2023/06/12

محمد سعيدي // الأسواق المالية الأمريكية: بحث في أسباب الأزمة الأخيرة وتداعياتها


كنت نشرت سابقًا حزء من المقال عن انهيار بعض الأبناك الأمريكية، لكن لارتباط الأحداث والقرارات ، أنشر المقال كاملًا  الذي يناقش إضافة لذلك التضخم ونسبة الفائدة..

طرحت الكثير من التساؤلات لما أعلن عن إفلاس ثلاث أبناك أمريكية بداية مارس وحصول ارتباك كبير في الأسواق المالية. وكلها تدور حول طبيعة الحدث وأسبابه وتداعياته، وهذا ما سأحاول الاجابة عنه من خلال هذا المقال. وإن كانت هذه الأزمة مرتبطة بطبيعة الرأسمالية، إلا أنه يمكن رصد بدايتها في سنة 2020، مع تعطيل الإنتاج والتوزيع في العالم الذي رافق جائحة كورونا. مما نتج عنه تضخما بسبب اختلال في التوازن بين العرض والطلب. وهذا كان وراء قرار الأبناك المركزية القاضي برفع معدلات الفائدة والذي خلق متاعب لبعض الأبناك ولعموم الشعب. ونظرا لارتباط كل القطاعات الاقتصادية بالأسواق المالية فالتساؤل عن استمرارية الرأسمالية أو انهيارها يبقى مشروعا، لكن الأرجح هو كيفما كان كانت حدة الأزمة، فالرأسمالية لن تنهار من تلقاء نفسها ولن تتحول نحو النظام الاشتراكي ما لم تنتظم الطبقة العاملة وتفرز قيادتها الواعية بهذه المهمة وتنجزها بكل ما تقتضي الظرفية من حزم. أما في غياب ذلك، فالرأسمالية تتطور وتتجدد دائماً من خلال أزماتها.

ما عشناه خلال شهر مارس عاد بالذاكرة الجماعية إلى الأزمة المالية لسنتي 2008-2009 وما تلاهما. وإذا شئنا المقارنة بينها وبين أزمة 2023، فوجه الشبه أنهما بدأتا بإعلان إفلاس أبناك أمريكية. أما أوجه الاختلاف، فنذكر منها أن أزمة 2008 كانت أعم، بحيث تأثر بها كثير من القطاعات الاقتصادية وكثير من البلدان. وفي تلك السنة، بدأت الأزمة بعجز عام لزبناء  أبناك أمريكية عن تسديد القروض العقارية وانخفاض مهول في ثمن العقار بالبلد.   وبسبب هذا الانخفاض، كانت الأبناك غير قادرة على استخلاص أموال كافية لتسديد ما عليها من ديون حتى وإن وضعت يدها على العقارات التي كانت تتسلمها كضمانات للقروض بمقتضى عقود قانونية. وهكذا، فالأبناك التي كانت تعتمد بشكل كبير على القروض العقارية، انهارت وأثرت على القطاع المالي بأكمله داخل وخارج أمريكا.

أما أزمة هذه السنة، فترتبط بتداعيات الصعوبات التي يعاني منها قطاع الأموال الالكترونية وارتفاع معدل الفائدة على القروض.  فالنسبة الأكبر من استثمارات الأبناك الثلاثة التي أفلست كانت عبارة عن سندات طويلة الأمد للخزينة الأمريكية.  وكما هو معروف، فهذا النوع من الاستثمار يعتبر الأكثر ضمانًا، لأن الخزينة تؤدي الفوائد السنوية وأصل (ثمن) السند عند حلول الأجل دون تماطل.  يعرف الجميع أن الدولة الأمريكية ليست في حالة إفلاس رغم حجم الدين، وكل الحروب التي تخوضها لا تشكل إلى حد الآن أي تهديد لكيانها لأنها تدار خارج بلدها وضد جيوش صغيرة. ولمزيد من التوضيح وإذا تجاوزنا التسميات، فالشخص الذي يشتري سند الخزينة، في الواقع، يقرض الدولة إلى أجل مسمى مقابل الحصول على فوائد سنوية.  لكن هذه الفوائد تكون جد منخفضة مقارنة مع السوق لأن خطر ضياع الأموال المستثمرة جد منخفض.  أما الخطر الذي يواجه السندات هو أنها تفقد جزءً من قيمتها مع كل ارتفاع لنسبة الفائدة في السوق. مثال ذلك:

شخص "أ" اقترض 1000$ لشراء سند أجله سنة واحدة ويعود عليه ب 1% كفائدة سنوية. نفترض أن نسبة الفائدة على قرض الشخص هو 0%. في نهاية السنة، بعد تسديد قرضه، سيحصل الشخص على دخل صافي يقدر ب 10$.

مباشرة بعد الشراء، ارتفع سعر الفائدة على القروض إلى 2% والشخص "أ" يحتاج المال ويريد بيع السند وشخص "ب" يريد شراع السند.  "ب" لن يكون مغفلًا كي يقترض ب 2% ويشتري سنداً يعود عليه ب 1%.  كي يحصل على نفس دخل "أ" 10$، عليه أن يفاوض لشراء السند على الأكثر ب 980$ (1000/1,02). هكذا، سيحصل في نهاية السنة على 1000$ من الخزينة (الأصل) وعلى فوائد 10$، ويسدد دينه 980$ وفوائد دينه 20$، ويحصل على دخل صافي 10$.  وكما رأينا كلما ارتفعت نسبة الفائدة، انخفضت قيمة السندات. وتزداد انخفاضاً كلما كان أجل السند أطول.

كل الأبناك في امريكا حققت خسائر نتيجة انخفاض قيمة أصولها بعد الرفع من معدلات الفائدة؛ وبعض الإحصائيات قدرت الخسارة في نهاية 2022 ب 620 مليار دولار (1). لكن ما ميز الأبناك الثلاثة المفلسة هو زيادة الطلب على سحب الأموال رغم أنها كغيرها كانت دائما معرصة لمخاطر السيولة. للحد من هذه المخاطر، تفرض القوانين في كل البلدان أن يحتفظ البنك على نسبة معينة من السيولة للاستجابة لطلبات زبنائه. لكن هذه النسبة تبقى ضئيلة جدًا إذا فقد الزبناء الثقة في البنك لسبب من الأسباب وطلبوا أموالهم المودعة في وقت متقارب.  وهذا ما حصل مع الأبناك الثلاثة التي عرفت انتعاشًا كبيرًا في السنوات الأخيرة ابتداء من 2019 بعد أن ركزت على التعامل مع شركات الأموال الإلكترونية والتكنولوجيا واستثمرت في الخدمات التي تساعد على هيكلة قطاع تصاعد بشكلٍ سريع. لكن ما أن أعلنت شركة   FTX الأمريكية إفلاسها في نوفمبر 2022 واعتقل مؤسسها "سام فريد"  Sam Bankman Fried، حتى بدأ الشك يتزايد حول هذه الشركات (2).  وFTX كانت بمثابة بورصة   وغرفة مقاصة لها. لهذا فالإفلاس ساهم في انخفاض قيمة الأموال الالكترونية وشركاتها والأبناك التي تتعامل معها بشكلٍ رئيسي.

عملة "بيت كوان" Bitcoin مثلا التي كانت قيمتها سنة 2018 فقط 3200$، وصلت في 2021 إلى 60 ألف دولار، لتعود سنة 2022 بعد إفلاس FTX إلى 20 ألف (3).  مما ساهم في زيادة حاجة الشركات لسحب الأموال المودعة من أجل تعويض خسائرها، وصعب مهمة الأبناك خاصة بعد الرفع من معدلات الفائدة. فرغم أنها بدأت في بيع أصولها (السندات) في السوق محققة خسارة مهمة، كانت وتيرة الطلب متسارعة وحجم السحب أكبر، وهو ما أدى إلى انهيارها في الأخير.  قد يتساءل البعض لماذا التسارع على سحب الأموال المودعة، والجواب هو أن القانون الأمريكي لا يضمن ما فوق 250 ألف دولار من الأموال المودعة في حساب بنكي (4). لهذا ما أن يبدأ الشك حول بنك ما، حتى يتسارع الزبناء لسحب أموالهم.

إن الأبناك تعتمد بشكل كبير على ثقة الزبناء ، فما أن تهتز هذه الثقة حتى تنهار بسرعة. لهذا سارعت السلطات المالية الأمريكية للإعلان عن ضمان كل الودائع عند الأبناك الثلاثة للحد من تداعيات الانهيار.  أما رأسمال البنك أو مجموع أموال المساهمين في البنك فتبقى ضئيلة بالنظر إلى مجموع الأموال التي تروجها.  سيتضح هذا أكثر إذا نظرنا إلى التقارير السنوية:

بنك "سيليكون فالي" Silicon Valley Banb (SVB) بلغت في سنة 2022 أصوله 211 مليار دولار، بينما الرأسمال المساهم كان فقط 16 مليار دولار. أما الودائع فوصلت 173 مليار دولار (5)، ولا يؤدي عنها البنك أي فائدة لأصحابها. مثلًا، إذا حسبنا خسارته بناء على نسبة 15% التي تم تقديرها بعد أن وصل معدل الفائدة في أمريكا 4,5%، يكون خسر حوالي 32 مليار من قيمة أصوله، أي ضعف رأسماله.

بنك " سينيتير" Signature Bank الذي كان يحتل المرتبة 21 من حيث حجمه في أمريكا، فوصلت في سنة 2022 أصوله 110 مليار دولار، أما الرأسمال المساهم فوصل 8 مليار دولار، بينما كانت الودائع 102 مليار دولار. (6)

والبنك الجهوي الصغير "سيلفرغايت" Silvergate Bank ، فأصوله وصلت 14 مليار دولار، ورأسماله المساهم وصل 1 مليار دولار، أما الودائع فكانت 13 مليار دولار سنة 2021. (7)

رغم ضخامة الأرقام إذا قارناها مثلًا بمجموع صادرات المغرب الذي وصل 47 مليار دولار سنة 2021 (8)، فهذه الأبناك الثلاثة تصنف إما صغيرة أو متوسطة بمقاييس الولايات المتحدة الأمريكية. لهذا فتبعات انهيارها السلبية تبقى محدودة على باقي المؤسسات المالية، بل سجلت بعض الجرائد تبعاتها الإيجابية على بنكين كبيرين لعبوا دور المستقبل للودائع" الهاربة " من الأبناك الثلاثة وهي "ج.ب. مورغان شاس" JP Morgan Chase و " بنك أمريكا" (9) Bank of America. ويمكن أن نقول إن الخاسر الأكبر في هذه الأزمة هم أصحاب رؤوس الأموال المساهمين الذين تبخرت ملياراتهم كما أشرنا أعلاه، والعمال والموظفين الذين تم تشريدهم عبر هذه الإفلاسات المتلاحقة.  والخاسر على الدوام هي الشعوب التي تؤدي دائما الفاتورة النهائية عبر الزيادة في الأسعار، وعبر النقص في الخدمات الصحية والتعليمية وغير ذلك.

ووفق القوانين التي تسير عليها الرأسمالية، فكل أزمة تشرد أناساً وتفقر أناسًا، وبالقدر نفسه تزيد في غنى آخرين. وما رأينا خلال شهر مارس ربما شكل مصدر ارتياح لأصحاب الأبناك التقليدية. فهم لم يكونوا يخفون قلقهم من التطور التي شهده استعمال الأموال الإلكترونية وهم يرون بورصة جديدة تتطور بالموازاة مع البورصة المالية التقليدية، ونظامًا جديدًا للتحويلات المالية على مستوى العالم يتطور بالموازاة مع الانظمة التقليدية (مثل "سويفت" SWIFT). هذا التطور لو استمر بنفس الوتيرة، لكان شكل الأزمة وحجمها   مختلفين تمامًا عما رأينا.  فالودائع عند SVB فقط انتقلت من 49 مليار دولار سنة 2018 إلى 173 مليار دولار سنة 2022 (10). ورأينا كيف أن الشاب "سام" مؤسس FTX ذو الثلاثين سنة أصبح يتلاعب بالملايير عبر العالم ومنها الأموال السهلة المنهوبة من شعوب العالم الثالث والتي كانت تبحث عن ملاذات آمنة وجدتها في الأموال الالكترونية.  

رأينا فيما سبق بأن ارتفاع معدلات الفائدة أثر سلبيًا على جميع الأبناك، لكن التي انهارت لحد الآن هي ثلاثة أبناك تعتمد بشكل رئيسي على قطاع صاعد كان يعاني من غياب قوانين تناسب مستوى تطوره ومن تردد القيادة السياسية الأمريكية في دعمه. ويمكن أن نفهم هذا التردد إذا نظرنا إلى التحكم الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية في الاقتصاد العالمي من خلال نظام التحويلات المالية القائم على الدولار. لهذا، فهي غير مستعدة الآن للتخلي عن نظام يعمل بشكلٍ جيد لصالحها مقابل نظام تبقى آفاقه مفتوحة على المجهول، خاصة في ظل اصطفاف دولي ونقاشات تقودها الصين وروسيا بشأن إرساء نظام مالي منافس. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو هل ستتوقف هذه الانهيارات أم لا؟

إن الأسباب التي دفعت الأبناك المركزية إلى رفع معدلات الفائدة مازالت قائمة وهي التضخم (ارتفاع عام للأسعار)، ولم تحقق سياستها في هذا المجال إلا نتائج محدودة. صحيح أن نسب الفائدة المنخفضة التي انتهجتها الأبناك المركزية منذ أزمة 2008 ساهمت في زيادة الطلب على العقارات وأنعشت أسعارها، وطبيعي أن ينقص هذا الطلب أو يتوقف بسبب ارتفاع هذه النسبة؛ فأغلبية الراغبين في شراء العقار السكني يعتمدون على القرض البنكي أولًا، بل حتى الإقدام على العقار التجاري يتناقص بشكل كبير لأن الفوائد العالية تنقص من الأرباح ومن التحفيز على هذا الاستثمار.  إن اعتبار نسبة الفائدة في قرارات المستثمرين لا بد من القيام بها من طرف كل راغب في الشراء وإلا فإن البنك يقوم بها عندما يصلها أي طلب اقتراض. اجمالا، يمكن القول إن قرار الأبناك المركزية في هذا المجال، استطاع تحقيق جزء من الهدف المرجو، بأن حدّ من تزايد الطلب على العقار (11) لكن الأسعار لم تعرف انخفاضاً ملحوظًا، إضافة إلى أن هذه السياسة لا تقدم أي بديل للمواطن الذي يعاني من أزمة السكن خاصة في المراكز الحضرية الكبرى. عليه أن يستأنس لسنوات أخرى مع الاكتظاظ والضجيج وسكن غير لائق صحيًا في انتظار الحل الذي قد يأتي وقد لا يأتي. وفي الأخير، فان المواطن إذا كان قادرًا على تحمل سكن غير لائق لأن النتائج السلبية لذلك تتحقق على المستويين المتوسط والبعيد، فهو غير قادر على تأجيل الطلب على المواد الغذائية وعلى مواد أساسية أخرى لأن نتائج هذا الحرمان تتحقق فورًا.

إن سياسة الامبريالية بشكل عام لا تأخذ بعين الاعتبار الكلفة الاجتماعية إلا بقدر ما   تشكله ردة فعل الجماهير من تهديد لاستمراريتها. وهذا تجسد مثلًا في تعاملها مع الحرب الروسية-الأوكرانية الحالية، إذ تابعنا كيف تعرقل الحوار بين البلدين، ورأينا حجم الدعم العسكري والمالي والسياسي لأوكرانيا   من أجل إطالة أمد الحرب رغم معرفتها بأن البلدين يعدان من الخمسة الكبار في العالم على مستوى تصدير القمح (12) وبأن الحرب بينهما عطلت الانتاج والتصدير وتشكل أحد عوامل التضخم الحالي.  تعرف كذلك بأن أحد العوامل الأخرى للتضخم هي ارتفاع أسعار النفط والغاز على المستوى العالمي وتداعيات ذلك على أسعار كل المواد الصناعية والفلاحية ومع ذلك، فهي تتشدد في فرض العقوبات على تصدير الطاقة الروسية.   ولا يمكن اعتبار طلبها من دول بترولية أخرى الرفع من إنتاجها محاولة جدية لحل المعضلة بشكل عادل.  على العكس، يمكن اعتبار هذه الخطوة أنانية مفرطة. ففي الوقت الذي تستثمر الإمبريالية في الطاقة البديلة وتهيئ اقتصاداتها للتخلص من النفط والغاز، تحث دول العالم الثالث على الرفع من إنتاجها الذي يعني استثمار المزيد من الأموال لزيادة القدرة الإنتاجية.   والتحدي هنا هو أنه ربما حين تتخلص أمريكا وأوروبا من النفط، تكون هذه الدول مازالت تلهث وراء استرداد رأس المال. التوجه الحالي تعكسه توقعات الوكالة الدولية للطاقة التي تتوقع أن تصل الاستثمارات السنوية العالمية في الطاقة النظيفة سنة 2030 الى 5000 مليار دولار، بينما في سنة 2022 كان المبلغ 1400 مليار دولار، كما تدعو الوكالة إلى وقف الاستثمار في الطاقة الملوثة (13).  وإذا كان اتجاه العالم يسير نحو الطاقة النظيفة، فأي معنى إذن للاستثمار في طاقة متجاوزة!؟

 هذه السياسة، أي رفع نسبة الفائدة، لا تلتفت أيضًا إلى أصحاب المشاريع الصغرى وعدد من القطاعات الاقتصادية التي سيصبح فيها معدل الفائدة أعلى من معدل الربح.   هؤلاء   سيتوقف أيضًا لجوؤهم إلى القروض من أجل توسيع أو تجديد مشاريعهم، أو سيتضاءل.  وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنهم يشكلون نسبة مهمة من الاقتصاد ومصدر رزق لعدد لا يستهان به من العائلات، يمكن أن نتصور حجم الكارثة إذا استمر الوضع على ما عليه. أمام هذه المشاريع إمكانيتان؛ فبعضها سيتحمل الخسائر ويعتبرها مؤقتة ويبحث عن مصادر أخرى لتمويل نشاطه، وبعضها سيتخلى عن نشاطه ويسرح عماله.   أمًا أولئك الذين يستمرون فليس لهم من خيار سوى رفع أسعار موادهم وخدماتهم لتعويض الزيادة في الفوائد المؤداة.  وفي مثل هذه الحالة، يكون الرفع من معدل الفائدة عاملًا في زيادة التضخم وليس في الحد منه، وربما ستستمر سلسلة الانهيارات.  لكن هنا يطرح سؤال وجيه، هل الأبناك المركزية لا تعرف هذه القوانين؟ بلا، تعرفها وإنما تتخذ قرارها مراهنة على عامل أقوى يقاوم الزيادة في الأسعار، وهو تدهور الأوضاع المعيشية للشعب.  إذ أن عدداً من المشاريع الصغرى والمتوسطة ستعرف صعوبات وجزء منها سيضطر إلى إغلاق أبوابه، وهذا سيزيد من جيش العاطلين المستعدين لقبول أجور أقل ويكونون مضطرين بحكم الواقع إلى الاستهلاك أقل.  أما العمال الذين يحافظون على مناصبهم فلن يكونوا أحسن حالًا في وضعهم التفاوضي أمام التوسع المستمر لجيش العاطلين.  وهكذا، عوض أن يكون الركود الاقتصادي نتيجة لعوامل اقتصادية حقيقية، يكون رغبة ذاتية للسلطات المالية.

إن هذه السلطات هي المسيطرة على الاقتصاد ولا بد أن تعود عليها القرارات الكبرى بالحصة الاوفر من الأرباح.  فهي تحطم جزءً من الاقتصاد حين تقتضي مصلحتها ذلك. وتنعش جزءً حسب المصلحة أيضاً. ورأينا كيف خفضت الأبناك المركزية في أمريكا وبلدان أخرى سعر الفائدة إلى الصفر في بداية جائحة كورونا، وتدخلت الحكومات لصرف مساعدات للذين فقدوا أعمالهم خاصة في أمريكا وأوربا  بسبب الإجراءات الصحية وتوقف شبه عام للمعامل والإدارات. نتذكر اجتماع مجموعة 20 (الدول العشرون الكبرى) حيث تم الاتفاق على "ضخ" 5000 مليار دولار في الاقتصاد العالمي (14).  نعم ساهم الدعم في طمأنة المواطن خاصة في أوربا وأمريكا وفي تسهيل الضبط الأمني لتفادي الانتفاضات الشعبية العنيفة على الأقل فترة الجائحة.  لكن الحاضر الأهم   هي مصلحة البنك؛ ماذا لو امتنعت الحكومات عن تقديم هذا الدعم؟ هل كان المواطن ليحافظ على وتيرة تسديد ديونه الحاضرة بقوة في كل ممتلكاته حتى السيارة والثلاجة؟ هل كانت المقاولات لتحافظ أيضًا على وتيرة تسديد ديونها؟ علمًا بأن القرض يكاد يكون حاضراً في كل المقاولات.  إذا كان الدعم مكن الأشخاص الذاتيين والمعنويين من تجنب موجة واسعة من الإفلاس، فهو أولًا وأخيرًا جنب الأبناك، إحدى الركائز الأساسية، من الانهيار.

أما المبالغ الضخمة التي تم ضخها في الاقتصاد، فهي ليست عملية بسيطة كي تنتهي نتائجها بسهولة.  فالدعم جاء من خزينة الدولة التي تشكل الضريبة عادة أكبر عائداتها وانتهى بشكل من الأشكال في جيوب الأبناك.  وهو إما يمول من فائض الخزينة في بعض الحالات النادرة (قليلة هي الدول تتوفر على فائض في الخزينة مثل السعودية)، وإما يسجل في ذمة الشعوب، على صيغة عجز وتسدده الشعوب في السنوات المقبلة عبر رفع الضرائب ونقص في الاجتماعية (كالصحة والتعليم). ومن جهة أخرى، فقد ساهمت هذه المبالغ في التضخم الذي نعيشه الآن.  فهي ساهمت في الحفاظ على القدرة الشرائية وعلى نفس مستوى الطلب لما قبل الجائحة، في الوقت عرف العرض تأخراً ملحوظًا على المستوى العالمي نتيجة القيود التي فرضت على النقل والإنتاج.  فالصين مثلًا الحاضرة بقوة في مختلف أنواع المنتجات الصناعية كانت تنهج سياسة صفر كوفيد التي تتضمن إجراءات صحية صارمة عطلت المعامل وحركة النقل (15).  ومعروف أنه إذا اختل التوازن بين العرض والطلب لصالح هذا الأخير حصل التضخم.

كانت أسباب التضخم تتشكل خارج القطاع المالي بدرجة رئيسية، لذا كان من الطبيعي أن يكون الجواب من خارج هذا القطاع. لكن الأبناك المركزية لها رأي آخر. وفي الحقيقة، لم يكن منتظرا منها غير القرار الوحيد التي اتخذته وهو رفع معدلات الفائدة. وهتا وجبت الإشارة إلى أنها ليست طرفا محايدا فيما يجري يعمل على حفظ التوازن في السوق كما يروج لذلك الفكر الليبرالي. فالمهمة الرئيسية التي حددت له في حراسة العملة الوطنية (17) من طرف الدول الرأسمالية تحتاج بعض التفصيل. الحماية هنا يجب فهمها على أنها حماية لقيمة العملة الوطنية من الانهيار، وإنجاز هذه المهمة له حدود مهمة كما سنرى. فعلى المستوى الدولي، العملة هي مثل أي سلعة يتحدد سعرها بكثرة الطلب عليها أو قلته، اللهم إلا أن تضع الدول بعض القيود. وهنا، محدودية المهمة هو أن قوة الاقتصاد الوطني هي التي تتحكم في حجم الطلب على العملة. مثلا الدولار الأمريكي مطلوب في كل العالم لأن اقتصاد البلد مازال يحتل الرتبة الأولى، وكل المعاملات الدولية تقريبا تتم بواسطة هذه العملة. أما عملة أي بلد آخر، فبشكل عام لا يحتاجها المرء إلا إذا كان محتاجا لشراء سلعة من هذا البلد.  لذا كلما كان البلد ينتج سلعا بمواصفات تراعي احتياجات المستهلك من حيث الجودة والثمن، كان الطلب على عملته أكثر وكانت قيمتها أكثر استقرارا. وهذا الإطار العام تلعب فيه سياسات اقتصادية أخرى، خارج اختصاصات البنك المركزي، الدور الأبرز. 

أما على المستوى الوطني، فمسألة العرض والطلب لا تستقيم عمليا، لأن الدولة هي التي تحدد القيمة الإسمية للعملة والطلب على العملة الوطنية محدود بما يملكه الإنسان من قوة العمل أو سلع أخرى أو ما يستطيع اقتراضه. أما العرض فكذلك محدود بما يمكن من تبادل السلع داخل البلد. ونظريا على الأقل، البنك المركزي لا يسمح بطبع العملة إلا في الحدود التي تناسب تطور الاقتصاد الوطني. وعموما، تداول العملة يكون عبر البيع والشراء أو عبر القرض. وفي هذه الحالة الأخيرة، يظهر دور البنك المركزي صاحب القرار داخل البلد في تحديد سعر الفائدة. وهذا لا يعني أنه لا يأخذ بعين الاعتبار العوامل الخارجية. فهو، خاصة في بلدان الاقتصادات الضعيفة، مضطر لاتباع ما يتم تقريره من طرف الدوائر المالية الكبرى على مستوى العالم وليس له خيار آخر إذا أراد الحفاظ على قيمة العملة الوطنية مقارنة مع العملات الأجنبية القوية. مثال ذلك:

شخص له مبلغ من المال يمكنه من شراء 1000 درهم أو 100 أورو في السوق الدولية ويريد، بعد عملية الشراء، إيداع المبلغ في حساب مقابل فوائد. إذا كان معدل الفائدة هو نفسه بالنسبة للعملتين، فلن يخسر شيئا بشرائه لإحداهما. أما إذا كان سعر الفائدة للأورو 4% وللدرهم 2%، فالشخص سيفضل شراء الأورو على الدرهم، لأنه سيربح في نهاية السنة 40 أورو وإذا حولها إلى الدرهم سيحصل على 400 درهم.  أما إذا اشترى الدرهم فلن يحصل سوى على 200 درهم. وهكذا يقل الطلب على الدرهم في الأسواق الدولية ويفقد جزء من قيمته. وهذا يؤثر على قيمة الصادرات وكمية العملة الصعبة المحصل عليها وتتبع ذلك تداعيات أخرى. لهذا، فالاستقلالية عن الدوائر الامبريالية كل لا يتجزأ؛ فلا يمكن أن ترهن الاقتصاد الوطني بالخارج وتكون قادرا على اتخاذ قرار مستقل في سعر الفائدة.  

هذا إذا قارنا العملات المختلفة وتأثير معدل الفائدة عليها، أما إذا رجعنا إلى العملة الواحدة وتأثير سعر الفائدة، فإننا سنفهم أن البنك المركزي لا يحمي قيمة العملة الوطنية، بل قيمة الأرباح التي تعود إلى الأبناك، ويظهر دوره غير المعلن كممثل لمصلحة قطاعية وليس لمصلحة وطنية. وقبل ذلك نؤكد على حقيقة وهي أنه إذا عولنا على قرار رفع معدل الفائدة وحده، فلن نتجاوز مرحلة التضخم أبدا، إذ المعول عليه في تجاوزها هو زيادة الإنتاج وتسهيل التوزيع، أما أن ترفع معدل الفائدة على القروض، فمثله أن يرفع صاحب أي سلعة ثمنه ويروج بأنه يساهم في الحد من التضخم لأن الطلب على سلعته سيقل وستبدأ الأثمان التراجع في الأسواق بفعل هذا. فمعدل الفائدة كما يعرفه الفكر الليبرالي نفسه ينقسم إلى جزئين (18)؛ واحد يعوض نسبة التضخم والآخر هو الربح الذي يجنيه البنك أو أي مقرض آخر. حينما تكون نسبة التضخم مثلا 2% وتقترض بنسبة فائدة 5%، فالبنك المقرض يربح 3%. أما لما تتجاوز نسبة التضخم 9% كما حصل في الدول المتقدمة (19) سنة 2022، فمعدل الأرباح على القروض أصبح يساوي صفر إن لم يكن تحول إلى خسارة لأن نسبة التضخم أصبحت أعلى من نسبة الفائدة. وبما أن البنك المركزي لا يستطيع عمل شيء لحماية القيمة العملية للعملة، فهو يرفع نسبة الفائدة ويتصرف كأي تاجر آخر لإنقاذ الأبناك من خسائر محتملة وللحفاظ على الارباح التي تكاد تضيع مع ارتفاع التضخم. أشرت أعلاه لخسارة الأبناك الأمريكية لما أعلن عن رفع معدل الفائدة، لكن للدقة فهي خسائر لا تتحقق إلا إذا باعت سندات الخزينة، بالإضافة إلى أن هناك أرباحا ستجنيها من هذا القرار ولم يعلن عنها؛ ستظهر لما تنشر تقاريرها السنوية لسنة 2023.  

بقي أن أشير إلى أن التحسن الضعيف لنسبة التضخم أخيرا (20) يرجع إلى عودة تدريجية للإنتاج والتوزيع إلى سابق عهدهما خاصة مع تخلي الصين عن سياستها صفر كوفيد. لكننا لم نغادر مرحلة الأزمات فمنذ اعتماد المعلوماتية وتطور الشبكة العنكبوتية، لم تتوقف التحولات و الإفلاسات والانهيارات والمتاعب في بعض القطاعات الاقتصادية بالموازاة مع تراكم لرأس المال وزيادة في الأرباح في قطاعات أخرى. حدث هذا مثلًا بالنسبة للجرائد والصحف والكتب المطبوعة والإذاعة والتلفزيون التقليديين مع تطور اليوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي وبدائل أخرى من نفس الصنف. وحدث أيضاً هذا لعدد من المحلات والشركات التي أرغمت على الإغلاق بعد التطور الكبير الذي شهدته أمازون Amazon وغيرها من الشركات التي تعتمد البيع عن طريق الشبكة العنكبوتية.  وبالمناسبة، فمبيعات أمازون انتقلت من 61 مليار دولار سنة 2012 إلى 514 مليار دولار سنة 2022 (16)، وهذا التطور السريع لن يترك خياراً إلا الإفلاس أمام الشركات التقليدية التي تتعثر في امتلاك التقنيات الجديدة. يضاف إلى هذا الواقع في أوربا وأمريكا الضغط الذي أصبح يشكله الاقتصاد الصيني المعروف بكلفته الرخيصة. وهناك أزمات أخرى تتشكل مع زيادة الاعتماد على ما يسمى الطاقة النظيفة والتخلي التدريجي عن النفط. ومع زيادة هذه الضغوطات الخارجية والتحولات الداخلية، يزيد الخوف من المستقبل داخل أوساط الرأسمالية التقليدية والمفكرين المرتبطين بها ويزيد تطرف الخطاب اليميني. 

 5 ماي 2023


هوامش:

1. مقال:

Pierre Couture,« Les banques américaines assises sur des pertes potentielles de 620 milliards $US », 12 mars 2023

https://cashmireplus.com/les-banques-americaines-assises.../

2. مقال: محمد المنشاوي، "انهيارات متتالية لمنصات قطاع التشفير.. "بلوك فاي" تشهر إفلاسها"، الجزيرة،

https://www.aljazeera.net/amp/ebusiness/2022/11/29/وبدأت-توابع-زلزال-أف-تي-أكس-ftx-بإفلاس

3. 

Crypto site, « Cours Bitcoin (BTC) | Prix en direct et historique de sa valeur », le 28 février 2023:

https://cryptonaute.fr/crypto-monnaie/bitcoin/

4.

BFM, « Des petites banques américaines garantissent plus de dépôts pour ne pas faire face aux géants », le 9 avril 2023:

https://www.bfmtv.com/.../garantir-plus-de-depots-l-arme...

5. التقرير السنوي للبنك 2022:

 https://ir.svb.com/.../annual-reports-and.../default.aspx

6. التقرير السنوي للبنك 2022:

https://www.macrotrends.net/.../signature-bank/total-assets

7. التقرير السنوي للبنك 2021:

https://ir.silvergate.com/financial-results/default.aspx

8. إحصائيات البنك الدولي:

https://donnees.banquemondiale.org/indi.../BX.GSR.GNFS.CD...

9.

The Economic Times, « JPMorgan, other big U.S. banks flooded with new clients post SVB collapse-FT », Mar14, 2023:

https://m.economictimes.com/.../amp_articleshow/98628613.cms

10. المصدر السابق: التقرير السنوي 2022

11. مقال بالفرنسية عن تطورات السوق العقارية الأمريكية:

Kadiatou Bah, « Le marché du logement aux États-Unis se refroidit davantage », le 29 mars 2023:

https://mrex.co/.../le-marche-du-logement-aux-etats-unis.../

12. إحصائيات عن المصدرين الكبار للقمح:

Statista  Research Department, « Classement des principaux pays exportateurs de blé, farine de blé et de produits de blé dans le monde de 2014 à 2022 » , le 15 août 2022.

13. حسن بلفقيه، " العقوبات الغربية على روسيا.. فاعلية مشكوك فيها"، CNN:

https://cnnbusinessarabic.com/العقوبات-الغربية-على-روسيا-فاعلية-مشك

13. مقال:

Sharon Wahsbrot, 

« Climat : l'Agence internationale de l'énergie appelle à renoncer immédiatement à tout nouveau projet fossile », Les Échos, le 18 mai 2021

https://www.lesechos.fr/.../energie-laie-plaide-pour....

14. مقال:

BBC, « Coronavirus: 5000 milliards injectés dans l'économie mondiale », le 26 mars 2020:

https://www.bbc.com/afrique/monde-52058332.amp

15. مقال:  وانيون سونغ "فيروس كورونا: ما هي سياسة "صفر كوفيد" التي تتبعها الصين وما هي قواعدها؟" ،29 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022. 

https://www.bbc.com/arabic/world-63775430.amp

16. احصائيات:

"Données financières Amazon.com, Inc.":

https://rendementbourse.com/amzn-amazon/finances

« Amazon : chiffre d'affaires 2004-2021 »:

https://fr.statista.com/.../amazon-recettes-annuelles.../

17. أنظر مهام بنك فرنسا مثلا:

https://www.banque-france.fr/.../les-missions-de-la...

18. تعريف معدل الفائدة:

https://www.universalis.fr/encyclopedie/taux-d-interet/

19.  Perspectives économiques de l'OCDE, Volume 2022 Numéro 2

https://www.oecd-ilibrary.org/sites/25b26d2e-fr/1/3/1/index.html?itemId=/content/publication/25b26d2e-fr&_csp_=7dd6a12020772e117f79a95aaa181de7&itemIGO=oecd&itemContentType=book#p-d1e248

20. المصدر السابق.




شارك هذا الموضوع على: ↓




↓للتعليق على الموضوع
تعليقات
1 تعليقات

1 التعليقات:

  1. هل تفقد النوم ليلاً وتقلق من كيفية الحصول على قرض؟ الاتصال: وكالة وحيد للتمويل الآن عبر البريد الإلكتروني: info@waheedfinance.com

    نقدم قرضًا بفائدة منخفضة بنسبة 3٪ ، ونحن نقدمه
    *قروض شخصية
    * قروض توحيد الديون
    * رأس المال التجاري
    * قروض الأعمال
    * قروض التعليم
    * قروض المنزل
    * قروض لأي سبب
    لمزيد من المعلومات العاجلة ارجع إلينا على الفور.

    info@waheedfinance.com
    يعتبر
    شركة وحيد للتمويل

    ردحذف

رسالة أقدم الصفحة الرئيسية