ما الذي تغير عند "جماعة العدل والإحسان " حتى يقبل "النهج الديموقراطي
الجماعة تعلن لا للعنف، ومارست العنف المسلح والمنظم وبالجملة على الأقل في حق مناضلي اليسار. وتؤمن في نفس الوقت بالجهاد بالمال وبالنفس وتؤمن في نفس الوقت بالقومة التي تستعمل فيها كل الوسائل ومنها العنف!! وخروج مؤسسها عبد السلام ياسين من الزاوية البوتشيشية طوعًا أو كرهًا ما كان إلا لعدم مسايرة مسؤولي الزاوية له في أفكاره "الجهادية "!! وتعلن الجماعة "لا للسرية"ولا تمارس العلنية حتى مع أعضائها. وأخيرًا غير واحد من منتسبيها يفضح هذا الأمر ، ومنهم أبو حزم الذي كان يتحمل مسؤوليات كبيرة في الإعلام والتأريخ للجماعة وظل فقط يسمع عن "دستور الجماعة" (القانون التنظيمي) ولم تتح له فرصة للإطلاع عليه طيلة 25 سنة قضاها داخل التنظيم(تصريحاته منشورةصوت وصورة على اليوتوب).وتعلن كذالك لا للخارج ، وفي عز انتفاضة 20 فبراير ، تواصلت مع السفارة الأمريكية !
إن ما يجب أن نميزه في الجماعة هو ممارستها التي قد تكون أحياناً منسجمة مع أسسها الفكرية والسياسية وأحيانًا قد لا تكون ، وبين شعاراتها التي قد تنسجم مع هذه الأسس وقد لا تنسجم، وبين هذه الأسس ذاتها. فأحيانًا قد تنتج ممارسات وشعارات تكتيكية وسرعان ما تتخلى عنها مع تغير الظروف، لكن الأسس الفكرية والسياسية لا تتغير بسهولة أو بوعود من هذا القائد أو ذاك، في جلسة حميمية أو لقاء عابر. ما يجمع الجماعة لحد الساعة هو كتابات مؤسسها عبد السلام ياسين، ولم تظهر إلى العلن أية مراجعة فكرية وسياسية لهذه الكتابات من الداخل، بل ما يلاحظ هو الإشادة بها في كل ذكرى . إن الحكم على أي تنظيم لا يمكن أن يتم من خلال قناعات شخصية لبعض منتسبيه، بل من خلال القناعات الجمعية التي يعلن عنها من خلال القنوات الرسمية لهذا التنظيم.
لا يتسع المجال في هذا المقال لتناول هذه الكتابات كلها، ولكن سأقدم بعضها من غير "منهاج النبوة" الذي كان عبد السلام ياسين أعلن تخليه عن جل ماهو تنظيمي في هذا الكتاب.
الديمقراطية:
يقر في كتاب "الثورة والديمقراطية" (1996م) عن التعارض بين نظام الحكم الإسلامي والديموقراطية:
"بني نظام الحكم الإسلامي القرآني على مقدمات سبع، تكون الشورى قبة البناء." ص28.
"الاختلاف بين شورى على قواعد القرآن وديمقراطية على قواعد عقد اجتماعي اختلاف جوهري" ص33.
هنا يتحدث عن نظام الخلافة الذي لا يفارق جل كتاباته. ومما سبق نفهم أن هنآك نظامًا للحكم في القرآن وهذا غير صحيح. ولمن يريد مزيدًا من التفاصيل ، أحيله على كتاب علي عبد الرازق(أحد علماء الأزهر) "الإسلام وأصول الحكم" (1925م)، حيث خلص هذا العالم إلى أن نصي القرآن والحديث لا يتضمنان أية دعوة لإقامة نظام حكم ولا أي شكل من أشكال الحكم.
ليس بمقدور عبد السلام ياسين الإتيان بدليل عكس خلاصات عبد الرازق؛ كما أن علماء أهل السنة والجماعة كانوا عاجزين على الإتيان بهذا الدليل من قبله. ولو كان لهم دليل لكانوا قدموه للشيعة الذين يقولون بوجود وصية من النبي ليخلفه علي بن أبي طالب ، و لكانوا حقنوا دماء المسلمين التي سالت قرونًا من أجل الحكم. ع. ياسين يحاصره سياق كتاباته أحيانًا ، فلا يجد ملجأ غير الاحتماء بالعلماء بدل تقديم دليله من القرآن. يقول في كتابه(2001) "الخلافة والملك":
"اتفق علماؤنا على أن الخلافة لا تكون بالنص والوصية، لكن باختيار الأمة. ونفوا الأحاديث الدالة على غير ذلك."ص 38.
وما وصلنا من أخبار الخلفاء الأولين، أن لقب الخليفة لم يكن محسومًا كما قد يبدو في كتابات الحركة "الاسلامية" المعاصرة؛ فكان "لقب خليفة الله" ، ولقب "خليفة رسول الله" ولقب "أمير المؤمنين". وكيفما كان الحال، فلابد أن نقر لهؤلاء العلماء بجرأة كبيرة لشرعنتهم نظام حكم يفعل "باسم الله أو رسوله" في "الرعية" ما يشاء دون الاستناد إلى نص أو وصية. ونفس هؤلاء العلماء يعجزون عن تفعيل جزء من هذا النوع من الاجتهاد لشرعنة مطالب المواطنين المقهورين في العدل والمواساة .
الشورى:
ورجوعًا إلى نص ع. ياسين عن الشورى، فلا أحيلكم على معاجم اللغة العربية للوقوف على أن المفهوم ليس نظامًا للحكم و لا يتضمن الصفة الالزامية ولا نستطيع أن نقحم فيه نظريات ظهرت في عصور متأخرة (العقد الاجتماعي ، شرعية الحاكم يستمدها من الشعب وغير ذلك). لكن أحيلكم على كلام ع. ياسين حتى نقف على ما يفهمه من الشورى. يقول في كتاب "إمامة الأمة"(2009):
"لا بد أن يكون في تنظيم الدعوة والدولة ترتيب لحسم الخلاف قبل أن تستشري ناره. هذا الترتيب ينحصر في نقطتين:
١. رد الاختلاف إلى أولي الأمر العلماء إلى مجلس متخصص في الاجتهاد.
٢. عزمة الإمام إن لم يحصل إجماع، وخيف أن يتفاحش الجدل أو تتعطل مصالح الأمة." ص248.
وهنا تختفي مهمة الأمة التي اختارت الحاكم وتختفي الى أن يموت ويأتي خلفه، لتخرج وتبارك الحاكم الجديد. إذن ما هي الاضافة التي أتى به ع. ياسين لنقد أو تجديد فقه السلاطين الذي بقدر ماقوى عزيمة الحاكم وعظمته، أذل وقتل عزيمة الأمة.
ليست فقط الأمة التي يتم تغيب دورها في مشروعه السياسي، فحتى المثقفين الذين استدعت الجماعة أمثالهم في ندوتها الأخيرة، فهو يضمر لهم مكافأة ذكرها في كتابه" إمامة الأمة":
"إن المهمة الأولى للجماعة أو الرابطة الاسلامية المتصدية للحكم بعد تقوية صفها، وتربية رجالها وتنظيمهم، هي مغالبة الأحزاب ودول الجور على إمامة الأمة. فلا يعرف الإسلام نخبوية المثقفين، ولا يعترف بالتنظيم الطبقي الذي يقسم الأمة أو يبقيها كما قسمتها الفتنة."
ومغالبة الأحزاب و دول الجور فتحيل على ما يعرف في الفقه "الإسلامي " بوجوب السمع والطاعة للإمام المتغلِّب. وهذا الأخير لم يكن يتغلب بالحوار ، بل بالسلاح ولما كان يرفع السلام فلا يضعه إلا بعد إخضاع الجميع أو هزيمته، وتاريخنا يبين بجلاء أن الإمام المتغلب ما كان يميز بين دول الجور ودول الجوار.
البيعة:
وسواء بالنسبة لعبد السلام ياسين أو كثير من علماء أهل السنة والجماعة ، فالسمع والطاعة واجبان للإمام لأنه أخذ البيعة من المحكومين. وكما أن نعلم أن البيعة تتم حتى وإن بايع واحد فقط من المحكومين (لا أريد هنا تكرار ما كتبته سابقًا في مقالاتي عن الخلافة). يقول ع. ياسين في كتاب "العدل ، الاسلاميون والحكم" (2000):
".. في دولة الإسلام الشرعية تكون الطاعة التزاماً من جانب المحكوم في مقابل التزام الحاكم باتباع الشرع بموجب عقد حقيقي صريح يتم الاتفاق عليه في بيعة لها قواعدها الشرعية وموجباتها ومبطلاتها." ص 116.
و المفروض أن من يتحدث عن دولة الإسلام الشرعية أن يستدل بنصوص من المتفق عليه بين المسلمين، من القرآن والأحاديث النبوية المتواترة. لكن ع. ياسين هرب من التأصيل لمفهوم "البيعة الشرعية" باللجوء إلى
تعريفها عند ابن خلدون:
"اعلم ان البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايع يعاهد أميره على آنه يسلم له النظر في أمره وأمور المسلمين...فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري" ص 116.
ابن خلدون وصف عهدًا بين الحاكم والمحكوم، أما "التأصيل الشرعي" فهو شيء آخر غير الوصف. فإذا قلت أن نص القرآن أو الحديث المتواتر لا يدعو إلى أي نظام حكم، فهو لا يدعو أيضًا إلى أي بيعة بين الحاكم والمحكوم ولا يحدد أي قواعد أو موجبات أو مبطلات لها، بل ما في الأمر أن أناسًا مثل ع. ياسين كل ما رأوا رأيًا أصبغوه بالصبغة الدينية الشرعية حتى ينال قدسية وهيبة بين الجماهير.
أما البيعة في نص القرآن فهي تتم بين الله الذي يشتري وبين المؤمن الذي يبيع نفسه وماله مقابل الجنة. جاء في الآية ١١١ من سورة التوبة:
"﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم"
ويتم المعنى الملموس بالآية 10 من سورة الفتح:
": إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ يَدُ ٱللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ۚ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَىٰ نَفْسِهِۦ ۖ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِمَا عَٰهَدَ عَلَيْهُ ٱللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا". الآيتان السابقتان تحددان المخاطب هنا وهو النبي ولا أحد بعده يستطيع أن يخاطب الناس ويقول لهم أنه يأخذ هذه البيعة القرآنية نيابة عن الله .لكن كثيرا من الفقهاء ومعهم ع. ياسين يدلسون على الناس ويوهمون بأن العقد بين الحاكم والمحكوم هو البيعة المذكورة في القرآن. ومن خلال مطالعتي لبعض التفاسير ، يتضح أن آيات البيعة لم تكن تطرح إشكالات في فهمها لأن المجتمع وقتها كان منقسما إلى أسياد وعبيد، والعبد هو من تعود ملكية نفسه وماله للآخر. والناظم بين هذا المعنى والآية السابقة هو أن المؤمن يعتقد بأنه صار عبداً لله بأن باع له نفسه وماله حتى وإن لم يعط صفقة يده للنبي.
وقبل الختام ، أجيب الذين يقولون أن " جماعة العدل والإحسان " جماعة دعوية لا تسعى إلى السلطة، أجيبهم بكلام ع. ياسين في كتابه "العدل، الإسلاميون والحكم ":
الباب الأول : ماذا يريد الإسلاميون ؟
"يريد الإسلاميون اقتحام عقبة الحكم، وهم اليوم المرشحون الوحيدون لإنقاذ الأمة باعتراف الخصم والعدو."
ما ذكرت أعلاه هي أمثلة يسيرة من الفكر المنغلق لجماعة "العدل والإحسان " وتشترك فيه مع كثير من الجماعات "الإسلامية" ؛ وإلا فلها ميزات خاصة كنشر الخرافة. من أمثلة ذلك الترويج لقومة 2006 بناء على رؤية إمامها في المنام، وما نشره أحد مؤسسيها ، البشيري ، في أشرطة مسجلة لما خرج أو أخرج من التنظيم. بعض هذه الأشرطة موجود على اليوتوب وتدور حول تقديس الإمام. أما الغرض مما كتبت فليس المنافسة حول من يمتلك الفهم الصحيح للدين، بل هو المساهمة في كشف الستار عن فكر رجعي أنتج تحت عباءة السلطان و يتمسح بما هو مقدس عند المسلمين، وعدم التواطؤ مع أفكار تتحول في أي لحظة أسلحة للقتل المادي والمعنوي للمناضلين الصادقين. وفي نفس الوقت هو تنبيه الذين لم يأخذوا الدروس من تجربة "الإخوان المسلمين " في مصر ونسوا المرسوم الرئاسي الذي أصدره مرسي وجمع بموجبه كل الصلاحيات التشريعية والتنفيذية ونص على أنه غير قابل للطعن أمام المحاكم. و ابتعدت عن تغيير المسميات واستعمال التصنبيفات ما أمكن حتى يعرف القارئ من المقصود بالكلام.
محمد سعيدي/8-11-2022