حظيت المناطق الصناعية "الحرة" للصناعة والتصدير في المغرب بهالة إعلامية ضخمة، سواء من طرف وسائل الإعلام المحلية، أبواق النظام الرجعي القائم
بالمغرب، أو حتى عبر وسائل الإعلام الأجنبية، أبواق الامبريالية لتكريس السيطرة على ثروات بلادنا، بما فيها السيطرة المطلقة على الثروات الطبيعية وكذلك الاستفادة من اليد العاملة الرخيصة. وقد اختارت "الفايننشال تايمز" المنطقة "الحرة" لطنجة من بين ست (6) أحسن مناطق "حرة" في العالم سنة 2012/2013، نظرا لما تدره هذه المنطقة من أرباح خيالية على أصحاب رؤوس الأموال العالمية. فكل مجهودات النظام القائم تقوم على تسويق أكاذيب مفادها أن هاته المناطق "الحرة" أقطاب متميزة وركائز أساسية لخلق التنمية وفرص الشغل بالمغرب، لدرجة أنها أصبحت تقدم من طرف البعض على أنها تشكل نموذجا تنمويا ناجحا، وهي دليل على نجاح النظام في جلب الاستثمارات الأجنبية. ولتقريب الصورة أكثر وفضح هذه الأكاذيب/الجرائم، نطرح التساؤل التالي: من المستفيد الحقيقي من خلق المناطق "الحرة"؟ ومن المستفيد أيضا من الثروات الهائلة التي تخلقها الطبقة العاملة بهذه المناطق؟..
منذ العصور القديمة حظيت مدن عديدة خاصة في حوض البحر الأبيض المتوسط بامتيازات تسهل التبادلات التجارية لخدمة كبار التجار كجزيرة "ديلوس" اليونانية في الحقبة الإيغريقو-رومانية ومدينة البندقية ومارسيليا وجنوة في العصور الوسطى. ولم تظهر المناطق المسماة "حرة" إلا بعد منتصف القرن العشرين (20). وكانت أشهرها منطقة " شانزهان" الصينية سنة 1979( 3 سنوات بعد وفاة ماوتسي تونغ). وقد تم خلق أول "منطقة حرة" في المغرب سنة 1999، وهي "المنطقة الحرة لطنجة" "Tanger Free Zone". ويقدر العدد الإجمالي للعمال بهذه المنطقة حاليا ب 45000 عاملة وعامل، يشتغلون في ظروف جد قاسية.
وعلى عكس ما يروج له، فواقع الحال يؤكد عمالة وتبعية النظام القائم للإمبريالية، وحرصه الدائم على تنفيذ مقتضيات التقسيم الدولي للعمل، في إطار خدمة الرأسمال العالمي وتوفير كل الشروط الضرورية لاستمراره وانتعاشه، ولو على حساب تدمير الأرض ومن عليها، الوطن والشعب.. فالسواد الأعظم من الشركات العالمية احتفظت بالتكنولوجيا العالية والصناعات المتطورة في بلدانها الأم، واقتصرت على تحويل الصناعات الاستهلاكية والتركيبية والتي تتطلب عملا يدويا رتيبا ومضنيا، مثل قطاع "الكابلاج" أو خياطة كراسي السيارات و"الأيرونوتيك"..
لقد أنتج الــ45000 عاملة وعامل المذكورون ما يفوق 13 مليار درهم خلال السنة المنصرمة (2014) بالمنطقة "الحرة" (بطنجة) لوحدها. وبالمقابل تحصل الأغلبية الساحقة منهم على فتات الفتات، أي "الراتب" المسمى الحد الأدنى للأجور"SMIG"، والذي يصل في أحسن الأحوال إلى 2294 درهم في الشهر مقابل 191 ساعة من العمل الشاق والمضني. وعلى سبيل المقارنة فــ"SMIG" في فرنسا يبلغ 1458 اورو (16000 درهم)، و 1379 اورو ببريطانيا (14000 درهم)، و 757 اورو في اسبانيا (8500 درهم). طبعا، الفارق في الحد الأدنى للأجر الذي يصل إلى 8 أضعاف يؤدى من ثروات وخيرات الشعوب وعرق جبين الطبقة العاملة على الخصوص بالبلدان الرازحة تحت نير التبعية ومنها الطبقة العاملة المغربية، بحيث يتم تحويل فائض القيمة مباشرة إلى البلدان الأصلية للشركات العاملة بالمناطق المسماة "حرة"، إذ تسيطر أوروبا على حوالي 60 بالمئة من رؤوس أموال هذه المناطق الصناعية بالمغرب. وتأتي فرنسا في المرتبة الأولي تليها اسبانيا، وبعدهما اليابان وأمريكا...
إن الأجور الزهيدة التي يحصل عليها العمال لا تكفي حتى لتغطية مصاريف السكن، فبالأحرى تكاليف العيش المرتفعة جدا، فالأسعار بمدينة طنجة توازي تقريبا الأسعار المعمول بها في أكبر المدن الأوروبية، وبالتالي فمقابل الثروة الهائلة التي تنتج من عرق الكادحين تذهب إلى جيوب الرأسماليين، ولا يبقى للعمال، وخاصة العاملات، وأبناء الشعب غير البؤس والشقاء، ووضعية العبيد.
فجزء مهم من الثروة المنهوبة، والتي تسمى في أدبيات النفاق الاقتصادي بالمداخيل من أجل إعطاء صفة الشرعية والمشروعية لنظام الاستغلال والاضطهاد الطبقيين، تخصص لجلب المواد الأولية والمواد نصف المصنعة المستوردة من الخارج، حيث تصل نسبتها من حجم الثروة المنهوبة (المداخيل) ما بين 40 الى 65 في المئة من رقم المعاملات، يتم تحويله بشكل مباشر إلى شركات أجنبية يكون هامش الربح فيها مهما. وفي أغلب الأحيان، فالشركات المصدرة للمواد الأولية والمواد نصف المصنعة هي فرع من فروع نفس الشركة الأم، أي شركة تابعة لنفس المجموعة (المجموعات الاقتصادية الأخطبوطية الاحتكارية). مما يعني أن جزء مهما من هامش النهب المسمى أرباحا، يحول إلى الخارج تحت ذريعة شراء المواد الأولية اللازمة للتصنيع، نظرا للأسعار المرتفعة المطبقة غالبا مقارنة مع تكلفة الإنتاج الحقيقية.
أما تكاليف النقل واللوجستيك، فهي تمنح لشركات جلها أجنبية، ونفس الأمر بالنسبة لمصاريف التأمين، حيث تمنح أيضا للرأسمال الأجنبي. أما تكاليف التسيير Management، فتشكل رقما لا بأس به من رقم المعاملات (5 بالمئة في أدنى الحالات)، بيمنا فوائد الحساب الجاري للاشتراك فهي تفوق حتى معدلات الفائدة للبنوك... الخ.
هذا جزء من عمليات وطرق الاحتيال لنهب ثروات البلاد وترحيلها إلى أرصدة الشركات الرأسمالية، وقد أصبح الكل على اطلاع بحقيقة هاته العمليات، لكن بدون الحق في إثارة النقاش أو إجراء افتحاص للتسيير المالي والمحاسباتي. فالشركات الرأسمالية مقدسة؛ ولتعميق الاستغلال أكثر، تستفيد هذه الشركات من عدة امتيازات أخرى خصصها لها النظام القائم وأبرزها:
- الاستفادة من بنود مدونة الشغل الطبقية فيما يخص عقود العمل تحت يافطة "المرونة في التشغيل" التي تعطي لرب المعمل كالحق في إبرام العقود المحدودة الآجال في مدة سنتين، وبعدها يمكنه فصل العمال دون أي تعويض. والأكثر من ذلك، فإبرام عقدة "انابيك" (ANAPEC) تعفي الشركة بشكل مطلق من أداء الضرائب على الأجور أو أية تكاليف أخرى.
فالمناطق "الحرة" هي جنات ضريبية بامتياز، حيث تعفى كل الشركات داخل هذه المنطقة؛
- الإعفاء بنسبة 100 في الـ100 من الرسوم الجمركية؛
- الإعفاء مدى الحياة من الضريبة على القيمة المضافة TVA؛
- الإعفاء لمدة 5 سنوات من الضريبة على الشركات ( L'IS)، وتحديدها في نسبة 8,75 بالمئة لمدة 20 سنة؛
- الإعفاء لمدة 15 سنة من الضريبة المهنية (la taxe professionnelle)؛
- الحصول على 15 بالمئة من حجم الرأسمال المستثمر كإعانات يقدمها النظام لهذه الشركات من أموال الشعب المغربي، وتقدم من طرف "صندوق الحسن الثاني"؛
- الماء والكهرباء (امانديس، ريضال) يقدم بالمجان..
فالرأسمالية إذن تستثمر في البلدان التبعية وفي المناطق التي تسمى "حرة" على وجه الخصوص لامتصاص دماء الطبقة العاملة، وتحصل من النظام على امتيازات خيالية. أما دور البرجوازية المحلية المرتبطة بالرأسمال العالمي فتحصل على نصيبها عن طريق بيع قطع الغيار، شركات الوساطة، البنوك المحلية (بنك بن جلون، البنك الشعبي...). وبالتالي فالتنمية التي يتحدث عنها النظام الرجعي وكل أبواقه ما هي إلا خدمة لمصالح الرأسمالية العالمية ومصالح البرجوازية المحلية. أما بالنسبة للشعب المغربي عامة والطبقة العاملة على الخصوص، فهي سياسة التفقير المطلق وإعادة إنتاج وتأبيد التخلف الاقتصادي والاجتماعي.
وللتأكد أكثر من حقيقة هذا النهب والإجرام الامبريالي الرجعي في حق الشعب المغربي ومقدراته الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، نلقي نظرة سريعة حول الميزانية، حيث نجد أن مساهمة ما يسمى المناطق "الحرة" فيها منعدمة:
تقدر ميزانية 2015 "المداخيل" بـ 262٫33 مليار درهم، تشكل منها الضرائب المباشرة وغير المباشرة 60 بالمئة ( 158 مليار درهم) ، على أن الضريبة على الدخل التي تقتطع من أجور العمال بشكل مباشر تصل إلى 36٫54 مليار درهم ( أي 14 في المئة من ميزانية المداخيل سنة 2015)، وهو ما يعتبر امتصاصا لدماء الطبقة العاملة بالإضافة إلى الاستغلال المباشر الذي تخضع له في المعامل. أما الضريبة على القيمة المضافة (TVA) التي تقدر نسبتها في الغالب بـ20 بالمئة إضافية على السعر المحدد، فقد بلغت ما يقدر بــ22 مليار درهم (أكثر من 8 بالمئة من مداخيل الميزانية).
إن المساهمة المباشرة للجماهير الشعبية في الميزانية تفوق بكثير الضريبة على الشركات سواء داخل المناطق "الحرة" أو خارجها، مع العلم بأن الميزانية في معظمها تعود للبرجوازية المحلية والرأسمال الأجنبي، سواء عبر عائدات السلع والخدمات والتي تقدم بأثمان باهضة أو عبر الاستفادة من مداخيل الاستثمار، والذي بلغ حجمه في تقديرات ميزانية 2015 حوالي 54 مليار درهم، يؤديها الشعب المغربي، من كدحه وفقره، ويستثمرها النظام لخدمة البنية التحتية خدمة لمصالح الشركات البرجوازية والرأسمال العالمي، هذا الأخير يجني أرباحا خيالية، وتحصل البرجوازية المحلية على نصيبها منها، بينما المحرك الرئيسي لهذه العملية، أي الطبقة العاملة، فنصيبها هو الاستغلال والاضطهاد ومكابدة الويلات من خلال دوامة أبدية في عجلة الإنتاج. فهي محكوم عليها بالمؤبد مع الأشغال الشاقة داخل معسكرات الاعتقال وشفط الدماء المسماة منطقة "حرة" في ظروف عمل تنعدم فيها أبسط شروط السلامة والصحة (مما يؤدي إلى تعرض العديد من العمال إلى حوادث شغل تصل نسبة منها إلى الإصابة بعاهات مستديمة مع تملص الباطرونا من مسؤوليتها في ذلك، كما أن معظم الشركات لا تتواجد فيها مراكز صحية لتقديم الإسعافات الأولية للعمال المصابين والمرضى من جراء ظروف العمل غير السليمة بسبب استعمال مواد كيميائية سامة دون وجود وسائل الوقاية من استنشاقها).
إن نظام العمل القائم على تقسيم العمال إلى مجموعات وفي الغالب يتم وفق ما يسمي (3chift) حيث يتم توزيع العمال على ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تعمل من السادسة صباحا إلى الثانية بعد الزوال، المجموعة الثانية تبدأ العمل من الساعة الثانية بعد الزوال إلى الساعة العاشرة ليلا، والمجموعة الثالثة من الساعة العاشرة ليلا إلى السادسة صباحا. هذا التقسيم والتوزيع، وهذه المدة من العمل تتم خلال الأيام الاعتيادية. أما مع الساعات الإضافية المفروضة، فتتمدد ساعات العمل ومعها أيضا يتم تغيير التقسيم والتوزيع. ولا تقف الأمور عند هذا المستوى في تشتيت العمال من داخل الوحدة الإنتاجية، بل كل مجموعة يتم إعادة تقسيمها إلى مجموعات صغيرة وعلى رأس كل مجموعة مسؤول (chef) معين من طرف الإدارة، إضافة إلى نمط العمل وفق نظام السلسلة الذي لا يترك للعمال أية فرصة للتواصل فيما بينهم. أما نظام الأجور (الحد الأدنى للأجور) فهو هزيل، وكذلك حجم المكافآت (les primes)، فرغم قلتها وضعفها، فهي في الغالب تسلب من العمال لأتفه الأسباب، كأن يتأخر العامل-ة عن العمل لبضع دقائق أو غاب عنه اضطراريا أو رفضه تنفيذ أمر معين أو لمجرد غضب المسؤول المباشر على أحد العمال.. فإن ذلك يعتبر سببا كافيا لحرمانه من"المكافأة"، كما أن هناك بعض المعامل تحتسب الأجر زائد المكافأة بمثابة الحد الأدنى للأجور، وهو ما يعني أن العمال يشتغلون داخل هذه المعامل أقل بكثير من الحد الأدنى للأجور.
إن نظام العمل الحديدي المفروض من طرف إدارات الشركات وأعوانها، وكذلك الأجر الهزيل جدا، إضافة إلى ذلك، وهذا هو الأخطر، اشتداد محاربة العمل النقابي الجاد والمسؤول، بحيث أن الإدارات تقوم بطرد، وفي أفضل الأحوال إيقاف، كل عامل تم ضبطه يهمس لرفاقه بخصوص العمل النقابي والنقابة. فالإدارة تطالب العمال بالكدح والعمل وفق نظامها الحديدي وبأجر زهيد مع التزام الصمت المطلق والقبول بالاستغلال البشع واللاإنساني وطاعة التعليمات والأوامر. فمحاربة العمل النقابي هي شريعة وقانون بالنسبة للإدارة والباطرونا، وكل من يدور في فلكهما. وأغلب المكاتب النقابية الموجودة لا تخرج عن أن تكون شريكة للإدارة في تنفيذ مسلسل القهر والاستغلال في حق العمال. ورغم كل هذا الواقع المر والصعوبات الكثيرة والمعقدة، فإن هناك بارقة أمل في المعارك النضالية للعمال والعاملات، سواء كانت منظمة أو غير منظمة، سواء بوجود إطار نقابي أو في غيابه، خاصة أن نسبة مهمة من الطبقة العاملة تتكون من شباب أغلبهم من خريجي معاهد التكوين والجامعات والمدارس وتعليمهم متقدم نسبيا (*)، مما يجعل مهمة التواصل معهم وتأطيرهم سهلة وسلسة. لكن الصعوبة تكمن في كيفية تنظيمهم وتأطيرهم في خضم المعارك والأشكال النضالية. كما أن الصعوبة تكمن في إيجاد وسائل التواصل فيما بينهم والتي تخول لهم بناء قوتهم في سبيل مواجهة الباطرونا والإدارة والمكاتب النقابية المصنوعة والمتواطئة. فالكل يعلم أن النقابات المسموح لها بالتواجد داخل المناطق الصناعية بشكل عام والمنطقة "الحرة" خصوصا هي نقابات مصنوعة لخدمة مصالح الرأسمال الأجنبي ومنخرطة بشكل مطلق في خدمة التوجه السائد والمفروض، والذي مفاده بأن التنمية وخلق فرص الشغل لا تتأتى إلا عن طريق جلب رؤوس الأموال الأجنبية تحت ذريعة جلب الاستثمارات وإعطائها امتيازات اقتصادية ومالية وضريبية على حساب الطبقة العاملة والشعب المغربي عموما.
فمدينة طنجة، كمثال بارز، تعيش على وقع المعارك العمالية في عدة قطاعات وفي أغلب المواقع الصناعية بالمدينة. فلا يكاد يمر يوم دون تحرك نضالي للعمال في قطاع من القطاعات بسبب استفحال الهجوم الشرس للباطرونا، بدعم من أجهزة النظام وتواطؤ البيروقراطيات النقابية على المستوى المحلي والإقليمي والوطني، على حقوق ومكتسبات الطبقة العاملة، ناهيك عن حالات الطرد التي ارتفعت بشكل كبير في الفترات الأخيرة والتي تستهدف بالأساس العمال الأكثر وعيا وتقدما في أوساط الشغيلة بسبب انخراطهم الفعال والمتنامي في العمل النقابي للدفاع عن حقوقهم ومطالبهم ومصالحهم في المصانع والمعامل والشركات. إذ بمجرد الإعلان عن تأسيس مكتب نقابي في هذه الشركة أو تلك حتى يبدأ مسلسل المضايقات والمساومات والتهديد والوعيد، وينتهي في أغلب الأحيان بطرد أعضاء المكتب مباشرة بعد تأسيس مكتب نقابي.
فأول شيء يعترض كل مطلع على أوضاع العمال بالمدينة، كما هو شأن باقي المدن العمالية بالتأكيد، هو صعوبة، وفي بعض الأحيان "استحالة" تأسيس المكاتب النقابية داخل المعامل والشركات، رغم الشروط الصعبة والقاهرة التي يعاني من جرائها العمال الويلات. فأغلب حالات الطرد الجماعية في صفوف العمال ترجع بشكل كبير إلى تأسيسهم للمكاتب النقابية للدفاع عن حقوق ومطالب العمال والعاملات. ومعظم حالات الطرد تمت مباشرة بعد الإعلان عن تأسيس المكاتب النقابية في مجموعة من الشركات بالمركبات والمناطق الصناعية الأساسية بالمدينة.
هذا الواقع الصعب والمرير الذي تتخبط فيه الطبقة العاملة، ينضاف إلى واقع أكثر مرارة على حياة العمال بطنجة، نظرا لما تتميز به هذه المدينة عن باقي المدن الصناعية، إذ من المعلوم أنها تعتبر من بين أكثر المدن غلاء في أسعار المواد الاستهلاكية وأسعار السكن حتى في أبعد الأحياء السكنية عن مركز المدينة، وهو ما يجعل حياة العمال والعاملات صعبة للغاية خصوصا إذا استحضرنا هزالة قيمة الحد الأدنى في الأجور الذي تمت الإشارة إليه في البداية (دون احتساب الساعات والأيام الإضافية مثل الآحاد وأيام العطل مع العلم أن هناك نسبة كبيرة من العمال تشتغل بأجر أقل من المذكور سلفا). ولكم أن تتخيلوا كيف يستطيع العمال العيش بأجر شهري زهيد أمام الارتفاع الصاروخي والمتزايد للأسعار (أقل ثمن لكراء شقة من غرفتين وصالة هو 1500 درهم وشقة بغرفة واحدة وصالة صغيرة جدا ب1000 درهم، أما غرفة واحدة فلا يقل أجرها عن 700 درهم في المتوسط، وهذا أقل ثمن في الأحياء القريبة من المناطق الصناعية أو من مكان مرور حافلات وسيارات نقل العمال). وإذا احتسبنا مصاريف السكن والتغذية والملبس والتطبيب والتنقل (بالإضافة إلى مصاريف أخرى لأن نسبة كبيرة من العمال لديهم أسر يعيلونها)، كل هذه المصاريف مجتمعة تفوق الأجر الشهري الزهيد بكثير، وهو ما يدفع أغلب الفئات العمالية إلى الاستدانة من البنوك قروض تختلف مدد سدادها بالتقسيط حسب نوعية القرض (بالنسبة لقروض السكن تصل المدة إلى حوالي 20 سنة في المتوسط وأقل من ذلك بالنسبة لقروض الاستهلاك، وتفوق نسبة الفائدة على القرض عشرة في المائة)، كما أن البنوك لا تمنح القروض دون وجود ضمانات مادية للمقترض، وهو ما يفرض على الأخير الالتجاء إلى الرهن للحصول على القرض، مما يجعل العمال ملزمين بتسديد أقساط القرض شهريا مخافة فقدان الملكية المرهونة، فيصبحون بين سندان الاستغلال البشع بأجور هزيلة وفي شروط إنتاج جد قاسية ومطرقة البنوك التي تشكل تهديدا للملكية المرهونة (تكون في الغالب المنزل). فالقرض بالنسبة للعامل هو مثل حبل المشنقة، والعمل هو الكرسي الذي يمنع الحبل من خنق الرقبة، وهذه هي أخطر صيغة معتمدة من طرف البرجوازية لمنع شريحة واسعة من العمال من الانخراط في نضالات الطبقة العاملة. فكما تمت الإشارة في البداية، فإن إدارات الشركات تطرد العمال المنخرطين في العمل النقابي عن طريق تأسيس مكاتب نقابية من داخل المعامل والشركات.
فقد تعرض عمال ثلاث شركات للطرد بالمنطقة "الحرة" بميناء طنجة المدينة (وللإشارة فقد تم تحويل المنطقة الصناعية بالميناء إلى مجال ترفيهي-سياحي بعدما هدم النظام المعامل والمصانع وترحيل الشركات إلى مناطق صناعية أخرى)، لمجرد تشكيلهم لمكاتب نقابية للدفاع عن حقوقهم ومطالبهم. ويتعلق الأمر بكل من شركة manifacturing (التي أغلقت أبوابها في وجه العمال وتم تفكيك المعمل وترحيله إلى منطقة أخرى دون إيجاد حل للعمال الذين بقوا مشردين) وشركة carmela وشركة alia images، التي يخوض عمالها اعتصاما مفتوحا منذ أزيد من 6 أشهر متواصلة داخل المنطقة "الحرة"-ميناء المدينة مع ما رافق ذلك من قمع وتنكيل وصل أوجه يوم 10 فبراير 2015 عندما حاصرت قوات البوليس والسيمي والمخازنية مقر الاعتصام بالمنطقة "الحرة" وأدخلت أكثر من 100 عنصر من البلطجية للهجوم على العمال والعاملات وترهيبهم لفك الاعتصام مهددة بارتكاب مجزرة في حقهم إن لم يغادروا. لكن هذه المحاولة باءت بالفشل أمام صمود العمال والعاملات باتحادهم وتعاضدهم ضد هجومات النظام والبلطجية إضافة إلى المحن التي مروا بها طيلة مدة الاعتصام، خصوصا المناخ القاسي جدا الذي تتميز به المدينة في فصل الخريف والشتاء، وهو ما أكسبهم قوة وإصرارا أكبر بكثير من جبروت وقمع النظام وزبانيته. ولحدود الآن، لازال الاعتصام ساريا بشكل منظم بينما يخوض العمال والعاملات المعتصمين وقفات ومسيرات كل يوم أحد بوسط المدينة للتعبير على إصرارهم وصمودهم ومواصلتهم النضال من أجل تحقيق مطالبهم العادلة والمشروعة رغم ضعف الدعم والمآزرة لمعركتهم النضالية على المستوى المحلي.
نفس الوضع تقريبا تعرفه المنطقة الصناعية "الحرة"- جزناية التي تعيش هي الأخرى على إيقاع معارك عمالية واعتصامات مفتوحة في مقابل الهجوم المتفاقم للباطرونا على حقوقهم ومكتسباتهم بنفس الأسلوب السالف الذكر. فقد تفاجأ عمال وعاملات شركة "ARTFASHION" بإغلاق أبواب الشركة صبيحة يوم 9 فبراير 2015 بدون سابق إنذار، وهو ما دفع العمال الذين يبلغ عددهم 250 عاملا وعاملة إلى القيام بمسيرة على الأقدام من مقر الشركة في اتجاه ولاية طنجة، حيث جسدوا وقفة احتجاجية واعتصاما مطالبين بإعادة فتح الشركة وإرجاع كل العمال للعمل. وقد تعامل النظام مع المسيرة بالتطويق القمعي والحصار طيلة مسافة الطريق فيما قدمت الجهات المعنية وعودا للعمال بحل المشكل في أقرب وقت دون أن تكون لتلك الوعود ترجمة على أرض الواقع لحدود الآن.
وإن عددا من العمال ضمنهم أعضاء المكتب النقابي بشركة "grief" وجدوا أنفسهم مطرودين مباشرة بعد إعلانهم عن تأسيس المكتب النقابي خلال شهر مارس المنصرم، وهو ما دفعهم للدخول في اعتصام مفتوح أمام مقر الشركة ضد قرار الطرد الممنهج الذي طالهم. أما إدارة الشركة فلم تقف مكتوفة الأيدي، خصوصا في ظل التعاطف العمالي الواسع مع المطرودين، بل عمدت إلى ابتداع أسلوب جديد من القمع والمنع بالاعتماد على الحرس الخاص (sécurité) لمضايقة وقمع المعتصمين الرافضين لأي حل غير إرجاعهم للعمل دون التفريط في حقهم المشروع في تأسيس المكتب النقابي. وقد تعرض المعتصمون لعدة اعتداءات لفظية وجسدية، كان أخطرها اعتداءان، الأول يوم 9 أبريل 2015 الجاري، والثاني يوم 16 من نفس الشهر على يد حراس الأمن الخاص بالعصي والسلاح الأبيض الذي خلف عدة إصابات وإغماءات في صفوف المعتصمين. ورغم تقديم العمال لعدة شكايات لدى المحكمة، إلا أن الشكاية لم تأت بنتيجة، بل العكس هو ما حصل، حيث تدخلت قوات الدرك يوم 20 أبريل 2015 في حق العمال واعتقلت عددا منهم وأطلقت سراحهم بعد الاستنطاق والترهيب لساعات داخل مخافر القمع خدمة لأجندة الباطرونا وإدارة الشركة في محاولة لفض الاعتصام الذي لازال مستمرا رغم القمع والحصار والتهديد والوعيد.
عمال شركة "رونو-renault" صنعوا الحدث بمدينة طنجة من خلال المشاركة الواسعة في مسلسل الاحتجاج خلال النصف الأول من شهر فبراير مطلع السنة الحالية. فقد اقتربت نسبة المشاركة في الإضراب الإنذاري عن العمل من 100 في 100 بعد أن ضاق العمال ذرعا من وعود إدارة الشركة ومن مسلسل التهدئة والمساومة من جهة المكتب النقابي (الاتحاد المغربي للشغل) الذي تسيطر عليه القوى الظلامية- العدل والإحسان- وأنصار القيادة البيروقراطية، وأجهضت المعركة بتواطؤ القيادة البيروقراطية في شخص الأمانة الوطنية للاتحاد المغربي للشغل مع إدارة الشركة.
ولمدة قاربت السنة، لازال عمال شركة أمانور، التابعة لمجموعة فيوليا الفرنسية، وللإشارة فـ"فيوليا" هي المالكة لشركتي "امانديس" و"ريضال" وعمال شركة "سيتلوم"، يخوضون معركة شرسة من أجل الإدماج في الشركة الأم "امانديس" وفق ما تنص عليه بنود الاتفاق الإطار (protocole d'accord) لـ 22 مايو 2002 الذي ينص على إدماج العمال -وفق الأقدمية- في الشركة الأم، كما يطالبون بالزيادة في أجورهم الهزيلة جدا بالمقارنة مع الأرباح الخيالية التي تجنيها الشركتان من عرق جبين وكدح العمال.
وقد وصل الصراع في شركة "أمانور" إلى مطالبة العمال برحيل المدير الحالي للشركة بعدما وصلت معدلات الفساد والاختلال إلى درجات قياسية. وبناء على ذلك خاض العمال، بقيادة مكتبهم النقابي، عدة خطوات نضالية وصلت إلى الإضراب عن العمل في عدة مناسبات. ولحدود اللحظة لازالت معركتهم مستمرة رغم محاولات الإدارة الالتفاف عليها. وكان تعاطي العمال مع الحفلة المشبوهة التي نظمتها الإدارة بما يناهز خمسمائة ألف درهم أكبر صفعة لإدارة الشركة التي حاولت تمييع وتبخيس كل الأشكال النضالية التي يخوضها العمال. وبعد الشكل النضالي الراقي الذي جسده العمال في مقاطعة الحفلة لجأت الإدارة الى أشكال استفزازية وانتقامية وصلت حد الحرمان من المنحة السنوية، والتنقيلات التعسفية مع التهديد بالطرد أو حتى إغلاق الشركة وإعلان الإفلاس.
عموما، معارك الطبقة العاملة بمدينة طنجة كثيرة وفي اتساع مستمر، رغم كل العراقيل والصعوبات الذاتية والموضوعية التي تقف في طريق تقدمها، خصوصا سيطرة البيروقراطية على أغلب المكاتب النقابية بالمعامل والشركات، وغياب هذه المكاتب في أغلب وحدات ومراكز الإنتاج، رغم حاجة العمال والعاملات لوجود نقابة فاعلة ومناضلة داخل أماكن الإنتاج نظرا للشروط القاهرة التي تمر منها عملية الإنتاج وبأبخس الأثمان.
(*) إن العمل داخل المصانع وغيرها لا يتطلب في الحقيقة مستوى عال من التكوين والتعليم، فالشهادات المطلوبة ضمن شروط العمل ما هي إلى ممارسة للخداع بأن العمل يتم وفق معيار الحصول على شهادة معينة. والخداع والاحتيال يمارسه النظام بشكل عام وخاصة داخل حقل التعليم تحت شعار "التعليم في خدمة سوق الشغل" و"ملاءمة التعليم مع حاجيات سوق الشغل". فالمقصود هو التخلص من حق أبناء الشعب في التعليم وذلك عبر خوصصته خضوعا لإملاءات الامبريالية عبر مؤسساتها المالية، وقد قطع النظام أشواطا كبيرة في هذا الاتجاه بالرغم من المقاومة الشرسة التي يلاقيها داخل الجامعات على الخصوص. فليس هناك أية علاقة بين العمل والشهادة المطلوبة، وما هي إلا صيغة احتيالية لخوصصة القطاع والتخلص من أفواج المعطلين الحاملين للشهادات، وهي أكبر صيغة للاحتيال يمارسها النظام عبر مقاولات للاستثمار في البطالة، أو ما يسمى مقاولات إنعاش التشغيل مثل وكالة "أنابيك ANAPEC"، فهي مجرد وساطة توفر لأصحاب الشركات والمعامل الشيء الكثير، كعقود التشغيل المرنة والإعفاءات الضريبية. وبالمقابل تستفيد وكالات الوساطة/المقاولات (وهي تشبه في ذلك إلى حد كبير مكاتب التجنيد "Bureaux de recrutement" من عائدات هامة جزء كبير منها يتم اقتطاعه من أجور وعرق جبين العمال المتعاقدين بواسطة "عقد أنابيك "contrat ANAPEC"). وبالتالي فهي مجرد مقاولات للاستثمار في البطالة التي أنتجها النظام ويعيد إنتاجها عن طريق نمط التشغيل السالف الذكر، ليدمج مباشرة في الكدح الدائم وامتصاص دماء المعطلين بشكل لا رحمة فيه. وعلى العامل أن ينسى كل ما درسه وتعلمه، ويستعد للخضوع والانصياع لكل فنون الاستغلال والاضطهاد والإذلال، عليه أن ينسى آدميته وإنسانيته كشرط ضروري للاستمرار في العمل..
شارك هذا الموضوع على: ↓
هل تبحث عن قرض حقيقية جدا؟ والخبر السار هو هنا! ! ! ونحن نقدم قروض تتراوح بين 5 $ 000.00 إلى 000 $ 30، 000.00 في 2٪ معدل الفائدة لكل سنوية. قروض لتطوير الأعمال ومعتمدة، جديرة بالثقة وموثوقة وفعالة وسريعة وديناميكية الاتصال بنا عبر البريد الإلكتروني: khalifafinancialcompanies@gmail.com
ردحذف