26‏/02‏/2015

حسن أحراث // في ذكرى اعتقالي (27 فبراير 1984)



استحضارا لهذه الذكرى (ميلاد جديد)، خاصة وتزامنها مع أجواء ذكرى أخرى تهم شعبنا، هي ذكرى الانتفاضة الشعبية المجيدة 20 فبراير 2011، أعيد نشر

مقتطفات من كتاب "مجموعة مراكش، انتفاضة يناير 1984، معركة الشهيدين بلهواري والدريدي" (أصدرته في دجنبر 2006)، تحت عنوان: "أوراق من ملف اعتقالي" (أو ما تبقى من أوراق كتبت إبان الاعتقال بعد مصادرة الكثير من الإنتاجات التي رأت النور في غفلة من أعين عناصر الحراسة).
ملاحظة: انظر التعليق على الصورة في ختام المقتطفات.
الورقة رقم 01:
إبان ذلك الجو المرعب الذي عرفته مدينة مراكش بعد انتفاضة يناير 1984 البطولية كنت ناذرا ما أقضي الليل في منزلنا، الحي المحمدي الشمالي أو الوحدة الثالثة أو ما يعرف بديور المساكين بلوك 32 رقم 02 الداوديات. وقد بدأت حيطتي منذ أول تهديد حقيقي باعتقالي، قبل اندلاع الانتفاضة، أي منذ الأحداث الدامية المفاجئة التي أغلقت على إثرها المدرسة العليا للأساتذة بمراكش حيث كنت مسيرا لجمع عام بأحد مدرجات المدرسة قبل التدخل العنيف للأواكس. كان ذلك بالضبط في ظهيرة اليوم الذي أعلن فيه عن وفاة الأمير عبد الله، أحد أيام دجنبر 1983. إلا أن حيطتي كانت شكلية ولم تراع خطورة تلك الظرفية ولم تنظر الى الأمور بالجدية الكافية رغم حملة الاعتقالات الهستيرية التي شهدتها المدينة وخاصة اعتقال مناضلين شاركوا الى جانبي في مهام نضالية كتوزيع المناشير. 
وكانت الواقعة في الصباح الباكر من يوم الاثنين 27 فبراير 1984. كنت نائما فاستيقظت على وقع طرق جنوني على الباب. ولم أكد أرتدي ملابسي حتى ملأت الخفافيش المنزل واقتحمت الغرفة، لأجد نفسي في لمحة البصر مقيدا ومشلول الحركة... تلك كانت البداية/النهاية... نهاية مرحلة وبداية مرحلة أخرى...
الورقة رقم 02:
بعد تفتيش دقيق للغرفة لم يستثن حتى جيوب الملابس حمل زوار الليل كل ما وجد من كتب ومجلات وجرائد وأوراق...
وقبل أن أغادر المنزل تلك الصبيحة المشؤومة من يوم الاثنين 27 فبراير 1984 بيدين مقيدتين الى الوراء تدخل والدي بعدما كان يراقب الى جانب أختي عائشة وأخي حميد المشهد المؤلم بحزن وأسى عميقين لم يستطع إخفاءهما ليسلمني جلابة صوفية بالتأكيد إشفاقا منه على حالي أمام برودة الطقس المراكشي خاصة وقساوة السراديب وتنوع أساليب التعذيب. ألبستني الخفافيش الجلابة ووضعت "القب" على رأسي بشكل يحجب الرؤية تماما. ومباشرة بعدما أدخلت فضاء إحدى السيارات انقض على رأسي خفاش مجتهد ووضع العصابة على عيني. وما هي إلا ثواني معدودة حتى انطلقت السيارات التي وضعت في مكان أشبه بموقف للسيارات كي لا تثير الانتباه سواء بكثرتها أو بضوضائها.
كان صباحا جميلا وهادئا دنس بهذه الجريمة القذرة. كما دنست صباحات من قبل ومن بعد.
وبالنظر الى مسيرتنا الشاقة يحدث أن أنسى تفاصيل كثيرة، لكن كيف أنسى صورة المأساة التي انتصبت مخيفة أمام أعين الثلاثة البئيسة، علما أن أخي الحسين والتي سبقت الإشارة الى اعتقاله في فقرة سابقة من الكتاب قد سلم من حدة الصدمة بسبب عاهة السمع، رب ضارة نافعة. أما الوالدة فلم تكن موجودة آنذاك بالبيت، ولما أتت تلك الصبيحة وعلمت بالفاجعة فقد سقطت في نوبة أفقدتها صوابها لمدة طويلة...
الورقة رقم 03:
انطلقت السيارة وكانت من الحجم الكبير، وفكرت في ضبط خط سيرها لأتعرف على المكان القذر الذي ستحط فيه الرحال. وفعلا، كان المنعرج الأول والثاني ثم الثالث ثم...، لكن المنعرجات اختلطت علي في الأخير، خاصة والسرعة المفرطة في أحيان كثيرة والمنعرجات الوهمية وطول مدة الرحلة المتعمد...
كنا نعرف آنذاك فيلا محروسة تحت تصرف جهاز DST وأماكن أخرى مشبوهة، لكن كم يجب أن تعرف من أقبية ودهاليز...؟
تساءل أحد المرافقين بصوت خافت قصد التمويه: هل سيكفي البنزين حتى الدار البيضاء؟ فأجاب آخر وربما هو نفسه وبنفس الخفوت: نعم، سيكفي حتى الدار البيضاء.
لم أستبعد حينه التوجه الى درب م. الشريف. لأن المعتقلين الأوائل كانوا هناك قبل نقلهم الى السجن المدني بمراكش يوم السبت 11 فبراير 1984.
عناوين كثيرة ازدحمت في ذهني، تساؤلات، استنتاجات...، أساليب التعذيب الأكثر وحشية، ردود فعل العائلة اتجاه هذه الوضعية كأول حالة تواجهها في هذا المجال، دور الرفاق والمناضلين والقوى الجذرية بجانب الأسرة اعتبارا لدوري في صفوفها كمعيل أول... 
انتبهت فجأة، فكانت لحظة صعبة. كانت لحظة صعبة عندما توقفت السيارة بعد مسير طويل في طريق غير معبدة وضيقة لامست أعشاب جهتيها القريبتين هيكل السيارة. ساد هدوء تام كان يتكسر بزقزقة الطيور وبحفيف الأشجار. غابت كل العناوين في تلك اللحظة الرهيبة إلا قصة تخلص النظام المغربي من أحد المناضلين بواسطة سكة القطار (المقصود الشهيد منتصر البريبري)...
الورقة رقم 04:
في مثل تلك اللحظة الحرجة/اللحظة المحك يقيس المناضل والإنسان بشكل عام بدون أوهام ذاتية وبدون مثالية مدى قدرته على الالتزام بمبادئه ومواقفه وشعاراته حتى آخر نفس، أي حتى الاستشهاد...
إنه امتحان صعب وضريبة باهضة...
فإما أن يفتخر المناضل بصلابته وبشجاعته كإحدى لوحات الصمود والقوة، وإما أن يحتقر نفسه كأقبح صور الانهزام والضعف...
لأنه شتان ما بين استهلاك الشعارات الضخمة والتغني بين الجدران وأمام الميكروفونات ب: "نغنيو في التعذيب ونصمدو، نتحاكم بالزور وما نركعو"...، وبين تجسيد هذه الملحمة الأخيرة على خشبة مسرح نظام فاشي وأمام جمهور الخفافيش المتعطش للذبح والتنكيل...
دام الصمت القاتل كمحك أول حوالي نصف الساعة، وعادت الحركة والضجيج والرعب والقسوة، إنها صورة جماعة كوبوي تتلذذ في احتجاز أحد الهنود الحمر...
تحركت السيارة واستؤنفت رحلة السرعة والمنعرجات والصمت ...
الصورة الأولى:
توجد في الصورة على اليمين الفقيدة أم المعتقل السياسي السابق ضمن المجموعة عبد اللطيف العطروز والى جانبها أب الرفيق العطروز.. وأغتنم المناسبة لأتقدم بتعازي الحارة الى كافة أفراد عائلة الفقيدة (توفيت مؤخرا في صمت) وإلى كافة الرفاق في مجموعة مراكش. كما توجد في الصورة أيضا أم حسن أحراث على اليمين بجلباب أحمر وبجانبها الفقيدة أم الشهيد مصطفى بلهواري. وقرب الأب العطروز صورة الفقيدة أم الرفيق خالد نارداح وبعض أفراد العائلات ومناضلين ومناضلات..



شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق