بدون مقدمات أو مبررات ألوم نفسي ورفاقي أيضا المعتقلين السياسيين
وإن كان لابد أن أُسجل بعض أدوار عائلاتنا، وخاصة أمهاتنا، أقول: إنهن "اللاعب رقم 11" بلغة "الكوايرية"؛ وباللغة السياسية، إنهُن المعتقل/ة السياسي/ة رقم 45 (عدد معتقلي المجموعة هو 44). لقد ساهمت عائلات المجموعة، وخاصة الأمهات والأخوات في صُنع انتصار معركة الشهيدين بوبكر الدريدي ومصطفى بلهواري البطولية، وهو انتصار للمجموعة ككُل..
إنه "جحود" غير مقصود بدون شك.. لكن والآن، ماذا بعد؟
لن أقول "فات الأوان" بعد رحيل العديد من الأمهات. لنستدرك بحُب ومسؤولية نضالية أخطاءنا، ولنرُد الاعتبار لهُن قبل رحيلنا نحن أيضا (رحل ثلاثة رفاق من المجموعة بعد الشهيدين، وهم محمد عباد وعبد الرحيم علول وصلاح أبو حمزة). يقول المثل المتداول أكثر باللغة الفرنسية: "JAMAIS TROP TARD POUR BIEN FAIRE".
لنُوثق تجربة مرجعية رائدة أغنت مسيرة المعتقلين السياسيين وعائلاتهم سابقا ولاحقا، وصارت نبراسا لمواصلة المعركة من أجل انتصار قضية شعبنا.. لنصنع التكامل، فشهادة واحدة وحتى أكثر من شهادة، لن يفي ذلك التجربة حقها.. لنبُح ولنُدون ولنصرُخ في وجه الجلاد ومن أجل الحقيقة والتاريخ..
ولأن المعاناة مستمرة، ليستمر نضالنا من أجل إطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين..
ولأن هناك عائلات تعاني وأمهات تقاسي، لنكن في مستوى متطلبات هذه المرحلة الصعبة التي تعرف اضطهاد أوسع الجماهير الشعبية، وعلى رأسها الطبقة العاملة؛ لنجسد تضامننا على أرض الواقع وفي خضم الصراع الطبقي المحتد.
المعركة مستمرة حتى تحرير آخر معتقل/ة سياسي/ة، كان عاملا/ة أو فلاحا/ة أو طالبا/ة أو صحافيا/ة أو أستاذا/ة أو معطلا/ة أو مشردا/ة...
المعركة تنادي اليوم، 08 مارس، وبعد اليوم؛ والى حين تحرر وانعتاق شعبنا..
وبالمناسبة أحيي وأشكر المناضلتين العزيزتين خديجة العطروز وماريا مصباح على مبادرتهما بشأن التواصل مع أمهات مجموعتنا. كانت البداية مع أمهات الرفاق محمد اليونسي وعبد الصمد الطعارجي وحسن أحراث.. وكان مشروع لقاء معتقلي المجموعة ليصير تقليدا سنويا على غرار تجارب أخرى.. ما أحوجنا الى هذه المبادرات وأخرى..
وسيرا في تجاه إبراز تضحيات عائلات، وخاصة أمهات وأخوات معتقلي مجموعة مراكش 1984، أُقدم شهادة لمناضلة قوية وصامدة (و"صامتة")، شهادة فاطمة الدريدي أخت الشهيد بوبكر والمعتقل السياسي السابق الطاهر، بمناسبة الأنشطة العمومية للاستماع لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي نظمتها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان من 12 فبراير الى 02 يوليوز 2005 تحت شعار: "شهادات بدون قيود من أجل الحقيقة". شهادة صادقة تعبر في مضمونها ورمزيتها عن كافة عائلاتنا وعن أمهاتنا وأخواتنا.
فيما يلي نص الشهادة حرفيا:
"أيها الاخوة والأخوات في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، الاخوة والأخوات والحضور الكريم،
ألقي هذه الشهادة نيابة عن عائلة الدريدي وهي الشهادة التي كان من الممكن أن تلقيها والدتي المرحومة السعدية بنرزوق، لو أنها بقيت على قيد الحياة. وأتمنى أن أكون اليوم في مستوى النيابة عنها لإيصال ما كان يمكن أن تقوله لكم نيابة عن كافة أفراد العائلة ونيابة عن باقي المناضلين والمناضلات وجميع الحقوقيين والسياسيين ببلادنا. معاناة ونضال عائلة الشهيد م. بوبكر الدريدي هي جزء من النضال والمعاناة والمآسي التي قاستها عائلات المعتقلين السياسيين والمختطفين والمنفيين بالمغرب .
معاناة استمرت لسنوات وبشكل تصاعدي وشملت كافة أفراد الأسرة ومحيطها من أجل خنق وإسكات صوت من أصوات المقاومة الرافضة للمساومة والمصرة على فضح واقع القمع الهمجي الذي كان يتعرض له المعتقلون السياسيون في المغرب. ثم بهدف تدمير معنويات المعتقلين السياسيين أنفسهم داخل السجون. فتلك كانت هي السياسة الحقيقية للدولة في تلك المرحلة، وليس سببها هذا المسؤول أو ذاك .
- فمسؤولية الملك – مسؤولية ثابتة
- مسؤولية وزير الداخلية – ادريس البصري – مسؤولية ثابتة
- مسؤولية بعض الأطباء الجلادين، وعلى رأسهم البروفيسور قميحة كذلك مسؤولية ثابتة .
- مسؤولية بعض الجلادين الذين سوف اذكر أسماءهم فيما بعد، كذلك مسؤولية ثابتة .
ابتدأت محنة عائلة الدريدي مع اعتقال واختفاء ابننا الدريدي م. الطاهر في 6 يناير 1984، وهي نفس المحنة التي عاشتها عائلات مجموعة مراكش 84 خلال فترة الاختطاف التي عاشها أبناؤنا في درب م. الشريف، وفي المعتقلات السرية بمراكش، مداهمات للبيوت ليلا، وتفتيشها وإتلاف أمتعتها، وتمزبق الأفرشة ...
وبعدم تم نقل أبنائنا المعتقلين لسجن بولمهارز عشنا محنة أخرى مع الزيارات الأولى في السجن، حيث يطلب منا الحصول على التصريح بالزيارة من طرف وكيل الملك والتصريح يمنح لحامل نفس الاسم فقط، بالإضافة لتعامل الحراس والأوضاع في المزار .
ومع بداية المحاكمة، اشتد الحصار على العائلات، حيث لا يسمح سوى للأب أو الأم في البداية لحضور جلسات المحاكمة، وعاشت مراكش والعائلات حالة من الإرهاب لا يمكن تخيلها. حيث كان المئات من جميع أنواع البوليس يطوقون المحكمة وأيضا الطرقات المؤدية اليها .
وفي بداية شهر أبريل 1984، اعتقلوا م. بوبكر. وبعد أن تعرض للتعذيب كباقي رفاقه تم نقله الى السجن، وبدأت بالنسبة للعائلة معاناة أخرى جديدة: 2 زيارات و2 كفات...، ومع بداية إضراب أبنائنا عن الطعام، الإضراب اللامحدود عن الطعام الأول، انقطعت كل الأخبار، بهدف الضغط على المضربين وتكسير معنويات العائلات، أما الصحافة فكانت غائبة تماما والأحزاب السياسية لا تحرك ساكنا .
ثم جاء قرار التفريق على السجون، سجن آسفي وسجن الصويرة، وابتدأت الرحلات الماراطونية ما بين مراكش وآسفي والصويرة والرباط، ووزارة الداخلية ووزارة العدل ومقرات الجرائد الى غير ذلك من أجل فك الحصار على المعتقلين المضربين عن الطعام حيث كانت حياتهم في خطر، حتى جاء خبر استشهاد م. بوبكر في 27 غشت 1984 بعد 58 يوم من الإضراب عن الطعام، وهو ابن 19 سنة .
آثار التعذيب على جثة م. بوبكر كانت واضحة، وآثار قدم مجرمة على صدره وآثار الأصفاد على اليدين وأيضا آثار سيلان الدم من أذنيه .
وبعد تسلمنا لجثة الشهيد م. بوبكر من الصويرة، تم تفتيشنا في عدة نقط للمرور وأخذونا للكوميسارية المركزية بمراكش، ومن هناك سلموا لنا جثة الشهيد قصد دفنها. وفي اليوم المخصص لتشييع جنازة م. بوبكر نزل علينا نبأ استشهاد المناضل مصطفى بلهواري .
عاشت العائلات حالة من الطوارئ والخوف لا يمكن تخيله. فالحالة والأوضاع التي يعيشها المعتقلون المضربون عن الطعام جد خطيرة، ويجب إنقاذ ما تبقى من أفراد المجموعة، ويمكن للمخزن أن يقتلهم جميعهم. ولم لا وله سوابق متعددة في هذا المجال. ففي يناير السابق فقط ذكر الحسن الثاني الشعب المغربي بما قام به في منطقة الريف سنة 1959، وشتم أبناء الشعب ونعتهم بالأوباش وذلك في خطاب رسمي. وهنا لا يمكن أن أصف حالة الهلع والخوف التي كانت تعيشها العائلات وفي مقدمتها الأمهات .
بعد استشهاد م. بوبكر ومصطفى بيومين تم نقل الحالات الخطيرة للمعتقلين المضربين عن الطعام الى مستشفى المامونية، ابن زهر، بمراكش، ولم يسمح للعائلات بزيارة أبنائهم إلا بعد مضي أسبوع من توقيف الإضراب عن الطعام، بعدما قامت العائلات باعتصام بمقر البلدية .
كانت الزيارة في المستشفى تتم ثلاثة مرات في الأسبوع، وبعد مدة تم إرجاع أبنائنا الى نفس الوضعية السابقة، مفرقين دائما على السجون، وازداد الحصار على العائلات .
أمام هذه الوضعية دخل أبناؤنا في إضرابات محدودة عن الطعام، ثم إضراب لا محدود عن الطعام. وفي أواخر 1985، اعتصمت العائلات أمام وزارة الداخلية، وعقدت لقاء مع وزير الداخلية ادريس البصري الذي أبدى أسفه حول وضعية أبنائنا بدون حياء. والتزم بالسماح للعائلات بزيارة أبنائها، وفي الطريق نحو إدارة السجن تم اعتقال الأمهات بمن فيهم أمهات المناضلين المعتقلين مجموعة 26، وذلك لمدة ثلاثة أيام بالرباط. وكانت هذه هي الزيارة التي سمح بها الوزير أي زيارة نفس الأماكن التي مر منها أبناؤنا .
ولما رجعت أمي السعدية الى مراكش وجدت أن عليها أن تسدد غرامة مالية قدرها 500 درهم تحمل اسم الشهيد الدريدي م. بوبكر. وقبل ذلك سبق أن تم الاعتداء على الأمهات بالضرب يوم 10 ماي 1985 بمستشفى ابن زهر بمراكش ونقل ثلاثة منهن الى قسم الإنعاش. وتتابع القمع الموجه ضد عائلة الدريدي وضد أمي السعدية :
- اغتيال م. بوبكر .
- استمرار اعتقال م. الطاهر الذي نخاف عليه من الموت في أي لحظة بعدما دخل في إضراب عن الطعام دام خمس سنوات .
- اعتقال م. أحمد يوم 22 أكتوبر 1985 لمدة طويلة في درب م. الشريف، وكان الضغط عليه مستمرا ومنعوه بشكل رسمي من متابعة دراسته، منعوه من الحصول على الدكتورة في الطب .
- طرد م. عبد الرحمان الأخ الأصغر من المدرسة العسكرية لا لشيء سوى لأنه يحمل اسم الدريدي وهو الآن لا يزال ضمن مشردي هذا الوطن .
- الاعتداء بالضرب من طرف الأواكس وعميد كلية الآداب بنفسه بمراكش على خديجة. ولا أحد يتكلم في هذا البلد باستثناء الطلبة .
واستمر عذاب أبنائنا في مستشفى ابن رشد بالبيضاء في قسم الإنعاش الجراحي على يد الطبيب الجلاد قميحة، في الطابق العلوي لمقر المقاطعة في نفس المستشفى، ثم بعد ذلك في أحد الدهاليز بنفس المستشفى، حيث كانوا يتعرضون لمسلسل آخر من التعذيب والتخدير. ومع استمرار هذه الوضعية عاشت أمي السعدية والأمهات والعائلات لسنوات مأساة حقيقية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نصفها، حالة من الإرهاب النفسي والجسدي لأمهات دخل أبناؤهن في إضراب عن الطعام لمدة تزيد عن خمس سنوات ولا يعرفن أي خبر عن وضعيتهم. تسافر الأمهات الى البيضاء وعند وصولهن تطاردن من طرف البوليس داخل المستشفى وقد كانت أمي السعدية تأمل أن ترى ولو ظل م. الطاهر عبر نافذة المستشفى. وهكذا بقيت الأمهات لا يتوصلن بأي خبر سوى احتمال الوفاة. المضربون في غيبوبة حين يخرجون منها يتم تخديرهم، وهم مكبلون بالأصفاد، وحين تصبح روائحهم كريهة نتنة يتم استقدام الفقيه المكلف بغسل الموتى بالمستشفى قصد صب الماء عليهم لإزالة تلك الروائح الكريهة. هذه الجملة البسيطة التي تختزل وضعية أبنائنا لم تكن تنشرها الصحافة الوطنية إلا قليلا ونادرا جدا .
دامت هذه الوضعية لسنوات وقلوب الأمهات تتمزق ولا وجود لأي مسؤول في الدولة ليهتم بهذه المأساة والخلاصة هي أن لا حقوق للإنسان في هذه البلاد ولا هم يحزنون .
جميع الوزراء المعنيين راسلناهم مرارا وتكرارا، وعبر رسائل مفتوحة. وجميع رؤساء الأحزاب والنقابات راسلناهم كذلك ومنهم من كانوا متورطين ومن كانوا خائفين ومن كانوا مقموعين هم كذلك ولم يكن يتجرأ أحدهم لإثارة هذه الأوضاع إلا قليلا جدا .
في ظل هذه الوضعية كانت تصر العائلة على إحياء ذكرى الشهيدين في منزلها بالرغم من كل الممارسات القمعية المخزنية. وساهمت هذه المسألة بشكل كبير في فضح واقع القمع داخل السجون وساهمت أيضا في شحن المناضلين بمعنويات جديدة للاستمرار في النضال. وكانت لذلك نتائج إيجابية حيث كنا خلال تنظيم ذكرى الشهيدين في كل سنة نستقبل عائلات المعتقلين السياسيين من كافة أنحاء المغرب ونستقبل الصحافة الدولية والوطنية والمنظمات الحقوقية الدولية وضمنها منظمة العفو الدولية ومنظمة لافر والفيدرالية الدولية لحقوق الإنسان، وكانت تتحول ذكرى الشهيدين الى مؤتمر للعائلات يتم خلاله محاكمة جرائم المسؤولين وتطلق الدعوات المطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين والكشف عن مصير المختطفين .
في ظل هذه الوضعية التي كان عليها أبناؤنا ماتت أمي السعدية، قتلها المخزن وأنهكها المرض. ماتت وقلبها يحترق جراء وضعية أبنائها .
وقبل أن أنهي هذه الشهادة، لا بد أن أذكر بالأوضاع المرضية المأساوية التي يعيشها كل من رفاق الشهيدين نارداح خالد والبيقاري عبد الكريم ولقدور الحبيب وسايف عبد الرحيم نتيجة التعذيب .
فإذا أراد أيا كان أن نطوي الصفحة فلا بد أولا من ديمقراطية حقيقية في بلادنا وتمتيع المواطنين والمواطنات بحقوق الإنسان كاملة بدل التشدق بالشعارات الفارغة وبديمقراطية الواجهة مع ضرورة التأكيد على محاكمة الجلادين المسؤولين على هذه المآسي والذين ما زالوا أحياء .
وبهذا الصدد ففيما يخص مجموعة مراكش 84 فالجلادون معروفون وضمنهم المدعو نجد والسبتي والخليلي وزرقيط والزاهدي وهذا الأخير يشتغل حاليا ككومسير في منطقة سيدي يوسف بن علي بمراكش وأيضا اليوسفي قدور والجبلي وغيرهم .
وفي خضم هذه المعاناة كان منزل أمي السعدية مفتوحا في وجه جميع المناضلين، ومطوقا بالبوليس ومراقبا ليل نهار. وقد تعرض جميع أصدقاء العائلة والجيران للتهديد والمساومة وأغلبهم لم يعد يتجرأ حينها على محاذاة المنزل باستثناء الأصدقاء الأوفياء وبطبيعة الحال رفاق الشهيد وابنينا م. الطاهر وم. أحمد.
في خضم هذه المعاناة أيضا كانت المرأة المغربية حاضرة بقوة في شخص أمهات المعتقلين السياسيين. فلأرواح اللواتي توفين منهن وضمنهم أمي السعدية، أهدي هذه الشهادة عرفانا منا لهن على صمودهن وعلى كل ما قدمنه من تضحيات .
أشكر الأخوات والاخوة في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان على نضالهم الدؤوب من أجل الحقيقة، وأضع بين أيديكم عينة من الوثائق التي تؤرخ لهذه الأحداث. وشكرا".