من بين ما لم يعطه اليسار المغربي (اليسار الحقيقي) ما يلزم من أهمية، عدم
كشف حقيقة العديد من القضايا والملفات. فكلما غابت الحقيقة، كلما ساد الغموض واختلطت
الأوراق لدى الرأي العام. والمستفيد دائما هو النظام وعموم
أعداء قضية الشعب
المغربي. ولا يخفى أن هناك جهات متعددة، منظمة وممولة، يتحدد دورها بدقة في طمس
الحقيقة ونشر الأضاليل والأساطير الزائفة (حتى في صفوف المناضلين). علما أن الوقوف
على واقع الأشياء سيفضح لا محالة العديد من الأسماء/"الأبطال والرموز"
التي تجول وتصول الآن في الساحة السياسية والنقابية والحقوقية والثقافية
والإعلامية والجمعوية بشكل عام.. وقد يقلب المشهد السريالي الحالي رأسا على عقب..
إن اليسار المغربي (اليسار الحقيقي) مدعو، وأكثر من أي وقت مضى، للاشتغال
على العناوين التاريخية البارزة في مسيرة شعبنا، بما يفضح جرائم التعتيم والتغليط
الممنهجين وتزوير التاريخ وقتل الحقيقة. وقد تكون البداية القوية مع كشف مؤامرة
"إيكس ليبان" وفضح الأخطبوط المتورط في براثنها. وتعد هذه المهمة من بين
المهام الأخرى الجوهرية المطروحة على عاتقنا جميعا كيساريين حقيقيين..
مناسبة هذه المقدمة (المختصرة) هي مقال لأحمد بنجلون الكاتب العام السابق
لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، نشر مؤخرا حول بعض الأساطير المفبركة لشخص عبد
الرحمان اليوسفي. وفيما يلي نص المقال:
تاريخ ودحض الأساطير
تملك الأسطورة سطوة هائلة للتداول والشيوع، وعندما يتم تناقلها بين الناس،
تتحول؛ وبالقوة إلى حقيقة تاريخية راسخة في الأذهان .. ومن بين تلك الأساطير التي
راجت طويلا في وسائل الإعلام أسطورة الحكم بالإعدام على عبد الرحمان اليوسفي.فقد
أفردت إحدى الأسبوعيات الفرنكفونية في ركنها “التاريخ” ملفا خاصا حول المحاكمات السياسية في
عهد الحسن الثاني؛ وبما أنني لست فقط قارئا شغوفا ونهما للتاريخ وإنما شاهدا بل فاعلا
في بعض هذه المحاكمات السياسية “سنوات الرصاص”، طالعت هذا الملف من أوله إلى آخره، وأنا
أمني النفس أن أكتشف فيه بعض الوقائع التاريخية الجديدة علي، أو تلك التي غابت عني
من قبل..
لكن ما شد انتباهي أكثر وبشكل خاص هو المقال الذي يدور حول ” مؤامرة يوليوز 1963 “، بحكم أنني معني بشكل شخصي بهذه المحاكمة
الماراطونية التي امتدت جلساتها من 25 نونبر 1963 إلى 13 مارس 1964، الجلسات التي
كنت أحضرها من وقت إلى آخر حين كان البوليس يأذن لي بذلك، وذلك لرؤية أخا شقيقا
يحمل اسم عمر بنجلون، كان ضمن المتهمين الرئيسيين..وقد تم الحكم عليه بعقوبة
الإعدام مع اثنين آخرين من المعتقلين، وهما الراحلين محمد الفقيه البصري ومومن
الديوري، بالإضافة إلى ثمانية آخرين، حوكموا غيابيا، بينهم المهدي بن بركة، اختطف
في باريس 29 أكتوبر 1965، والمقاوم والمناضل الثائر أحمد أكوليز الملقب بشيخ
العرب، استشهد في 7 غشت 1964 في مواجهة مسلحة مع قوات الأمن بحي سيدي عثمان بالدار
البيضاء، والمقاوم الكبير محمد أجار المعروف باسم سعيد بونعيلات تم إيقافه يوم 29
يناير 1970 بمدريد صحبة كاتب هذه السطور، وسيقوم نظام فرانكو يوم 15 فبراير من نفس
السنة بتسليمهما معا وهما مقيدا اليدين والرجلين إلى أجهزة أوفقير الدموية،
وتقديمهما في إطار ما يسمى محاكمة مراكش الكبرى سنة 1971 التي نطقت بعقوبة الإعدام
في حق أسعيد بونعيلات، سيصدر بعد سنة العفو عنه وإطلاق سراحه، والحكم بعشر سنوات
سجنا في حق أحمد بنجلون الملقب بعبد المومن.
“ضغط دولي…"
فيما يتعلق بمقال حول محاكمة”مؤامرة يوليوز 1963، أورد كاتبه ما يلي:“.. تحت ضغط دولي، تم إطلاق سراح مناضلي
الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، باستثناء ثلاثين مناضلا، وعلى الأخص إحدى عشر
قياديا؛ ضمنهم الذين صدر في حقهم الحكم بالإعدام في مارس 1964(اليوسفي، الديوري
والفقيه البصري) ..
”إن الكاتب الذي من المفروض أن يكون
ملما بالوقائع التاريخية الواردة على الأقل في مقاله وصدقيتها، حوَّل أسطورة
مفبركة متداعية إلى حقيقة تاريخية، وذلك بعد أن وضع اسم عبد الرحمان اليوسفي خلسة
على رأس المعتقلين المحكومين بالإعدام الذين وردت أسماؤهم بين قوسين، وفي الوقت
ذاته، نصب مومن الديوري المناضل الشاب آنذاك، قياديا في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية
وبوأه في نفس مكانة محمد الفقيه البصري وعبد الرحمان اليوسفي… في الحقيقة ليس هناك ” مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية
الذين تم إطلاق سراحهم تحت ضغط دولي باستثناء إحدى عشر قياديا …” .. مجرد مغالطة لا أساس لها من الصحة،
لأن الواقع هو أن كل الموقوفين في “مؤامرة يوليوز 1963″ ، وهم بالمناسبة، كلهم أعضاء في الاتحاد
الوطني للقوات الشعبية سيطلق سراحهم يوم 14 أبريل 1965، في أعقاب انتفاضة 23 مارس بالدار
البيضاء، بعفو ملكي بمناسبة عيد الأضحى، عفو سبقه تنفيذ حكما بالإعدام في حق 14 معتقلين
في محاكمة أخرى، نفذ يوم 28 مارس 1965، أي بعد الانتفاضة بخمسة أيام، وهذا ما جعل يومية
لوموند في محاولة لها في توصيف ازدواجية النظام تعنون إحدى افتتاحيتها : ” بلبلة أم فقدان الأعصاب” ، بل هي سياسة العصا والجزرة التي يتقنها
جيدا نظام الحسن الثاني.
إهانــة الذاكــرة
لكن التزوير يصل بشاعته في هذه الواقعة ، عندما يقوم كاتب المقال بدون
استحياء بوضع اسم عبد الرحمان اليوسفي على رأس المعتقلين الثلاثة المحكومين
بالإعدام؛ بدل ومكان اسم عمر بنجلون، متجاهلا ومستخفا بالمشاعر الرهيبة التي عاشها
وعاشتها عائلته وهو في حي الإعدام، طيلة الفترة الممتدة من ليلة النطق بالحكم 13 مارس
1964 إلى 20 غشت 1964، وهو تاريخ الاحتفال بذكرى “ثورة الملك والشعب” حيث خفَّف عفو أصدره الحسن الثاني حكم
الإعدام للمحكومين الثلاثة إلى حكم المؤبد.. أما بالنسبة لي كمناضل وأخ أصغر لعمر بنجلون
(ففي كل يوم جمعة من شهر غشت من سنة 1964 عندما كنا أنا وأخي الراحل المناضل عباس
بنجلون نقوم بالزيارة إلى السجن المركزي بالقنيطرة نضع أيادينا على قلوبنا خوفا من
سماع تنفيذ الإعدام) أحسست بأن ذاكرتي تم تبخيسها وتحقيرها ، أما كقارئ عادي
للأسبوعية فقد تلقيت سبة مهينة لذكائي.. وأنا أرى في هذا المقال الذي يدعي التأريخ
اسم زعيم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بدون منازع، يختفي بحركة مراوغة بئيسة في
محاكمة “مؤامرة 16 يوليوز” حيث تلقى عبد الرحمان اليوسفي حكم سنتين سجنا مع وقف التنفيذ لا أقل ولا أكثر،
بعد قضائه 8 أشهر تنقصها 3 أيام من الاعتقال، ولتأكد من ذلك، يكفي الاطلاع على عدد
قديم من مجلة ل”رابطة القضاة” ورد فيه الحكم، وهذا العدد أحتفظ به، في مكتبي بحرص شديد ، وقد عرضته على الصحافي
والباحث المتخصص في السياسة الخارجية خاصة شمال إفريقيا، وإفريقيا السوداء، والشرق
الأوسط، Mireille Duteil عندما جاء إلى المغرب مبعوثا من طرف أسبوعية
” Le Point “، مباشرة بعد تنصيب عبد الرحمان
اليوسفي وزيرا أول سنة 1998 من أجل كتابة “بورتريه” لهذا الأخير ، معتقدا بيقين على ما يبدو
بأن رئيس حكومة التناوب المقبلة قد صدر فيه حكما بالإعدام في محاكمة “مؤامرة 16 يوليوز 1963″، لإعطاء مزيدا من القيمة والاعتبار
لمبادرة الحسن الثاني..
أسطورة ملفقة
إن أسطورة الحكم بالإعدام على عبد الرحمان اليوسفي، في الواقع، تم تلفيقها
في هذه الفترة، تحديدا للتوظيف السياسي، ومنذ تلك اللحظة وهي لم تكف عن الانتشار
والتوسع، حتى أن النائبة البرلمانية عن حزب “الأصالة والمعاصرة” خديجة الرويسي وظفتها في الدفاع عن قضية
إلغاء عقوبة الإعدام، وهي تطرح هذا التساؤل المأساوي المثير للشفقة:” ماذا لو أن حكم الإعدام نفذ في عبد الرحمان
اليوسفي، هل كنا سنصل إلى هذه الفترة التي نعيشها الآن، وقد أخذته “يومية الاتحاد الاشتراكي” ووضعته على صدرها بالبنط العريض في
ملفها الأسبوعي ليوم 4 يناير 2014؛ ومن جانبها بثت القناة الوطنية 2M يوم 2 مارس 2014 على الساعة 10 ليلا بمناسبة
ميلادها 25، برنامجا يدور حول الإصلاح والانفتاح في عهد محمد السادس، وعند الحديث
عن هيئة الإنصاف والمصالحة، ردد معد البرنامج وبشكل قاطع أسطورة الحكم على عبد
الرحمان اليوسفي بالإعدام غيابيا، بدون أن يحدد عن أية محاكمة يتعلق الأمر.. هكذا
ساهمت وسائل الإعلام سواء المغربية أو الأجنبية في ترديد وتغذية هذه الأسطورة
لعقود من الزمان، سواء بغرض توظيفها لأغراض سياسية وحزبية، أو مجرد جهل بسيط
للوقائع التاريخية .
تواريخ وحقائق
حتى لو لم يكن المرء مؤرخا، فاستنادا إلى عدة شهود ومصادر موثوق بها تتقاطع
يمكن أن نؤكد الوقائع التالية: في نهاية 1959، تم إيقاف عبد الرحمان اليوسفي رفقة
الفقيه البصري ومقاومين آخرين، بتهمة المؤامرة على حياة ولي العهد الأمير مولاي
الحسن، والرجلين معا على التوالي، رئيس التحرير ومدير النشر ليومية الاتحاد الوطني
للقوات الشعبية “التحرير”، وقد تم إطلاق سراحهما بعد أن أمضيا شهرين من الاعتقال، بتدخل من العالم الكبير
شيخ الإسلام محمد بالعربي العلوي لدى المغفور له الملك محمد الخامس الذي قدم
استقالته كوزير للتاج، إذن، ليس هناك محاكمة، أو حكما بالإعدام سنة 1960.أما
الاعتقال الثاني والأخير لليوسفي، قد حصل أثناء حملات الاعتقال ل 16 يوليوز 1963،
والذي انتهى كما رأينا، بسنتين سجنا مع وقف التنفيذ، ولتيقن من ذلك يكفي الاطلاع على
أرشيف المحكمة الإقليمية، أو على الكتاب القيم :”الحسن الثاني، ديغول، بن بركة: ما أعرفه
عنهم” (منشورات كارتالا)، لموريس بيتان محامي عائلة بن بركة، وعضو هيئة الدفاع في
محاكمة “مؤامرة 16 يوليوز 1963 ” حيث يمكن لنا أن نقرأ (ص181 – ص187):” عكس ملتمس المدعي العام الذي طالب
بإدانة عبد الرحمان اليوسفي أربع سنوات سجنا، لم يحكم إلا بسنتين سجنا مع وقف
التنفيذ..” وهذا ما أكدته جريدة “الاتحاد الاشتراكي” مؤخرا في عددها 29-30 مارس 2014.
لكن أسطورة الحكم بالإعدام في حق عبد الرحمان اليوسفي طفت على السطح مرة
أخرى تحت قلم أحد الكتبة المبتدئين، الذي طلع علينا بمقال مغرق في الاستطراد لإحدى
اليوميات الصادرة باللغة العربية عدد 15 – 16 فبراير 2014، عن “محاكمة مراكش 1971″ أورد فيه بأن هناك 11 محكوما بالإعدام،
ضمنهم عبد الرحمان اليوسفي، في حين أن النطق بالأحكام في محاكمة مراكش الكبرى هو
ما يلي: المحكومون بالإعدام هم سعيد بونعيلات، (تم اعتقاله)، غيابيا، الفقيه البصري،
عبد الفتاح سباطة، بوراس الفكيكي والحسين المانوزي، وهم في المجموع خمسة؛ أما 11 محكوما
بالإعدام في محاكمة ” 16 يوليوز 1963″، وليس محاكمة مراكش، فيما يتعلق بعبد الرحمان اليوسفي، ليس فقط أنه لم تتم
إدانته بعقوبة الإعدام، بل قررت المحكمة فصل قضيته وتأخيرها لزيادة البحث فيها مع
ست حالات أخرى لإدراجها في جلسة جنائية.. التي لم تعقد أبدا.
حالة فقدان الذاكرة “واستعمالاتها المتعددة”
هكذا إذن ، لم تتم إدانة عبد الرحمان اليوسفي في محاكمة مراكش؛ على الرغم
من أن المدعي العام قد طالب بعقوبة الإعدام في حقه، مع 47 متهمين آخرين، ضمنهم كاتب
هذه السطور (راجع الدراسة السياسية والقانونية الشاملة حول محاكمة مراكش الكبرى في
كتاب محمد لوما ” ثورة شعبية أم مناورة للتحريك” خاصة الصفحات من 258 إلى 262 والتي
ورد فيها النطق بالأحكام. ليس من الضروري أن أأكد من أجل التاريخ، أنه بعد أربعين سنة
من هذه الأحداث، رغم ما قاسيته من تعذيب وحشي بدار المقري، استطعت بنجاح أن “استعمل” حالة فقدان الذاكرة من أجل حماية عبد
الرحمان اليوسفي وتجنيبه الأذى وأن لا أكون سببا في إدانته، والتي لن تكون، على
أي، إلا تهمة “جريمة عدم التبليغ عن عصابة إجرامية” وعقوبتها بأي حال من الأحوال ليست هي
الحكم بالإعدام، والسيد اليوسفي يمكن أن يشهد بذلك.
وفي النهاية، لو تجشم هؤلاء الصحافيين عناء إلقاء نظرة خاطفة إلى السيرة
الذاتية (C.V) لعبد الرحمان اليوسفي في الموسوعة الحرة (ويكيبيديا)– ونحن نعيش في عصر الانترنيت – سيلاحظون بكل سهولة أن الأمر توقف عند
حدود اتهام المدعي العام بمحكمة مراكش والذي التمس عقوبة الإعدام في حق عبد الرحمان
اليوسفي دون أن تتم إدانته بها مطلقا. أما بالنسبة لعمر بنجلون، المناضل الفذ، وقائد
اليسار الحقيقي، الصلب والممانع، الذي رفض كل أشكال التسوية والمصالحة مع نظام
الحسن الثاني؛ والذي كان يعلم بأنه محكوم عليه بالموت على الدوام، خاصة منذ محاولة
اغتياله بالطرد الملغوم، التي نجا منها يوم 13 يناير 1973 بفضل نباهته ويقظته،
يقظة المناضل الملاحق، الذي تنصب في طريقه دوما الكمائن، لكن بعض صغار البلطجية من
“الشبيبة الإسلامية” استطاعوا تنفيذ الحكم يوم 18 دجنبر 1975، تطبيقا لمقولة نيكولا ميكيافيلي الشهيرة
” لا تقتل يا أيها الأمير إذا وجدت يدا أخرى لتضرب مكانك”.
عمر بنجلون، زعيم للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بدون منازع وهو في أوج
قوته، تم اغتياله وعمره لم يبلغ 39 سنة؛ والمهدي بن بركة، ليس فقط زعيما للاتحاد
الوطني للقوات الشعبية، وإنما أيضا لمؤتمر القارات الثلاث الذي كان سيرأسه بهافانا
بعد شهرين من اختطافه واغتياله ، وعمره بالكاد 45 سنة، بينما رئيس أكبر أكذوبة
للنظام، التي اسمها “حكومة التناوب”، احتفل يوم 8 مارس الماضي، ليس فقط باليوم العالمي للمرأة، وإنما أيضا ب
94 سنة على ميلاده بحضور الأصدقاء والمناضلين كما أخبرتنا بذلك جريدة الاتحاد الاشتراكي
ليوم 8 مارس 2014؛ لأنه – أطال الله في عمره – لم ينفذ في حقه حكم الإعدام، لأنه لم يوجد أساسا.
وكما قال الشاعر العالمي رينيه ماريا ريلكه: وما الأمجاد إلا مجموعة من
أساطير ؟؟
شارك هذا الموضوع على: ↓