إن استشهاد بن بركة لدرس بليغ لمجموعة من القوى السياسية الأكثر ثرثرة في هذا الزمن الرديء حول إمكانية تقاسم السلطة مع النظام القائم بما هو نظام
تحالف طبقي مسيطر، وخصوصا خارج الحدود الموسومة ب"شاشية" و"جلباب أبيض". فبين محاولة إقناع النظام من جهة وتطويع الأخير لمجمل اللعبة السياسية المحددة سلفا من جهة أخرى، لم تتوقف في السنوات الأخيرة على الأقل المطالب الإصلاحية المتجاوزة وضروب الغمز واللمز السياسيين بالدعوة تارة إلى الانتقال من ملكية إلى ملكية أخرى، أو في صيغ قد تبدو أكثر "تجذرا" بالدعوة إلى حياد "القصر" في مجموعة من المحطات التي تتم هندستها بعناية فائقة داخل البلاط، وبين هذا وذاك، تأتي المناوشات الفارغة من أي مضمون ذي بعد تحرري في مجموعة من القضايا الإقليمية، خاصة منها –على سبيل الذكر لا الحصر- تلك المتعلقة بالصحراء الغربية.
ولعل الإطلالة السياسية الأخيرة لبعض مهندسي "العهد الجديد" في شخص اليوسفي وبعض وزراء التناوب لدليل ساطع على راهنية التعريف الصائب والسديد بقضية الشهيد بن بركة لينبري لذلك ثلة من المزايدين/ المناوشين أو المرتزقين من "رفاقه"/ أعداءه، ولتبقى ذكرى استشهاده مناسبة لتكرار لازمة "الكشف عن الحقيقة". إن الحقيقة للتاريخ، وللجماهير الكلمة الأخيرة، ستقولها لا محالة لتنكشف ملايين الخيوط التي نسجت لوحة التآمر والإجرام اللذين مورسا على أبناء شعبنا من قتل وسجن وتعذيب وإخفاء قسري حط من الكرامة البشرية، ولا تنتظر الجماهير من مثل عبد الرحمان اليوسفي وأمثاله لا التعريف بالشهيد ولا المساهمة في الكشف عن الحقيقة، فلا شيء أكثر وضوحا من الحقيقة البشعة التي تقف خلف مجالسة البصري ومصافحة الحسن الثاني وبسط اليد الطولى للنظام لخوصصة القطاعات الأساسية ورهن مجمل مقدرات الشعب المغربي. فلا تسوية مع النظام ولو بكل المسميات الرديئة...
ولمن لا يزال يطمح لاقتسام السلطة مع النظام في إطار ذات المسميات، نطرح أسئلة محددة وواضحة: ماذا سيكون مصير أموال الكومبرادور والمافيات العسكرية والمدنية والنقابية والسياسية؟ كيف يمكن فصل السلطة والسياسة عن المال في ظل بقاء أركان التحالف الطبقي المسيطر؟ ماذا عن جز الرابط البنيوي القائم بين نظام الكومبرادور كوسيط اقتصادي لرهن ثروات هذا الوطن إلى ما لا نهاية وبين الامبريالية؟ ماذا عن الطبقات والتقدم الاجتماعي؟ لقد علمنا استشهاد المهدي بن بركة أن لا مجال لأية إمكانية للتسوية مع النظام القائم إلا على جماجم أعداد كبيرة من المفقودين والمختطفين وعلى أجساد المعطوبين والمعتقلين السياسيين، وأن لا مجال خارج طرح بديل جذري سوى الارتماء بشكل أو بآخر في أحضان القائم السياسي، أما أصحابنا، فلو انخرطوا جديا في النضال على المطالب الأكثر إصلاحية لخط الشهيد فلربما يجعلون لخطوطهم السياسية معنى وانسجاما.
لنكرر إذن السؤال في الذكرى الخمسين لاختطاف الشهيد/ تعذيبه وإتلاف جثته: من هم الضالعون في هذه الجريمة السياسية البشعة؟
لقد دبرت تفاصيل هذه الخطوة الجبانة والخسيسة في سياق أممي وإقليمي ومحلي موسوم باحتداد الصراع الطبقي وتزايد مد حركات التحرر الوطني في بلدان التبعية (قد نشير في هذا الصدد إلى المقاومة الفلسطينية وتقدم القوى الثورية وحركات التحرير زيادة على ظروف التحضير لمؤتمر القارات الثلاث) ولا يمكن بالتالي استثناء وكالة الاستخبارات الأمريكية ونظيرتها الفرنسية والموساد الصهيوني من الضلوع في هذه المؤامرة الخسيسة، هذا علاوة على ثبوت عمالة النظام لها أو لإحداها تبعا لتقلبات موازين القوى داخل التحالف الطبقي المسيطر ذاته... ونظرا للخبرة السياسية الميدانية المراكمة منذ الاستقلال الشكلي والتي تقول باقتراف ذات الأطراف لأكثر الجرائم حقارة وبشاعة من أجل درء كل ما قد يهدد مصالح الرأسمال فإن الكل مدان إدانة ثابتة بما فيها "رفاق" الشهيد.
لقد تلاقت كل هذه المصالح القذرة بغية إعادة رسم مشهد سياسي أكثر استقرارا عقب انتفاضة 23 مارس 1965 المجيدة وتطويع الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. ألم يساوم الأخير على دماء الشهداء من أجل إطلاق سراح أعضاءه المعتقلين؟ لقد كان من اللازم، لكي يستكمل المشهد السياسي ترتيبه وإعداده آنذاك التخلص من الأصوات المزعجة التي لم تقتنع بالحفاظ على جوهر النظام السياسي، وكذلك باقي النزعات البلانكية المراهنة على المبادرة الفردية المسلحة بعيدا عن الجماهير المعنية.
إن التجربة التاريخية لنضالات شعبنا أثبتت وبالملموس راهنية مهام التغيير الجذري عن طريق الثورة الوطنية الديمقراطية الشعبية على درب الثورة الاشتراكية، ثورة لا يمشي فيها البديل الجذري في نفس ممشى النظام وأذنابه بمختلف تلاوينهم ومسمياتهم ويافطاتهم الإيديولوجية. وإذا كانت الأساليب الخسيسة والإجرامية زادا يوميا لمن تسبب في معاناة شعبنا، فلا القتل ولا التنكيل ولا الاختطاف ولا الإعدام بأبشع الطرق المافيوزية سيثني المناضلين عن استكمال درب الشهداء.
على أنه قد برزت للنظام فنون أخرى في تصفية المناضلين، بتجنيد أشباه المناضلين للنيل من عزيمتهم ولتعطيل مسيرتهم ولو عن طريق التشويش، وأحرى بمن يزايد/ يتاجر بالشهداء أن يتركهم وشأنهم. أما المناضلون الشرفاء القابضون على الجمر فمستعدون – في إطار الدرب الذي اختاروه سوية وبمحض إرادتهم – أن يواجهوا كلما دعت الضرورة وفي الوقت والمكان المناسبين سياط الجلادين وتهديد العملاء المرتزقة، إذ ليس للمناضلين ما يخسرونه سوى التعايش مع الوضع القائم والاستكانة له.
المجد والخلود للشهيد المهدي بن بركة
المجد والخلود لشهداء الشعب المغربي
الحرية لكافة المعتقلين السياسيين
سننتصر.
شارك هذا الموضوع على: ↓