إن النظام القائم في بلادنا في ظل الأزمة التي يتخبط فيها يحاول جاهدا إعادة
إنتاج العلاقات الاجتماعية للإنتاج من خلال الحفاظ على العلاقات الإنتاجية القائمة التي تعكس هيمنته وسيطرته الكلية على خيرات البلاد. ولينجح في ذلك، فهو يؤقلم/يكيف أسلحته المادية القمعية والمؤسساتية وكذا أسلحته الإيديولوجية مع المعطيات الجديدة، خاصة في هذه الظرفية الوبائية؛ حيث الاحتكاك الاجتماعي المباشر في بلورة الوعي الجماعي سيقتصر على الأنوية الأسرية الضيقة وما توفره وسائل الإعلام وكذلك العلم الافتراضي. ومادام تتبع الوباء هو الشغل الشاغل بالنسبة لكل المغاربة، فإنه فرصة مناسبة للنظام لإنعاش وإحياء الروح في أجهزته الإعلامية الميتة لتقوم بالدور المنوط بها عبر تسويق أوهام حول المصلحة العامة والتضامن وغيرها من المفاهيم الطنانة. كل هذه المفاهيم هي محاولة لخلق توافق إيديولوجي وإجماع حول النظام، على الأقل، في هذه الظرفية التي يعمل الإعلام الرجعي جاهدا لتكريسها عبر خلق سيناريوهات درامية "لتلاحم" القمع مع الشعب وترديد النشيد الرجعي بشكل درامي أمام المستشفيات متناسية أن هذه المستشفيات ووضعيتها المأزومة نتيجة سياسة النظام الطبقية في الصحة .
لا يقتصر نشر الايديولوجيا الرجعية على وسائل النظام المباشر والمؤسساتية بل تسخر كذلك قنوات في التواصل الاجتماعي لهذا الغرض خاصة اليوتوب وما ينشره الدجالون الدينيون بالخصوص في هذا الصدد. لأن في غياب أداة ثورية تحمل على عاتقها مسؤولية الدعاية والتحريض وفضح الأوضاع المزرية، لابد أن يكون المجال مفتوحا للمشعوذين وبشكل "ذكي" تحت يافطة العلم كما هو الشأن بالنسبة للمسمى الفايد .
أن يكون العلم متكيفا قسرا مع الإيديولوجية الرجعية التي تحمل العداوة للعلم ولكل ما هو علمي، فلأن التطور العلمي يقوض أسسها النظرية خاصة في هذه الظرفية السياسية والاقتصادية والاجتماعية الوبائية التي أصبح موضوع البيولوجيات ومختلف تخصصاتها المتعلقة بها محط اهتمام الوعي العام ولو بشكل نسبي. تلجأ الإيديولوجية الرجعية خاصة الدينية وأمام السخاء غير المنقطع التي تتلقاه من كل الأقطاب الرجعية في العالم إلى محاولة تحويل العلم إلى يد آلية تابعة قسرا للإيديولوجية لخلق وهم لدى أنصارهم بأن العلم يتطور بفضل إيديولوجيتهم وبرعايتها؛ لكن الحقيقة هي أن العلم يتوقف على التطور، بل تنشأ حقول معرفية وهمية مزيفة لكي تغطي على هذا العلم، لأن المستفيد من هذه التبعية المفروضة على العلم سياسيا هم منظرو هذه الإيديولوجيات سواء الفلسفيين أو الدينين. بل إن المنطق يحثنا على أن العلم هو الذي ينبغي عليه أن يدفع الإيديولوجيا إلى إعادة النظر في أسسها التي هرمت وشاخت. ومن الطبيعي أن ترفض النظريات الرجعية ذلك. لأنه يتناقض مع وظيفتها الأساسية باعتبارها الغطاء النظري للاستغلال الطبقي السائد في المجتمع. كما أن الإيديولوجية السائدة كانت دينية أو أخلاقية أو حقوقية...، هي إيديولوجية الطبقة السائدة والمهيمنة على وسائل الإنتاج .
قد يصرح المطبلون والمهللون أن الإيدولوجيا الرجعية لا تتناقض مع العلم وقد يطورون من أساليبهم التضليلية للحث على نعتهم بالعلماء كما هو الشأن في بلادنا حين نسمع المجلس العلمي التابع للأوقاف، فقط ليس لكونهم علماء بل لأنهم متيقنون أنهم بهذه الصفة يكونون قد أفرغوا مضمون العلم من محتواه وأعدوه للاستهلاك العام بدء بقطيعهم .
وأمام تقزيم النظام وتهميشه من خلال سياسته التعليمية الطبقية للابستمولوجيا النقدية لنتائج ونظريات العلم وقراءتها فلسفيا لتقوية الحس النقدي عند المتعلم، فإن فهم واستيعاب القوانين العلمية للنظريات القديمة أو الحديثة في العلم سيكون مبتورا عن أساسه ليفسح المجال للتأويلات الفضفاضة والشطحات الفكرية الرجعية للرقص على جثة هذه النظريات المجردة والتي هي حقا حية في مجالها. لكن بفعل السياسة الطبقية للتعليم أصبحت ميتة وحبيسة علاقات آلية وقواعد مجردة يكون المجتهد أمامها هو من يتقن اللعب "الذكي" بقواعدها وكأن العلم مستقل عن سياقه الحركي التاريخي الذي يرتبط بالتطور المستمر لقوى الإنتاج عالميا والذي ساهمت البشرية جمعاء في تطويره.
نعم قد عملت سياسة وإيديولوجية النظام على إحكام قبضته ليس على العلم فقط، بل على فلسفة العلم وانعكاسها على فهم الإنسان لصيرورة تطور قوانين المادة، من خلال توجيه البرامج التعليمية ودراسة العلم فقط كقواعد معزولة عن واقعها وعن تأثيرها وكشفها لزيف وضعف الإيديولوجيات الرجعية السائدة. ولنا مثال ليس ببعيد، وهو تعامل بعض الأساتذة الجامعيين أو في المستوى الإعدادي والتأهيلي مع الحقائق العلمية، فنظرية التطور مثلا يجد في الفصل في شرحها وتفكيك فهمها، ولكن في نفس الوقت يسوقون لدحضها دون أي مبرر علمي سوى اعتماد سلطتهم كأساتذة، أي أهل الدار والتخصص وكأنهم بذلك يقتلونها. لكن هيهات، إنما يرسخون جهلهم فقط. والسبب هو دراسة العلم بمعزل عن التأويل النقدي لهذا العلم في الابستمولوجيا .
إننا واعون أن كل أشكال الوعي السائد ونتائجه لا يمكن القضاء عليها بالنقد ولا بتذويبه داخل الذات كما يحلو لمنظري البرجوازية الصغرى، بل بتدمير العلاقات الاجتماعية الإنتاجية التي نجم عنها هذا الهراء المثالي المقرف. وكما علمنا ماركس، إن الثورة ليست هي النقد و"كفى المؤمنين شر القتال"، بل هي تدمير أسلوب الإنتاج السائد و بالتالي بناء نمط جديد يلائم تطور قوى الإنتاج .
شارك هذا الموضوع على: ↓