13‏/03‏/2022

نعيمة البحاري // في العمارة جاسوس... 11 مارس 2012 طرق غير معتاد على الباب


مغزل الأيام يدور وصوفه افكاري، تقحمني في نسيج بطول زمان
المأساة والترحال، ويستثير ذكريات، أحزانها وآلامها، وشقاؤها، متشابك في شجون. وانتشيت لفرط ما تفجر  صدري بالأمل بعد ضيق المرض وما هضمت من عذاب بمذاق التشرد.. قافلة الزمن تطوينا، وتطوع، تطمر، تفرق، تنبت الشوق، وتصلب ما هو صالح، ونافع، ومفيد للأجيال..

كم يكون أيسر تدوين الكثير من صمتنا لو نعيد ترتيب ذاكرتنا لكن عدم الطمأنينة في الحياة، تبعثر الكثير مما يختزن في صدورنا ومشاعرنا من ذكريات، واحداث، وتبعث في كثير من الأحيان الخوف من المجهول، وفي غالبية لحظات التذكر لا نتمكن من تحديد ذات الهاجس أو الهواجس، التي تسبح دون أن تطفو على السطح في بحر الذاكرة، ربما لهاجس مشاكل العمل أو لقمة العيش أو الغربة أو الشوق، أو تقدم العمر، أو حالة التيه، أو فتور الاهتمام بالوضع العام.. دور في ما نعيشه من اضطرابات في التركيز ومن تخريب لبعض فصول الذاكرة..

اروح استرجع ما استطعت ترميمه من الماضي الذي عشته، من الآلام والعذابات التي عرفتها عائلتي الصغيرة، حتى في أبشع صورها، ومن مسرات، وكانت تبعث في حنين الى الريف، لبلدتي الجميلة، حيث الفضاء الرحب، والشمس الساطعة،ومجاري المياه، وشجرة الزيتون، والرمان، والخضر، والحقول، والمطر، ورائحة الطين، والموقد الذي نتعلق حوله ايام البرد، والاوراق المحظورة، والنقاشات الحميمية، وجكوار وحكاياته العجيبة، وزيارات الرفاق، والنقاشات الحميمية في فناء الدار تحت ضوء القمر.. والى مدينة الرفض، مدينة فاس،  مدينة 14 دجنبر، حاضنة القلعة الحمراء، البقعة التي تحطم عليها مشروع الظلام، حيث رفض الانبطاح، والاستسلام، حيث رفض الولاء. واتنفس زفير يخرج من ثناياه صوت ينادي يا فاس، يا رافضة البؤس، يا مدينة الشهداء، يا من فتحت لنا العيون على المعرفة، والسياسة، والنضال، يا من علمتنا لا للتنازل ورفض الاستغلال، يا من زرعت فينا إلى الأمام،.. يا من تنتصبين شموخا على الهضبة المحاطة بأحزمة الرفض والانتفاض.. من صفرو وهرممو وتاهلة وتازة وتاونات.. وصولا إلى مدينة مكناس. لا نعرف قيمتك يا فاس سوى في البعد.. البعد يعلم مثلما تعلمنا كل تفاصيل الحياة، إنه من دروس مدرستنا الكبيرة..  

طرق على الذاكرة كما كان طرق غير معتاد على الباب في ليلة يوم 11 مارس 2012 بحي واد فاس. جكوار على قائمة المبحوث عنهم بعد انتفاضة 20 فبراير. وانا التي لم أكن أعرف أن رفيقنا يلقبونه بالجكوار، وهو لقب من ابداع أجيال إلتحقت بالجامعة من بعد مغادرتي لها. جكوار  قدم يوم  السبت 10 مارس من طنجة وحل عندنا في وقت متأخر حاملا حقيبته برفقة أحد الرفاق الذي غادرنا بمجرد وصولهما. تصافحنا بحرارة، تبادلنا الأسئلة المعتادة في كل إستقبال، وبما فيها سؤالنا عن أحوال أصدقائنا هناك، وطرح الاهم عندنا في تلك اللحظة، هل السمكة في بحرها ام على الرمال، لأننا لم نكن ندري هل "جوجل google" القاطن في نفس العمارة تفطن لوصول الرفيقين، أم لا. لم يكن لنا جواب، ولم يكن أمامنا اي خيار، سوى التحدي ومواجهة مصيرنا. يوم الاحد بعد وجبة الغداء بقي جكوار في مقهى قريب من المنزل بعد  اقتناعنا بان حظوره لتظاهرة 20 فبراير مجرد هدية للنظام. الساعة العاشرة وخمس وعشرون دقيقة ليلا، رفيقي على المكتب مستدير لشاشة الكمبيوتر، يمارس  هواية الاطلاع على المستجدات، وبالاخص مستجدات الاضراب اللامحدود عن الطعام، للرفاق في كل من سجن عين قادوس وتازة، انا اساعد ابني في اعداد ملف حول الثامن من مارس، جكوار يساعد بدوره بنقاش مرح حول المرأة، طرق غير معتاد على الباب، ألتفت رفيقي إلينا وكأنه في سرعة مع الزمن:

-الرفيق هدي دق دلبوليس

 اجاب الرفيق جكوار

-البالكون (balcon الشرفة)

-يكونوا مطوقين الدار كاملة

صوت الطفل بالقرب من الباب، يقول "شكون"، فتح(بضم الفاء) الباب وصاح "فين داخلين فين"، بسرعة كنا انا ورفيقي على المدخل، وفي رمشة العين امتلأ البيت بزوار الظلام، لم يقدموا انفسهم ولا قدموا اي سند "قانوني" لاقتحام البيت. هكذا شغل فرق الظلام الخاصة بزرع الرعب والاختطاف وزهق الارواح. اللحظة عيني ليستا بين سطور كتاب، انا جزء من سطور غير مكتوبة بعد.. القوة، التفتيش، الإرهاب، وماذا غير الإرهاب، الإصرار على تقديم نموذج لمشهد هليودي امام أسرة صغيرة تتكون من أم واب وطفل صغير، ثلاثة توجهوا للغرفة حيث يوجد الرفيق، وصفضوا يديه للخلف واخرجوه بالقوة حافي القدمين، وبينما كنا في صراع لمنعهم من اعتقاله، كان واحد يعطي التعليمات للبحث عن الحقيبة والهواتف، لينشب صراع معهم لمنعهم من أخذ هواتفنا وحقائبنا الخاصة باستثناء حقيبة الرفيق التي انتزعوها منا بالقوة، وآخرون كانوا محملين بكاميرات خاصة فيهم من كان مكلف بتسجيل كل تفاصيل البيت، بما في ذلك المطبخ والحمام، وواحد كان في وضعية النقل المباشر لعملية المداهمة والاعتقال. وفي دقائق كان الذي كان، انطلقت السيارات بسرعة، وبقيت عناصر مجهولة تسرب على أطراف الحي الوشايات، من قبيل الحقيبة تحتوي أموال مزورة. 

كنا خارج العمارة، ورفيقي يوضح لمن خرجوا بعد مغادرة عصابة الرعب. كل الجيران خرجوا، ومن كانوا في الخارج يحكون عن تطويق المجمع السكني من الخارج، وصعودهم سطح العمارة. وكل النوافذ المطلة على الشارع فتحت، والنساء تستقصي من خلالها ما حدث، باستثناء نافذة غرفة "جوجل" سيد الأخبار والمستجدات في الحي، مغلقة، لا أضواء في الداخل، وغياب ملحوظ في التجمعات. "google" لا اثر له هذه الليلة. ولم تمضي 10 دقائق على العملية الاجرامية حتى شاع خبر الاختطاف على مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى مدونة النهج الديمقراطي القاعدي موقع ظهر المهراز. وتناقل السكان الخبر بسرعة.

في الصباح تبخرت حكاية حقيبة الأموال المزورة. وشاع اقتحام منزل بواد فاس واعتقال سياسي. "جوجل Google" الحرفي البسيط، المدعوم ب"فاعل خير" لتغطية مصارف التعليم بالمدرسة الخاصة، كما يقول، تصرف أمام صاحب دكان الحي والزبائن كأن شيئا لم يكن، لا حكاية ينقلها، ولا حديث يحضره في الموضوع. أغلب الساكنة لاحظت ذلك، مثلما عاشت ليلة الرعب، لكن لا أحد يدلي باستنتاجاته.

ويوم 30 مارس تناقلت وسائل الإعلام المحلية مراسلة لصاحب اللسان السليط، المرشوش ب"زغب الإيمان"، وزير العدل والحريات آنذاك مصطفى الرميد موجهة للإطارات الحقوقية يعدل فيها وضع الوشاية/الفضيحة، وينفي: "ان يكون المواطن العلمي إسماعيلي قد تعرض لاختطاف أو اختفاء قسري بحي “واد فاس” بمدينة فاس يوم 11 مارس الجاري".




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق