14‏/02‏/2021

حسن أحراث // عيد الحب.. عيد الحياة..


جرت العادة أن يتناول الثوار أعياد العمال والمحطات الثورية المشهودة وكل
المناسبات التي تخلد تضحيات الشعوب المضطهدة. وكثيرا ما كانت هذه المناسبات بحارا من الآلام والمعاناة والدموع. ولذلك فقاموس الثوار مليء بالجدية والصرامة (الكاريزمية) والقساوة ومصطلحات التحريض والعنف الثوري.

قليلا ما نستحضر أن المناضل إنسان، له ما له وله ما عليه، قبل أن يكون مناضلا. فهذا الأخير، يصيب كما يمكن أن يخطئ؛ أما إذا فقد إنسانيته في خضم وهول الصراع والكبوات، فإنه فقد نضاليته. بدون شك، ينشغل المناضل كثيرا بالمتطلبات النضالية، وخاصة داخل السجن والحصار، حيث الحرمان من العديد من الحقوق الطبيعية، لكنه أقدر على إبداع آليات المقاومة والتصدي والصمود وعلى الحفاظ على حرارة قلبه وعمق أحاسيسه...

أذكر أياما قليلة بعد خروجي من السجن، حيث الزيارات العائلية متواصلة، عندما أخبرتني رفيقتي بسؤال طريف وتلقائي وُجه اليها من طرف شابة من بنات العائلة حول علاقتنا الجنسية؛ بمعنى هل المناضل او المعتقل السياسي يمارس حياته الحميمية بشكل طبيعي؟

قد يعتقد البعض، حالة الشابة المذكورة مثلا، أن المناضل آلة بدون قلب وبدون عواطف، وأن شغله الشاغل هو قضيته وما تستلزمه من تضحيات. وأستطيع أن أجزم أن قلب المناضل، بما يرمز اليه ذلك من حب، أرحب من كل القلوب، وأن إنسانيته تفوق كل الحدود. والدليل "البسيط" هو استعداد المناضل للاستشهاد من أجل كل القلوب ومن أجل الإنسان والإنسانية. والدليل "المعقد" هو جهر المناضل بالحقيقة (في نسبيتها) رغم مرارتها ورغم ما تُكبده من مُعاناة وحصار وتشويه وأحقاد من طرف أعداء المناضلين وأيضا المتشبهين بالمناضلين. ولأن قلب المناضل كبير ومشروعه السياسي أكبر، فلا يُرهبه ذلك كله؛ بل يُحفزه لمواصلة المشوار.. طبعا الصراع لا يرحم (أرفض مقولة "الحرب خدعة" لما تحمله من تمثلات ماكرة وخادعة)...

ويُطرح نفس السؤال على واجهة أخرى، هل "شراسة" النقد لدى المناضل تعني كونه شريرا أو وحشا؟ الأمر عكس ذلك تماما، فمن يحس تلك الشراسة يعترف بتورطه في ما يعمل بكل الأساليب الخبيثة نفيه أو دفعه بعيدا عن شخصه، سواء كان فردا أو إطارا سياسيا أو نقابيا أو جمعويا. وبدل أن يُتهم المناضل بالشراسة وحتى الوحشية، يجب أن يُطرح السؤال عن مدى ديمقراطية "الضحية" المفترض ومدى تقبله للنقد وللرأي الآخر.. وللدقة، فشراسة النقد تعبير عن حب القضية والاستماتة في حبها. وبمعنى آخر، كيف يُثار كل الحقد على المناضل، ويُتهم في نفس الآن بكونه متجاوزا ومعزولا وهامشيا (غير مسموع)، وأحيانا مريضا وخشبيا...؟ 

لا أنفي أن بعض الشراسة (الشراسة المغشوشة) عنوان عريض لتغيير الاتجاه ومعانقة النقيض، وفي كثير من الأحيان كان هذا النقيض النظام القائم (الرجوع هنا الى التاريخ).. 

 وحصل أكثر من مرة أن أخبرني/صارحني بعض الرفاق مشكورين بتساؤل يُطرح عليهم باستمرار: كيف تُرافقون (من الرفاقية) أحراث (أحراث الوحش)، وهو اللسان السليط والقلم الشرس، وهو من يسُب الجميع ولا يحترم أحدا...؟ لن أُجيب عن هذه الاتهامات المجانية، سواء في هذه المناسبة (عيد الحب) أو في أي مناسبة أخرى ("عيد" الحقد مثلا). فلا يجب أن نغفل أن للحاقدين أعيادهم، ومنها لحظات سقوطنا أو انهزامنا... وأترك الجواب مفتوحا.. لن أحقد على أحد، غير مصاصي دماء شعبنا والمتآمرين عليه.. وكثيرا ما يترك المناضل مساحات شاسعة لعودة من أساء اليه.. ويجب أن يدرك الجميع أن أسهل الطرق هي "المرونة" الفجة، وهي "رجل مع الله وأخرى مع الشيطان" وهي "الأكل مع الذئب والبكاء مع الراعي"، وهي قبول الشيء ونقيضه والتعايش مع الانتهازية المقيتة ومع الرداءة... 

ولا أخفي أني أتلقى مكالمات هاتفية من حين الى آخر، وخاصة بعد نشر بعض المقالات التي تبدو "قاسية"، تُسجل تفاوت تقديراتنا وتحمل الكثير من اللوم والعتاب؛ لكنها بالمقابل تُسجل تقديرها واحترامها لحق الاختلاف في وجهات النظر، بل وترقى الى مستوى تقديم مُقترحات وبدائل ترى أنها مُفيدة وإيجابية.. وهنا يصدق على أصحاب هذه الاتصالات الحميدة كونهم ديمقراطيين فعلا وليس فقط قولا.. فأن يضيق صدر لموقف مبدئي أو لتعليق بسيط، أو حتى جارح، فهو صدر منهزم وغير مُجرب/مُحنك؛ فحتى العدو صار أكثر "تقبلا" لشغبنا وشراستنا، من منطلق هامشيتنا وضعفنا. وأعترف أننا في بداية المشوار، ورحلة ألف ميل تبتدئ بقدم واحدة، ورُب شرارة أحرقت سهلا..  

وباختصار، لا حب بدون صدق؛ والصدق لا يحتمل أكثر من وجه (لا أقول قناع)؛ علما أنه ليس سهلا أن تمتلك قلبا يُحب ويعشق "كُل جميل"..  

عموما، ليس في الأمر "تبرجُزا"، كما يُمكن أن "تتحدلق" بعض الألسنة المريضة والأقلام الرخيصة مختبئة وراء بؤس اللحظة السياسية في ظل إجرام النظام وتنزيل مخططاته الطبقية المدمرة.. قد يُطرح السؤال، هل العامل المطرود مثلا يحتفل بعيد الحب؟ هل الطفل المحروم من أبسط وسائل العيش الكريم يحتفل بعيد الحب؟ 

أسئلة مشروعة ومؤرقة.. والجواب عنها لا يكمن في إعلان الحب أو في الاحتفاء به. الأمر هنا يُسائلنا بشأن التزامنا النضالي وبرنامجنا السياسي والتحامنا بهموم العمال وأوسع الجماهير الشعبية، نساء ورجالا، وشيوخا وأطفالا..  وضمنه حب القضية، فإنه عُمق إنساني يُميز المناضل الثوري الذي يسع قلبه الجميع، سواء كان عاملا أو فلاحا فقيرا أو طالبا أو معطلا أو مشردا.. وإنه شكل من أشكال مقاومة النظام وأزلام النظام التي تستهدف شموخنا وإنسانيتنا وتسعى الى تطويعنا/تركيعنا وتدمير هويتنا الثورية وقتل الفرح في دواخلنا.. لنفرح ولنُحب الحياة الكريمة والسعيدة ولنُواجه كافة أشكال الإجرام والترهيب بكل عنفوان وبكل تحد وإصرار...

من لا يُحب ليس إنسانا، وبالتأكيد ليس مناضلا. إن الحب قيمة إنسانية راقية لا تخبو ولا تموت لدى المناضل ولو في أحلك الظروف وأقساها، مثل ظلمة الزنازن والدهاليز وتحت حصص التعذيب وسياط الجلاد..

أُحب بإخلاص شعبي وقضية العمال، وأُحب رفاقي ورفيقاتي وكل المناضلات والمناضلين وكل صديقاتي وأصدقائي وعائلتي وأُسرتي، وسأبقى أُحب اليوم وغدا ودائما؛ وذلك من بين أسرار صُمودي وتفاؤلي، و"جُنوني" إذا شئتم/تن... 

ودائما، كل الحُب للمعتقلين السياسيين وعائلاتهم.. ولنُترجم حُبنا نضالا مُنظما ومُنتظما من أجل إطلاق سراحهم..





شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق