ولأكون منصفا، فهذا الأخير ليس غير نموذج للعديد من الأسماء "المثقفة" الغائبة عن الساحة السياسية وحتى الثقافية، إلا موسميا أو لحاجة في نفسها. لقد عرفت بلادنا العديد من الأسماء التي قدمت تضحيات مشهودة، لكنها في الأخير اختارت الغياب، وأحيانا تزكية الأوضاع القائمة التي تخدم مصالح النظام القائم، تنكرا لتلك التضحيات ولماضي النضال والمقاومة والصمود، بل وخيانة للرفاق والشهداء. وخجلا، أستحيي من ذكر هذه الأسماء. وإذا دعت الضرورة النضالية، فالحقيقة فوق كل اعتبار، إن الحقيقة ثورية شئنا أم أبينا..
كم تمنينا أن يكون لدينا مثقفون ثوريون، أو على الأقل مثقفون في مستوى ضمير هذه المرحلة السوداء، بما يعنيه ذلك من الجهر بالحقيقة عارية والفضح لأساليب الإجرام التي تمارس في حق أبناء شعبنا. إن مرحلتنا في حاجة (على الأقل) الى مثقفين متنورين مناهضين للفكر الغيبي الرجعي الغارق في الظلامية، ومساهمين في فضح الفساد السياسي والإداري والمالي والاقتصادي، مثقفين مساندين للفعل النضالي الذي يتوخى بناء مجتمع بديل متقدم على أنقاض مجتمع ماضوي متخلف، مثقفين ملتحمين بمعارك شعبنا التي لا تنتهي، مثقفين حاضرين قولا وفعلا في أشكال الفعل النضالية التي لم تتوقف يوما ببلادنا، مثقفين مناصرين بدون تمييز للمعتقلين السياسيين وعائلاتهم ومنخرطين في معارك المطالبة بإطلاق سراحهم...
إلا أننا نجد أسماء نالت من الشهرة أكثر مما تستحق (بفعل فاعل أو فاعلين)، بل وحازت على "كارزمية" غير مستحقة، وصارت تتصدر الواجهات الإعلامية وتوزع "صكوك الغفران" على هواها، أسماء تدعي "المعارضة" وحتى الثورية ("الفنان" شفيق السحيمي)، وأحيانا تنفذ "خرجات" تريدنا أن نمجدها وأن نعتبرها "انتحارية". لكنها، في حقيقة الأمر، "بروباغندا" (PROPAGANDA) موسمية ودعوات تضليلية تحمل في طياتها الكثير من الاستجداء لأولياء الأمر ورسائل الاطمئنان المعبرة عن الولاء وعن احترام السقف المرسوم (الخطوط الحمراء)، علما أنها تقتات من كل الموائد، ومنها الموائد المشبوهة والممولة بدون حسيب أو رقيب.. وكيف ل"بطلنا" الحمودي أن يشير بالاسم الى طرف سياسي دون غيره من الأطراف السياسية التي قدمت ما لم تقدمه مكونات الجهة التي أشار اليها أو بعضها بشأن التضامن مع الريف، بل الفعل من موقع نفس الواقع ونفس المصير؟!! أليس في ذلك الكثير من الإجحاف، أو على الأقل القليل من التضليل والتمويه المقصودين؟!!
لقد خرج المثقف "البطل" عبد الله حمودي برسالته المريبة، ومن حقه ذلك، كما من حق غيره من الأسماء المصنوعة في الظل والظلام. لكن المستفز في الأمر هو:
أولا، الغياب الكبير عن التفاعل مع أوضاع بلادنا، باستثناء بعض المشاركات المحتشمة في صيغة الحضور الباهت، في علاقة الأمر خاصة بسيرورة "20 فبراير" أو مسيرة الرباط بالتوابل "العدلية"، ثم بدون سابق "إعلام" صياغة "رسالة" بمضمون "لطيف" ومتجاوز لا يليق بمثقف يدعي الارتباط بهموم شعبه؛
ثانيا، تسطير جملة، عار على جبين المثقف، تقول: "لا حول ولا قوة لي". ومن يا ترى له "الحول والقوة"؟!! إنه المثقف الذي ينتظر الذي قد يأتي أو لا يأتي. فلم ينبس ببنت شفة بشأن المعتقلين السياسيين على طول البلاد وعرضها، غير من "رق" قلبه "الرهيف" لهم عبر قوله: "وشعورا بشطط الاعتقالات الحالية ومآسيها". فالأمر بالنسبة لمثقفنا "العالم"، لا يعدو كونه "شططا".. فنظام لاوطني لاديمقراطي لاشعبي يعتقل ويغتال ويشرد الأطفال والشيوخ والنساء والرجال في واضحة النهار، لا يمارس غير "الشطط".. هنيئا للنظام القائم بمثقفيه "الأبطال"، وهنيئا للمثقفين "الأبطال" بنظامهم!!
وليس في قاموس بطلنا كلمة "الشهداء" أو "الاستشهاد" أو "قوات/أجهزة القمع". إنه يقول: "اسمحوا لي قبل كل شيء بتقديم عزائي لكم جميعا ولعائلتي الفقيدين اللذين توفيا ضحيتين للمواجهات مع قوات الأمن"!!
وبالتالي، فالموقف السياسي ل"صاحبنا" هو: "وأبارك لكم طابعه السلمي-يقصد "الحراك"-، كما أقدر كامل التقدير نضالكم وتضحياتكم من أجل حقوقكم العادلة في التنمية المندمجة في المجهود الوطني". عن أي مجهود وطني يتحدث "مثقفنا" الذي "يظهر ويختفي" (ذئب الروائي زفزاف)؟ بالواضح، وليس بالمرموز يقصد "مجهود" النظام القائم. إنه بالفعل وبقوة الموقف لا يمثل الضمير المفتقد في مرحلتنا هذه...
وحديثه عن "الحركة الوطنية" دون الإشارة أو الإشادة بالمقاومة المسلحة وجيش التحرير ينم عن موقف غير رصين، بل عن موقف متنكر لتضحيات أبناء الشعب المغربي. ومثقف من حجم "البطل" حمودي، مفروض فيه التعبير بدقة عن الأشياء ووضع النقط على حروفها بدون تضليل أو تغليط..
ومن غير المفهوم تسجيله ما يلي: "كذلك فإني أعتبر من الطبيعي أن تتضامن الجالية المغربية في الخارج، خاصة تلك التي تنتمي إلى منطقتكم، مع نضالكم. وبالنسبة لي فإن تلك الجالية التي لها الفضل الكبير في مساعدتكم ماديا ومنذ عقود، تساندكم اليوم وبصفة طبيعية في هذه اللحظة العصيبة من نضالكم.. وحسب رأيي لا تشوب ذلك شائبة".
هل يملك ما يفيد ذلك؟ من هي الجهات السياسية أو غيرها (الحديث عن الجالية لا معنى له) المقصودة بهذا التمويل؟ إنه "اعتراف" يسيء الى الريف الأبي والى استقلالية مناضليه، وأكثر من ذلك، يضع "صاحبنا" موضع تساؤل...
وخلاصة الرسالة: " فقد قررت أن أتضامن معكم بالإمساك عن حضور الأضحية التي أحضرها كل ما كنت بالمغرب، كما هو الحال اليوم، مع أفراد أسرتي الموسعة في الجنوب. وكذلك ألتمس منكم أن تتقبلوا مني صيام يوم في الأسبوع، وذلك إلى يوم طلاق سراح أبنائكم العزل. وهذا أضعف الإيمان".
إنه بدل الرقي بالموقف الى مستوياته المتقدمة، في علاقة الأمر بالحداثة التي يتشدق بها مثقفونا، يتحدث "صاحبنا" عن "الإمساك عن حضور الأضحية". أين الموقف العلمي من تقاليد بالية ومتجاوزة "دينا ودنيا"؟
ويتحدث أيضا عن "الصيام"، ونعلم مرجعية "الصيام"، وليس الإضراب عن الطعام. بئس المثقف المصنوع صنعا في مصانع النظام أو في مصانع حاشيته..
وننتظر من "مثقفنا" المدلل أن يدلنا عن تواريخ ومكان "صيامه"، للتضامن والتعريف به...
فيما يلي النص الكامل للرسالة المعنية:
"سيداتي وسادتي الأعزاء، تحية أخوية وبعد:
لقد تتبعت حراككم من أجل مطالبكم المشروعة منذ بدايته إلى حد الآن، وأبارك لكم طابعه السلمي، كما أقدر كامل التقدير نضالكم وتضحياتكم من أجل حقوقكم العادلة في التنمية المندمجة في المجهود الوطني، والذي لا بد أن يشمل جميع المواطنين والمواطنات من الشمال إلى الجنوب.
اسمحوا لي قبل كل شيء بتقديم عزائي لكم جميعا ولعائلتي الفقيدين اللذين توفيا ضحيتين للمواجهات مع قوات الأمن. واسمحوا لي أيضا أن أعبر عن حسرتي وحزني العميق بسبب هذه الخسارة الجسيمة، وكذلك الأضرار التي ألحقت بالمتظاهرين والمتظاهرات طيلة الحراك وعائلتهم وكذلك سكان المدن والقرى في منطقتكم.
بهذه المناسبة أود أن أنوه خصيصا بتظاهراتكم، وأن أنوه كذلك بالتظاهرات العديدة التي ساندت نضالكم، وعبرت عن التضامن الكامل معكم في ظروف هذه المحنة.
وقد كان لي الشرف بالمشاركة في التظاهرة الحاشدة التي عبرت عن التضامن الكامل معكم في الرباط، وبمشاركة أفراد من عائلات معتقليكم.
وجلي للعيان أن تلك التظاهرة القوية عبرت عن وحدة نضالنا من أجل حقوقنا الديمقراطية، ومنها حرية التعبير، والتظاهر، والحق في المشاركة وفي الشغل وفي التعليم وفي التطبيب، والحق في المساواة الاجتماعية والسياسية في المدن والقرى.
مواطنيّ الأعزاء ومواطناتي العزيزات، لي اليقين التام بأنكم تدركون أن تظاهراتكم السلمية هي جزء من تظاهرات العديدة وشبه المستمرة في وطننا اليوم؛ وأذكر منها تظاهرات إيمضر حول الحق في جميع الموارد كما في معادن المنطقة، وتظاهرات تنغير في ما يخص الصحة ومرافق أخرى، وتظاهرات سكان منطقة إميلشيل بالمشي من القرى إلى منطقة تنغير، وتظاهرة طنجة من أجل الثمن العادل للإنارة، وغيرها. وهناك تظاهرات عديدة أخرى يتعذر في هذا المقام ذكر جميعها.
ولا تفوتني الفرصة دون أن أذكر مواقف التضامن التي عبر عنها مجموعة كبيرة من المواطنين والمواطنات في الدار البيضاء، وغيرها، ومن منظمات حقوقية ونسوية ومنظمات ثقافيه وأخرى من المجتمع المدني الصادق، ومن أحزاب سياسية، خاصة تلك التي تكون فدرالية اليسار. لقد صرحت، بجانب العديد من المواطنين، من مثقفين ومثقفات وغيرهم، بأنه لا يجوز بأي وجه من الوجوه أن ينعت حراككم بـ”الانفصالي”؛
وكذلك فإني أنشد أن نعتز جميعا بالتراث النضالي والتحرري لمنطقتكم العزيزة، والمتمثل في المقاومة العظيمة ضد التغلغل الاستعماري في الريف والحسيمة ونواحيها بالخصوص، بقيادة البطل الوطني التاريخي محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ وأقول الوطني لأن تلك المقاومة المثالية في عصرها كان هدفها تحرير المغرب بأكمله، وامتداد ذلك إلى تحرير إلى المغرب الكبير برمته. وكانت تلك الحرب أول حرب تحرير من الاستعمار في تاريخ ما يسمى اليوم العالم الثالث.
إن ذلك الماضي القريب والمجيد يحق بجميع المغاربة والمغربيات أن يعتزوا به كامل الاعتزاز ويفتخر به كتراث لنا جميعا، بدلا من التحفظ عليه أو التخوف منه. وإني شخصيا أعتبره من صميم التراث الوطني، وهو حلقة حاسمة من حلقات التحرير التي امتدت لعقود بفضل الحركة الوطنية من أجل الحرية والاستقلال.
كذلك فإني أعتبر من الطبيعي أن تتضامن الجالية المغربية في الخارج، خاصة تلك التي تنتمي إلى منطقتكم، مع نضالكم. وبالنسبة لي فإن تلك الجالية التي لها الفضل الكبير في مساعدتكم ماديا ومنذ عقود، تساندكم اليوم وبصفة طبيعية في هذه اللحظة العصيبة من نضالكم.. وحسب رأيي لا تشوب ذلك شائبة.
تقديرا لكل ما سبق ذكره، وشعورا بشطط الاعتقالات الحالية ومآسيها، لا يسعني إلا أن أعبر عن تضامني الكامل مع المعتقلين وعائلاتهم. وبما أنه لا حول ولا قوة لي، فقد قررت أن أتضامن معكم بالإمساك عن حضور الأضحية التي أحضرها كل ما كنت بالمغرب، كما هو الحال اليوم، مع أفراد أسرتي الموسعة في الجنوب. وكذلك ألتمس منكم أن تتقبلوا مني صيام يوم في الأسبوع، وذلك إلى يوم طلاق سراح أبنائكم العزل. وهذا أضعف الإيمان.
ولي الأمل في أن تقبلوا مني السلام الحار وعبارات التقدير والاحترام.
تمارة، يوم الأربعاء 8 من ذي الحجة 1438، موافق 30 عشت 2017".
شارك هذا الموضوع على: ↓