يبدو أن السجن يقهر وكذلك السجان. بالفعل، "اختُرع" السجن و"صُنع" السجان لممارسة القهر والتركيع (ما يسمى ب"إعادة التربية والإدماج") وكذلك القتل البطيء...
لكن، يُمكن أن نقهر السجن والسجان. وأقصد هنا المعتقلين السياسيين (شخصيا، أعتبر الحديث عن معتقلي الرأي خارج دائرة الاعتقال السياسي تشويها آخرا مسيئا وغير مبرر ومحكوما بخلفيات انتهازية مقيتة)، ودون أن يكونوا بالضرورة أبطالا خارقين. كيف؟
ببساطة، ليس شفقة أو اكتشافا لوصفة سحرية من أجل التخلص من عذابات السجن والسجان ومن ألم الانهيار ولعنة قبول الأمر الواقع.
نقهر السجن والسجان عندما تكون لدينا قضية، طبعا قضية عادلة، ومن حجم قضية شعب.. والاعتقال السياسي كقضية طبقية تعتبر قضية شعب.. ولكي أكون منصفا، كم من حالة منفردة، في إطار ما يسمى ب"الحق العام" وبدون قضية بالمعنى الطبقي، فرضت نفسها بهذا الشكل أو ذاك وانتصرت كما تتمثل هي الانتصار.. وكم من خدمة قدمت في صمت الى المعتقلين السياسيين المناضلين وحتى غير المناضلين..
وللتوضيح أكثر، نقهر السجن والسجان عندما نكون مقتنعين بهذه القضية ومُلتزمين بها ومُدافعين شرسين عنها. ويُطرح هنا سؤال المبدئية، حيث لا قضية في غياب المبدئية إلا ادعاء..
لا أتحدث من فراغ، ولا أروي القصص والأساطير. لقد عشنا تجارب نضالية بعينها قهرت، بل هزمت السجن والسجان في ظل أوضاع كارثية انعدمت فيها أبسط شروط الحياة الإنسانية، أوضاع لا تختلف عن المجازر والمقابر.
لا أقصد كل تجارب الاعتقال السياسي، فمن بين هذه الأخيرة من أساءت الى النضال والى القضية؛ وأخطر من ذلك تنكرت الى ماض نضالي مُشرق ومارست في حقه أبشع أساليب التشويه والتشويش. ولعل كذبة "الإنصاف والمصالحة" وفرسانها من قبل ومن بعد، تعفينا من التفصيل أكثر..
والحديث عن التجارب التي فرضت نفسها رغم الحصار والطمس والتعتيم لن ينسينا تجارب الشهداء من داخل السجون. وأكبر هزيمة وأكبر قهر للسجن والسجان هو تخليد أسماء هؤلاء الشهداء عبر التاريخ.. إنها إدانة للنظام المسؤول الأول عن جريمة "تغييبهم"..
لا ندعو هنا الى الانتحار أو الى "المزيد من الشهداء". إن المناضل يُحب الحياة أكثر ممن يُلصقون به هذه التهم المجانية. والشهداء أكثر عشقا منا جميعا للحياة.. ومن يشكك في ذلك لا يحترم الشهداء وقضيتهم.. والمعتقل السياسي، والمناضل عموما أدرى بالشكل النضالي المطلوب في ظل ظرفية محددة ودقيقة. ومساءلة ذلك الشكل النضالي خارج سياقه، زمنا ومكانا، يُعد إساءة مقصودة ونية مُبيتة للقتل الرمزي للفعل النضالي...
إن درب النضال من داخل السجن أو من "خارجه" مفتوح على كل الاحتمالات والمفاجآت، ومنها السيئة. وعدد كبير من المناضلين استشهدوا "خارج" السجن. إننا لا نختار لأنفسنا مفاجأة دون أخرى أو نهاية دون أخرى. فقط المبدئية تفرض على المناضل تحمل المسؤولية. ومرة أخرى، تحمل المسؤولية، أي الالتزام، لا يعني التنفيذ الأعمى للتعليمات. إن المناضل يجسد أعلى درجات التفاعل الإيجابي والمبدع الذي يخدم القضية. إن المناضل ليس "حمار الطاحونة" وليس مرتزقا أو محترفا للمكر والخداع، ومن لا يحترم ذكاء المناضل ليس مناضلا. ويُطرح هنا أيضا سؤال المركزية الديمقراطية، حيث لا تنظيم ثوري بدون مركزية ديمقراطية. وهذه الأخيرة لا تعني بلورة تعليمات فوقية وفرض تنزيلها من خلال آلية "الأغلبية" القهرية. إن المركزية الديمقراطية صيغة تنظيمية ديمقراطية تحفظ الدينامية النضالية المنظمة والمنتظمة في إطار التداول الواسع والمستمر للأفكار والاجتهادات والإنصات الفعلي لنبض الواقع المتغير باستمرار (التحليل الملموس للواقع الملموس). ومن لا يلتقط إشارات الواقع المتجدد من أجل خدمة المشروع الثوري يسقط في "أصولية" مرفوضة ومكرسة للجمود القاتل.
وفي الختام، فالمعتقل السياسي بدون قضية، أقصد قضية في حجم قضية شعب، سيعرف معاناة مزدوجة. يكفي أن يطرح السؤال: لماذا أنا هنا، أي لماذا أنا داخل السجن؟
المعاناة الأولى: قساوة السجن والسجان التي يتقاسمها مع الجميع داخل السجن؛
المعاناة الثانية: "الإحساس بالذنب" تجاه الذات (الأنا والعائلة...)، أي ما جدوى الاعتقال؟ وبالضبط ما جدوى ضريبة الاعتقال؟
قد ننسى الكثير ونحن نتحدث عن الاعتقال السياسي، إلا أن حضور العائلات أمام أعيننا يفرض نفسه. ومن يُغيب تجارب عائلات المعتقلين السياسيين يجهل الموضوع أو يتجاهله...
لا أقصد هنا تناول موضوع عائلات المعتقلين السياسيين، يهمني فقط الوقوف عند تمثل المعتقل السياسي المناضل لواقع عائلته ودورها. فإذا كان المناضل مهتما بعائلته أكثر من اهتمامه بقضيته، فالأجدى أن يعيد النظر وقبل فوات الأوان في "نضاليته". مرة أخرى، من يحب شعبا لا يمكن ألا يحب عائلة، وخاصة عائلته. المقصود هنا هو ضرورة التفاعل الإيجابي بالنسبة للمعتقل السياسي مع عائلته/أسرته. ونادرا ما كانت العائلة/الأسرة معاكسة لتوجه ابنها أو متنكرة له، سواء كانت مقتنعة بقضيته أم لا. إن العائلة/الأسرة لا يمكن أن تكون مشجبا لنكوص وخضوع المعتقل السياسي.. في كثير من الأحيان، كانت محفزا ومدعما ومناصرا...
ولابد من الانتباه الى أن حزن العائلة/الأسرة يضاعف حزن المعتقل السياسي (ورفاقه)، وحزن هذا الأخير بدوره يضاعف حزن العائلة/الأسرة (ورفاقه)...
ليكن المعتقل السياسي مناضلا، أي صاحب قضية، قضية عادلة، ومن حجم قضية شعب.. وسيقهر/سيهزم لا محالة السجن والسجان..
سينتصر...
دون ذلك، مجرد أوهام ودموع ومناسبات للعناق والتمثيل وسحابات عابرة و"أضغاث أحلام"...
النصر لكافة المعتقلين السياسيين والمجد والخلود لكافة الشهداء...a