11‏/12‏/2022

نعيمة البحاري // "11 دجنبر 1977 " لا تبرمج في المقررات.. لأنهم لا يريدون شاهدا على الجريمة


ليلة باردة في جنوب المغرب. فنحن في دجنبر، شهر البرد، لكن السماء تبدو
صافية هذا اليوم، بعد ليلتين ممطرتين ب"حكم" تيار فقهي يدير الطقس بمعداته الغيبية، وربما قد تبقى هكذا إلى حين هبوب تيار دعوات الاستسقاء مرة أخرى، بعد خشوع محطات الرصد الجوي أمام "علوم/سلطة الفقهاء".إذا لا غرابة في ذلك.. فهكذا يكتب كل ما هو رسمي وأكاديمي..  

إن التاريخ والتجربة يعلمان الناس ألغاز الطبيعة ولمعان النجوم. هذا ما كانت أمي تقوله لنا ونحن صغار، وهي التي تصلي الصلوات الخمس في اوقاتها، "اليوم مشمس"، وتنهض تشعل النار تضع الابريق المسود بالهباب لتسخين ما تبقى من قهوة المساء لتملأ قارورة الزجاج الملازمة لأدواتي المدرسية، وتضيف له نصف الرغيف، وكمية زيتون أسود، وتناديني بلكنة فقيرة، وانا الطفلة الوحيدة من اكبر مجمع سكني بزاوية سدي عيد الجليل التي ستقطع مسافة ثلاثة كلم للوصول للمدرسة: "نعيمة نوضي رآه بهر الحال، نوضي تمشي المدرسة، نوضي راه مكاين لي يفيقك". وتبدو كلمات أمي هذه قاسية، بل قد تكون تافهة، وغير ملفوفة بحنان الأمومة، لكن امثال امي لا يسمح لهن الواقع المرير بالتمتع بخيال رحب، فالفقر لا يعلمهن تزويق الحياة الصغيرة المتعبة بكلمات راقية.. فحياة المعدمين والجياع لا تعلم سوى الصلابة وعدم الاستكانة لأن العدالة كما وجدوها مفروضة منحت البعض كل شيء وحرمتهم من كل شيء.. احمل المحفظة بما تحتويه من معدات وأشق الطريق متجنبة قبور المنسيين، بحكم ما يراودني من خيالات منسوجة من حكايات الأم قبل النوم، وهي القبور التي لم يسمح سني عن سؤال من نساهم هناك منذ سنوات الستينات وبداية السبعينات، مثلما كنت أتساءل عن كيف استطاع الملوك بناء تلك المعالم الحضارية التي قال لنا معلمنا  بأنها لازالت خالدة..

قلت إن ليالي دجنبر باردة إن لم تكن ممطرة، ولكن بحكم سني والوسط الذي ترعرعت فيه لا يسمح لذاكرتي بتخزين كيف كانت في سنة 1977، هل كانت هناك دعوة لصلاة الاستسقاء من قبل أم لا، هل القمر والنجوم كانوا مختبئين أم لا، وما هي توقعات أمي آنذاك، وما عرفته من بعد، بحكم الميول والاهتمام، أن نور نجمة، ترعرعت وسط الفقراء، شق قلاع القمع الدكتاتوري الذي جعل الحياة تبدو بلا معنى، وسط كل أساليب المذلة، والجوع والقمع، والاضطهاد والاستغلال، المسلط على شعب بكامله، حياة لم تعد في حاجة لأي كلام، معناها موجود في داخلها ولا يحتاج لأي معنى إضافي سوى المقاومة.. ليخرج من حصار الظلام نحو الخلود، وسلط الأضواء على مركب يبحر، بمن نهضوا من الأرض، باسم الحرية والخلاص، ليقولوا لا، وتعلوه قبضة العمال والفلاحين الفقراء..

كان يوم 11 دجنبر 1977..

ركزوا جيدا في التاريخ، احفروه في الذاكرة، يا أبناء شعبنا.. تاريخ مجيد مكتوب بالدماء الزكية، دماء نجمة من نجوم شعبنا، اسمها سعيدة.. سعيدة الشهيدة في سجون النظام من أجل "الأرض للفلاح والمعمل للعمال".. هذه هي نجمتنا، هذه رمز المرأة المغربة، هذه هي رمز التضحية، هذه هي حقيقتنا، وهذا هو التاريخ.. هذا التاريخ لم ندرسه في المدرسة، مثلما درسنا بنايات الملوك، وهذا التاريخ لن تجدوه في المقررات، ولا كان من مستجدات أخبار المذياع المفضلة في الثامنة مساء ببيوت الفقراء، بل كان محظورا ولا زال محظورا في كل المستويات الأكاديمية.. لأنه تاريخ الحقيقة.. تاريخ المطاردة المستمرة، تاريخ اللصوص والقتلة، وتاريخ من هربوا من الموقف ومن اختاروا تنظيف أيادي الجلاد وقتلة الشهداء.. وتاريخ البذرة التي لا تضيع وتقاوم دائما على طريق التحرر والخلاص.. 

سعيدة فصل من فصول كتاب كتبت حروفه بآهات الضحايا وارواحهم، واشلاء المقاومين وأبناء الانتفاضات..




شارك هذا الموضوع على: ↓


تعليقات فايسبوك
0 تعليقات المدونة

0 التعليقات:

إرسال تعليق