للذاكرة قوة خارقة. وتعتبر بالنسبة للمناضل مصدر الصمود والمقاومة. إنها المرآة التي يظل محتكما/مشدودا اليها فيما يخص مدى وفائه وإخلاصه لتاريخه النضالي.
فكم من "مناضل" كسر مرآته/ذاكرته تنكرا للماضي وما حمل. ولا أخفي أني أحمل ذاكرتي تحت إبطي أينما حللت وارتحلت. إنها كذلك "الوسادة" التي أرتاح على بساطها. فمنها أستمد الزاد النضالي لمقاومة شراسة الواقع وبؤسه ولمواصلة المشوار الطويل والشاق. فجميل جدا أن يكون لديك تاريخ نضالي مشرف يشفي "كبرياءك" ويمنعك في نفس الآن من آفات الحياة وغدر الزمان. علما أن تقاسم ذاكرتك مع رفاقك وشعبك وقضيتك ومع التاريخ أيضا يحملك مسؤولية جسيمة ويضعك في الخانة المناسبة. فإما أن تخلص لها وتفي بعهدك، وإما أن ترتد وتنزلق الى الدرك الأسفل من الخيانة. وعليه، فالبوح الصادق ليس سهلا. إنه مسؤولية وأمانة على عاتق صاحبه.. ومن اختار البوح، انحاز الى الحقيقة والتضحية، حيث "إن من البوح ما قتل". وبدون شك، فالذاكرة سجل مفتوح للقراءة والاستفادة من خلال ربط الماضي بالحاضر وبالمستقبل، واستخلاص الدروس، دروس النجاح ودروس الفشل، على حد سواء..
ويسعدني في سياق الحديث عن الذاكرة أن أتقاسم معكم ومعكن رسالة سبق للرفيق نور الدين جوهاري أن شرفني بها. كان ذلك إبان الاعتقال سنة 1990، وبالضبط يوم 12 أكتوبر ليلا. كنا حينذاك في عتمة دهاليز المركز الاستشفائي الجامعي ابن رشد (موريزكو) بالدار البيضاء.
ويكمن الدافع الأساسي لنشر هذه الرسالة في نقطتين جوهريتين:
النقطة الأولى: إبراز الروابط الإنسانية والنضالية العميقة التي تجمع الرفاق، خاصة إبان محنة الاعتقال؛
النقطة الثانية: تذكير الرفاق (والذكرى تنفع أيضا المناضلين) بالعهد الذي جمعنا ذات لحظات نضالية وحميمية بالزنزانة رقم 1 بالسجن السيئ الذكر بولمهارز بمراكش، الى جانب الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري..
وفيما يلي نص الرسالة حرفيا:
الرفيق الحسن
تحية نضالية،
ليس هناك ما هو أرقى في أنواع العلاقات الإنسانية من العلاقة الرفاقية بمفهومها الثوري الراقي والجذاب، وبالتأكيد فهذه العلاقة تحمل في ثناياها كل ما يختزنه الإنسان من قيم نبيلة وسامية سواء انطلاقا من تجربة الفرد الشخصية أو مما راكمته تجارب الإنسانية في شموليتها. وعندما تمتزج هذه العلاقة بانجذاب وتفاهم عاطفيين فإنها لن تكون إلا شعلة متقدة باستمرار يتمنى السير على هديها كل شخص نبيل يعطي لمفهوم الإنسان بعده الحقيقي.
الرفيق الحسن:
مهما قلت في حقك فإنني أخشى أن لا أوفيك ما تستحق، فهناك أشياء كثيرة لم أكن من قبل قادرا على البوح بها، تخص علاقتي بك، وكنت قررت تركها لأضمنها رسالتي الأخيرة إليك ضمن سلسلة "رسائل المنفى الداخلي" في بداية 1992، لكن فرحي وسعادتي اليوم بالمولود السعيد يدفعاني على الأقل لتسجيل البعض من تلك الأشياء...
الرفيق الحسن:
أقول لك مسبقا أنه لم يمر شخص في حياتي كلها من أفراد الأسرة الى من كنا ننعتهـــــــم ب "الرفاق" احتل المكانة التي تحتلها في أعماقي (لعلك تذكر أنه لما كانت تحدث بيني وبينك بعض التوترات، كنت أبكي كصبي ضاع منه شيء عزيز، فقد كنت أخشى حينها أن تتزعزع مكانتك وكنت أعتبر نفسي آخر من تبقى لك). فقد استطعت معك تحطيم الحواجز -معذرة لأسماء عن الاستعارة- التي كانت تجعل علاقاتي السابقة متخشبة نوعا ما، فقد وجدت فيك وأساسا في فترة ف.م. (فترة تأسيس علاقتنا بمفهومها الحالي) ما كنت بحاجة إليه على مستوى العلاقة الإنسانية ودفئها...
ففي كثير من الحالات كنت أحس أنك تعاملني بعطف أبوي، عطف الأب الذي لم أذق له طعما من قبل خصوصا أيام حكايات الصبي وما بعدها (معذرة، فلست شيخا على كل حال) ولا أخفي عليك فقد كنت أجد نفسي عندما أنادي عليك "الشيخ"، "الوالد" (لا تنسى أنني نور الدين ابن المعلم حسن، هذا المعلم الذي لم أعرف من "علمه" غير البؤس والشقاء. صدفة أن لك نفس اسم أبي) أو "العم" وغيرها من التسميات... كنت ولا أزال أجد فيك الأخ (لعلك تذكر رسالتي إليك من مراكش وأنت يومها بسجن آسفي وقد خاطبتك فيها ب "الأخ حسن" لأنها كانت تبدو لي أكثر دفئا من كلمة الرفيق) الذي افتقدت الى دفئه وتوجيهه وكنت عزائي في من ضاع مني/منا الأخ الغالي محمد، وكنت أجد فيك الأخت بعدما لم أرق يوما في علاقتي بأخواتي الى المستوى المطلوب رغم حبي لهن وخصوصا نزهة التي كنت تؤاخذني على إفراطي في الثناء عليها، وكنت أجد فيك الأم، وفي قرارة نفسي لقبتك ب "القديس الحسن" تيمنا بأمي التي لا أتردد في نعتها ب "القديسة"...
وباختزال كنت أجد فيك الإنسان كما علمتني إياه أفكاري الثورية، الإنسان الذي أتمنى أن أكونه، صارما حتى الشراسة عند الضرورة، ولطيفا في الوقت والمكان المناسبين... (صدقني أيها الرفيق، فقسما بالعهد الذي بيننا وبعهد الشهيدين، فما أكتبه إليك الليلة ليس شعرا أو إطراء مجانيا، بل هكذا هي عناوين صورتك في ذاتي، وتأكد أنني لم أقو على وقف الدموع لأنني تمنيت لو أعانقك الليلة لتهنئتك).
الرفيق الحسن:
لقد كانت وستظل معاناتك تعذبني، فلك من الخصوصيات ما يجعلني أحس أنها أكبر بكثير مما أعانيه، ليس أقلها مكانتك داخل الأسرة... وللأسف وكما تعرف فلا أملك ما اخفف به عنك اليوم سوى أن أكون بجانبك وأعاهدك على الوفاء للعهد، فقد كنت قبل أيام برمجت أن أتناول مع الأخت/الرفيقة أسماء (سأسميها الرفيقة لأنها يجب أن تكون كذلك) طبيعة علاقتي بك وفي كل مرة كانت المسألة تتعذر، وأعتقد الآن أنه كان أفضل (عدم تناولي للمسألة).
أما الرفيقة أسماء (وهنيئا لي بأولى رفيقاتي) فإنك تعرف مدى ما أكنه لها من الاحترام والتقدير، وكم هي عزيزة علي، ولا أبالغ إذ أقول بأنه لا يوجد بينها وبينك من حيث مكانتكما في قلبي أي شخص آخر، فقد أنارت ظلمات زنزانتنا ولي اليقين أنها ستقاسمني عذاباتي مع معاناتك، وقد لا تتصور مدى سعادتي يوم "تآمرت مؤامرتي البيضاء" معها عليك، فقد أحسست أنني أنجزت وإياها ما يمكن أن يدخل بهجة ما بعدها بهجة على قلبك...
أهنئك، وقبل ذلك أهنئ نفسي، فعلى الأقل فقد جعلتماني أحس أنك لن تبقى ذلك الطائر المكسور الجناح حتى نهاية القرن.
وأهديك وردة تخيلتها حمراء وأنا أقرأ رسالتك/البشرى، وأعاهدك على أن أكون كما عهدتني إخلاصا وأكثر فعلا وإبداعا... أعاهدك... أعاهدك... أعاهدك... أعاهدك حتى النصر أو الاستشهاد.
رفيقك نور الدين
12 أكتوبر 1990، ليلا
* أضع نفسي رهن الإشارة لتوضيح أي نقطة واردة في نص الرسالة..
* الصورتان لنور الدين جوهاري وحسن أحراث قبل الاعتقال. نشرت الصورتان بالمجلة الاسبانية "كامبيو 16" الى جانب تغطية شاملة حول معركة الشهيدين الدريدي وبلهواري.
17 أكتوبر 2016
شارك هذا الموضوع على: ↓