في زمن احتدام الصراع وانفجاره، في زمن حروب الاستئصال التي يشنها الأعداء ضد الشعوب المضطهدة والمستغلة، وفي زمن لازالت فيه كفة الصراع لصالح
الأعداء، وما يزيد من رجحان كفة الأعداء هو التحاق البعض من من كانوا بالأمس القريب مدافعين عن الشعوب، ومرتبطين بقضاياها العادلة، بصفوف الأعداء، سواء بطريقة مباشرة عن طريق إعلان التوبة والالتحاق بــ"دار الغفران" أو بطريقة غير معلنة بالاستعاضة أو تغيير المهمات الضرورية الملحة بأخرى ثانوية أو مصطنعة والتسكع خلف التجارب المتراخية لتأمين السلاليم والمراتب الواقعية المهتزة والإنتهازية والحفاظ على الحياة المترهلة والتائهة، وهي صيغة لخلق الظروف الملائمة للالتحاق بصفوف الاعداء في الأمد المتوسط، لكن وفي مقابل هذا الوضع المدمر والمخرب الذي يحاول بكل الأساليب ضرب كل التضحيات التي قدمت وتشويهها لإعادة استثمارها في المستقبل بأحقر الأساليب، تظهر وتبرز التجارب النوعية في تاريخ مقاومة الشعوب بشكل عام، ومن ضمنه تاريخ الشعب المغربي وتاريخ الحركة الطلابية على وجه الخصوص.. ففي سياق يتم فيه تصعيد هجوم قوى الشر والفناء والتشجيع والتخلي عن المبادئ، تكتب الجماهير ومعها مناضليها المخلصين بالدماء تاريخ الشعوب، تاريخ التحدي والمقاومة، تاريخ التضحية والمعاناة والاستشهاد بشرف وكرامة، تاريخ الارتباط بالقضايا الكبرى المصيرية.
إن ما يميز بالفعل الأبطال عن غيرهم، ويكسبهم صفة الخلود للأبد، هي اختيارهم، في مثل هذه اللحظات، عن قناعة وإصرار، التخندق بجانب الشعوب، تأطيرها، تنظيمها، تعبير الطريق لها، وقيادتها تحت نيران الأعداء وهمجيتهم، بل والاستعداد الدائم لتقديم التضحيات في سبيل القضية.
إن القرار الذي اتخذه الرفيق الشهيد مصطفى مزياني يوم 3 يونيو 2014، يوم انطلاق الإضراب المفتوح، كأسلوب نضالي مقاوم متميز في مثل هذه المواقف الصعبة، قد شكل بالفعل بداية لرسم معالم ممارسة ثورية، منسجمة مع خيار المقاومة ومدعمة لها، بل أسلوب وإجابة عملية بعيدة عن عقم النقاشات والسجالات الكثيرة للمترددين والمنبطحين والمقامرين خلسة على دماء شرفاء شعبنا وتضحياتهم، والتي غالبا ما تكون تبريرية لترك السفينة تغرق كما خطط لها الأعداء.
لقد أعلن الرفيق بقراره أن زمن الهجومات من هذا النوع يتطلب مواقف صريحة وواضحة كالتي جسدها وظل متشبثا بها طيلة المعركة البطولية، ولم يلتفت لكل الدعوات التي كانت تحاول النيل من معركته، بل واجهها بكل عزم وزادته قوة وتشبثا بمعركته على اعتبارها معركة الجماهير والشعب المغربي من أجل التحرر من نظام القمع والاضطهاد.
لقد استوعب الشهيد أن قرار الطرد الذي اتخذه النظام في حقه هو قرار لتركيع واستئصال مناضلي النهج الديموقراطي القاعدي المخلصين وكل مناضلي الحركة الطلابية الغيورين.
3 يونيو 2014، كان الإعلان عن الموقف الثوري السديد في المرحلة الصعبة التي تمر منها الحركات المناضلة من أجل خدمة القضية والتشبث بها، من أجل خدمة الجماهير والتعبير عن طموحاتها من أجل تعبيد الطريق والقول جهرا وعمليا هذه هي الطريق وكفى من التيه أيها التائهون والصامتون خلف المصالح الحقيرة. فقوة الموقف ناتجة من السياق الذي كان موجودا، وهي مؤامرة استصال المناضلين الثوريين، مناضلي التغيير الجذري، كأسلوب للقضاء على نضالات الجماهير الشعبية في لحظة حساسة ودقيقة، وهي لحظة التخلص من كل من أعلن انتماءه لصفوف الشعب منذ انتفاضة 20 فبراير وما خلفته من فرز سياسي، وهي اللحظة التي استغلها النظام لترميم هياكله وتوسيع قاعدته عن طريق القمع والاعتقال والأساليب المخابراتية في استقطاب المرعوبين والمترددين ودوي المصالح الضيقة والأنانية والعاجزين عن فهم السياق الموجود وطرق النضال والمقاومة في معمان الصراع الطبقي الذي لا يرحم.
فإعلان الشهيد المزياني الإضراب عن الطعام هو بداية الحسم مع التردد والتيهان بعد مؤامرة 24 أبريل، هو بداية مواجهة كل نزعات التدمير التي دخلت إلى نفوس البعض، وذلك بوضع المعركة في سياقها الحقيقي وهو سياق الصراع مع النظام وكل حلفائه وأدواته، كشف الحقيقة في معمعان الصراع وليس بالبحث عنها في بعض العبارات والجمل "القانونية" المعدة لهذه الأغراض.
لم يلتفت الرفيق للعروض المشبوهة التي قدمت له من أجل فك الإضراب عن الطعام، قد أدار ظهر للجلاد وهو مصفد على السرير احتقارا له في ليلة مساومته، لم ييأس، لم يستسلم عند اعتقاله وهو مضرب عن الطعام، بل كان يواجه كل هجوم يشنه عليه النظام وحلفاؤه وأدواته بمزيد من الإصرار على مواصلة السير في خيار المقاومة والتضحية في سبيل ذلك، لم يتردد ولو للحظة واحدة على التشبث بالمواقف والمبادئ،. ومن يقرأ التاريخ الحقيقي قبل بداية الإضراب عن الطعام وبعده سيصل بكل تأكيد لهذه الحقيقة، والمتمثلة في أن معركة الإضراب المفتوح عن الطعام كانت المحطة الأبرز في تجاوز بعض المخلفات، السلبية والمدمرة أحيانا، لمؤامرة 24 أبريل 2014، ومن ضمن ذلك حالة الرعب والخوف الذين سادا بعدها، فالخوف لا يتسرب إلا إلى القلوب الضعيفة، كما اعتبر ذلك الشهيد عبد الحق شباضة، وكما سار على دربه ودرب كل شهداء الشعب المغربي الشهيد البطل مصطفى مزياني الذي لم يقبل حالة الانتظار، بل أعلن بكل جرأة دخوله في الإضراب المفتوح عن الطعام، وكان قرار بطوليا وشجاعا. فلا يمكن أن نسمح لمن ظل يتباكى ويردد بطريقة علنية أو سرية بأن استشهاد الرفيق كان خطأ في اتخاذ قرار الدخول في معركة الأمعاء الفارغة، بل الخطأ ينبغي البحث عنه في الوضعية التي يوجد عليها الجسم المقاوم، في عدم مواكبته لمتطلبات الصراع الطبقي الجاري بشكل عام، في مسؤولية التخندق في معركة الشعب المغربي بنفس القوة التي تقدم فيها التضحيات، بنفس حجم التضحيات التي يقدمها المناضلون، وليس بالتباكي أو التنصل من المسؤولية النضالية.أما الشهيد فقد ارتفع بالمناضل لمستوى المناضل المثالي الفد والشجاع.. المناضل البطل في الفعل وليس في الأقوال ماردا متحديا مؤمنا وواعيا بقضيته.. وماضيا في طريقه بإرادة منظمة مصممة.. مناضلا أحب القضية حبا ليس كمثله حب.. ومن أجل هذا الحب عجن بدمائه ملحمة الصمود وزين صنعها بروحه الطاهرة.. إنه المناضل الذي تشابك لذيه الموقف الإنساني الشريفة وقوة التحدي والإصرار على الصمود وعشق الشرف والكرامة لتصنع وتخرج ماردا واعيا يرعب الموت ويجدد ملحمة هزم الجلاد ملحمة تعلم الإنسان ألا يخاف وألا يرضخ.. وفي هذا مقتل العدو.
فالتضحيات التي يقدمها أبناء الشعب المغربي يجب ان يوازيها انخراط فعلي ومسؤول من لدن المناضلين، بل والتموقع على رأس من يقدم التضحيات، لذا فلا يكمن أن نقبل بقتل كل بذور التضحيات التي تظهر هنا وهناك، ولا يمكن ان نقبل بمن يحاول تمرير المواقف المخزية في غفلة منا وبذكاء منقطع النظير، والتي تحاول نسف كل التضحيات المقدمة ومنها استشهاد الرفيق الغالي مصطفى مزياني، وتحمل في ثناياها تبرئة للنظام من جريمة اغتيال الشهيد المزياني، فالمؤامرة والاغتيال جريمتان ثابتتان وواضحتان ولا داعي للبحث عن سبيل آخر غير طريق الشهداء.
مغرب النضال والصمود: من أجل بديل جذري
3 يونيو 2015
شارك هذا الموضوع على: ↓