتحرر والانعتاق. وترسم صورة الوفاء للتضحيات الخالدة ولما يرمز اليه فاتح ماي 1886 من كفاحية وصلابة في مواجهة برجوازية دموية وآلياتها القمعية...
كانت مناسبة فاتح ماي في سنوات سابقة ببلادنا، ورغم تواضعها شكلا ومضمونا، لحظة شاركت فيها جماهير شعبية غفيرة وفي طليعتها الطبقة العاملة. وكانت ترفع فيها شعارات ثورية تحديا لرقابة ومضايقات "فيدورات" القيادات النقابية وللأعين المتلصصة لأجهزة النظام القمعية. وكان يحضر إبانها مناضلون من مختلف المواقع (الطلبة والمعطلون...) وكذلك عائلات المعتقلين السياسيين...
أما في الآونة الأخيرة، فقد صار فاتح ماي من كل سنة محطة روتينية بئيسة، بدون طعم ولا لون. حضور لا يعكس التمثيلية الحقيقية للطبقة العاملة. شعارات فضفاضة، لا علاقة لجلها بالمناسبة العمالية. بهرجة تسيء لعيد العمال وتكرس الخنوع وتبعث رسائل الولاء لأعداء الطبقة العاملة.
وتلعب هنا القيادات النقابية البيروقراطية الدور المحوري في جريمة كسر شوكة العمال وتدجينهم. وبات مألوفا جلوس رموز الفساد والأعداء الطبقيين (وفود سياسية ورسمية...) فوق الكراسي الأمامية لمنصات فاتح ماي المبثوثة بكل شارع وساحة...
والغريب أن تجد المناضلين، وفي كثير من الحالات أشباه المناضلين، مساهمين في هذه المسرحيات الخادعة سنة بعد أخرى. وتراهم متشبثين بفاتح ماي، ليس في مضمونه الكفاحي ورمزيته النضالية، بل في الحدث في حد ذاته. ويذكرنا ذلك بمن يتشبث بأداء مناسك الحج ولو باقتراض مستلزماته. وحتى في حال توفر شروط الحج، هناك من يرغب في أكثر من "حجة" تاركا وراء ظهره من هم في أمس الحاجة الى أبسط تلك الإمكانيات التي ينفقها بسخاء وبعشوائية...
نعم، كان حضورنا من أجل العمال وقضيتهم. كان هدفنا السياسي هو التجذر وسط العمال. ويجب أن يستمر حضورنا دائما، وفي المقدمة. لكن هل يكفي الحضور يوم فاتح ماي وبالتالي العودة الى وكر البيروقراطية؟ هل للصراع الطبقي يوم واحد في السنة، هو يوم فاتح ماي؟ هنا كذلك، يذكرنا الأمر بمن يقدس صلاة يوم الجمعة وصلوات شهر رمضان، دون غيرها... فتراه "متخشعا" ساعة واحدة أو يوما واحدا أو حتى شهرا، وتجده بعد ذلك "شيطانا" ماكرا وخبيثا...
إن الارتباط بالعمال يجب أن يستمر بالمعامل والمصانع وبكل مواقع تواجدهم، ويجب أن يستمر ما استمرت معاركهم ونضالاتهم، خاصة واستفحال التردي الاقتصادي والاجتماعي...
والآن حيث يتعذر تخليد فاتح ماي 2020 في ظل وباء "كورونا فيروس"، هل سنتأسف لأن اللعينة "كورونا" حرمتنا من الاحتفاء بالمناسبة واستعراض "هامشيتنا"؟
هل سنفرح لهذا الشر، لأنه خلصنا من عبث قيادات نقابية متواطئة؟
لن نتأسف طبعا. لأن هناك ألف شكل نضالي للاحتفاء بالعيد الأممي للعمال وبما يليق بمقامه. وأبسط ما قد نقوم به هو التعريف بمعارك العمال ونضالاتهم وفك الحصار المضروب عليهم، ليس فقط من طرف النظام بل والمخزي من طرف القيادات النقابية. ومن يذرف دموع التماسيح على عدم تخليد فاتح ماي هذه السنة، ليتذكر القرار البيروقراطي المفاجئ للنقابات سنة 2015 الذي دعا الى مقاطعة فاتح ماي، ولو بمبرر الاحتجاج. ومن يبحث عن "أجر وثواب" فاتح ماي، ندله على عمال امانور بطنجة وتطوان والرباط الذين يستحقون تضامننا ودعمنا، بل وانخراطنا في معركتهم البطولية التي تكالبت عليها القيادة النقابية البيروقراطية. فكيف نتجاهل المحن والمآسي وراء ظهرانينا وندعي الانتماء الى العمال والى العمل النقابي؟ فحالنا كمن تريه "الثرى" ويريك "الثريا"...
ولن نفرح أيضا. لأن أي خلاص من خارج الطبقة العاملة وقيادتها الثورية، لا يعتبر خلاصا. فلن يجعلنا الضعف والعجز نتشبث بالقش أو بالأوهام أو أن نركن الى الهامش أو الاستسلام للواقع المر. ولن نلتفت الى الحروب الصغيرة والثانوية لإخفاء تخلفنا عن المهام الكبرى للمرحلة، وفي مقدمتها بناء الذات المناضلة.
ولعل الشعار المطلوب الآن الذي لا ينسخ الشعارات المألوفة والمتكررة هو "لنتحد ضد البيروقراطية وعرابيها". وربح هذا الرهان أو التقدم في إنجازه يعبر عن سداد مسارنا النضالي، ومؤشر دال على الحضور في قلب الصراع الطبقي وعلى التأثير في موازين القوى. والدعوة الى التصدي للبيروقراطية وفضحها موجهة الى العمال، في صفوف النقابات وخارجها، وكذلك الى المناضلين النقابيين المبدئيين الذين تهمهم مصلحة الطبقة العاملة. فلا معنى ليتشبث هذا المناضل بهذه النقابة ورفيقه بنقابة أخرى. وكأن النقابة هي الهدف في حد ذاتها، كأن نسمع "عاش الاتحاد المغربي للشغل" أو "عاشت الكنفدرالية الديمقراطية للشغل". والخطير أن تعلن نقابة مناضل عن خوض إضراب مثلا، وتتخلف نقابة رفيقه!! فلنقل جميعا "عاشت الطبقة العاملة". ومعيار الانتماء النقابي ليس سواد عيون النقابة أو شعاراتها وخطاباتها البراقة أو مواقفها أو كراسيها الوثيرة أو تضخم خزائنها، إن المحدد بالنسبة للمناضل هو القاعدة العمالية للنقابة. فالنقابة بدون قاعدة عمالية كقاعة مزخرفة ومكيفة، لكنها فارغة.
نعم، كل نقاباتنا بدون قواعد، حيث نسبة الانتماء النقابي لا تتعدى في مجملها 05%، بل كل نقاباتنا قاعات أو الأصح زنازن مخربة. علما أنه باسم النضال والتصحيح وباسم البديل النقابي توالدت النقابات الصفراء مخلفة الدمار في صفوف الطبقة العاملة.
فكلما تنازعت القيادات البيروقراطية الفتات والولاء للنظام، كلما أبدعت في تمزيق جسد العمال والشغيلة، مدعومة أو منفذة أوامر هذا الحزب السياسي أو ذاك. علما أن لكل نقابة حزب تستظل به، وهناك من تستظل بأكثر من حزب.. وتبقى مظلة النظام فوق كل المظلات...
وأمام هذه المؤامرات تفرق المناضلون بين النقابات. والسؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: هل قام المناضلون، أقصد المناضلين المبدئيين، بدراسات ميدانية للوقوف على وضعية كل نقابة على حدة، من أجل اتخاذ الموقف المناسب؟
بدون شك، لا. وهل يجب أن يستمر هذا الوضع الرتيب، أي تمسك كل مناضل بنقابته تحت غرور وأنانية البرجوازية الصغيرة؟ لقد آن الأوان لإعادة النظر في انتمائنا النقابي كتنظيمات أو تيارات سياسية مناضلة وليس فقط كأفراد، ولنعمل على بناء عمل نقابي موحد وكفاحي يسحب البساط من تحت أقدام القيادات البيروقراطية التي لا تمت بصلة الى العمل النقابي. إن انخراطنا المتعدد في النقابات يخدم القيادات البيروقراطية ويضفي عليها المشروعية والمصداقية، وأكثر من ذلك يزكي تشرذم العمال ويكرس ضعفهم. فإلى متى سيبقى المناضلون يقدمون التضحيات تلو التضحيات دون جدوى؟ الى متى يظلون بنزينا في المحركات البالية للنقابات المتهالكة؟!!
قد يختلف المناضلون سياسيا في حدود معينة. لكن لن يرضوا الانبطاح أو خدمة قيادات تخدم الباطرونا وليس العمال. لن يقبلوا قتل العمل النقابي وتمزيق صفوف العمال. لن يقبلوا تكسير معارك العمال وإجهاضها، لن يسكتوا عن الريع النقابي (غياب الديمقراطية الداخلية وإهداء المواقع والكراسي للحواري...) وعن الفساد المالي (تمويل المشاريع الشخصية وشراء الذمم ونفخ أوداج الموالين...).
ونسجل للتاريخ عشية فاتح ماي 2020، أن العديد من العمال والعاملات يستنزفون من طرف الباطرونا الجشعة والمحمية في أوج انتشار الوباء وفي ظل صمت القيادات النقابية. ونصرخ في كل الآذان أن عمال امانور يعانون إجرام الباطرونا وتواطؤ النظام، وصيت معركتهم المتواصلة وصداها في كل الأرجاء..
إن إنجاح هذه المعركة والمساهمة في انتصارها وأيضا التصدي للاستغلال والاضطهاد الطبقيين عموما، أعظم تخليد لفاتح ماي هذه السنة والسنوات القادمة...
شارك هذا الموضوع على: ↓