نحن شعب لا ننسى.. صحيح تحملنا ونتحمل ولكن نحمل ذاكرتنا.. ونتذكر ..
لم يتقبل اجدادنا الاستعمار، وحاربوه، مثلما لا نقبل عملاءه ووكلاءه الطبقيين ونحاربهم، ونفضحهم بالجهر..
قاوم شعبنا ولازال يقاوم، وقدم الشهداء والمعتقلين، ولازال يقدم التضحيات تلو التضحيات..
اذا، كيف اليوم أن نقبل بالترحيل والتهجير الممنهج والمخطط له..
حرب المياه هي حرب التهجير والترحيل واستصدار الأراضي..
إذا من يقبل ان يرى ارضه تبور وتبور ويرتاح.. ويتفرج.. يقبل بالتهجير.. يقبل بموته..
لا.. لا أحد قد يقبل أن يكون فرجة موته في مرآة..
أن تقدم معتقلا أو أكثر من معتقل.. أو تقدم شهيدا أو أكثر من شهيد، أفضل خيار من أن يقبل الإنسان، وبالأخص الفلاح، ليكون فرجة على أطوار موته في مرآة، هي بادية حقيقتها اليوم..
على قرية سيدي بنعيسى واقع الحال لا يخبئ أي شيء.. لا يخبئ الحرب التي أخذت لها الماء كسلاح ووسيلة وميدانا للقتال.. ومع حرب الماء أخذت الأشياء شكلا آخر. الهواء يتغير، والتربة تتغير، وراحة الأشياء المحيطة بالفلاح تتغير، والفلاح يتغير،.. لا شيء يؤمن البقاء. والماء صار شبح الفلاح ولبسه وتداخل به.. وصارت القرية الصغير الجميلة، التي كانت بالأمس مصدر الخضر لسكان المنطقة المناضلة، منطقة صفرو، تنام على وسادة المعارك.. وكل يوم تتفقد أبناءها مثلما تتفقد معتقلها السياسي الرفيق عزالدين باسيدي ومعه كافة معتقلي شعبنا. فكل شيء بها في غليان.. سكانها يتنفسون الهواء المكهرب.. يتحسسون طعم القتل، في صورة التبوير بهدف الترحيل الاضطراري، على طاولة الاعداء. إنها الحرب التي لا تشبه الحروب، حرب لا تشبه اسمها. لا تشبه ما تقدمه الدراما، لا تشبه حكايات الاجداد، لأنها لا تحتاج لجيش جرار ولا لعتاد حرب مألوف في الحروب.. إنها حرب المياه.. حرب الحياة..
معظم فضائع العدو، الذي يجسده نظام الكمبرادور والملاكين العقاريين الكبار، عملا ووكلاء الاستعمار، كانت تحت غطاء شعارات كاذبة..
بالامس القريب جدا، نهبوا الأراضي تحت غطاء "المغرب الأخضر"، و"الامن الغدائي"، ونهبوا صناديق ملئت من ثروات الشعب، واليوم تبين أن "المغرب الأخضر" و"الامن الغذائي" هو جنة وأمن غدائي للمستعمر من خلال أرضنا وكدح أبنائنا.. وكذا تحت شعار "الاستقرار" يعمق المزيد والمزيد من "عدم الاستقرار"، بمعنى عدم استقرار حقوقنا، ومكتسباتنا، واوضاعنا، بل صرنا نعيش على الرمال المتحركة ونحن نشعر جميعًا بقبضة الواقع التي تضيق كل يوم أكثر وأكثر.. وتنكشف معها أكثر وأكثر خيانات القوى السياسية والقيادات النقابية ومن يتمسح بمسوحها..
إن المرء لا يحتاج ليكون ذكيا ليكتشف هذه الحقائق،.. ليكتشف حجم الكذب عبر طول مرحلة امتدت منذ الاستقلال الشكلي إلى اليوم.. الكذب الكذب الكذب..
إن رائحة كذب النظام لم تعد مخفية.. لأنها تشبه رائحة الجيفة على سطح الثلوج.. إنها تمتد لعقود.. تختزنها ذاكرة الطفولة مثلما تختزنها ذاكرة الشيوخ..
وكم أجد نفسي مستلقية في مخزون الذكريات واسافر على مخيلة الطفولة الى تاريخ الحقيقة كما كانت، كلما برز أمامي عنوان على النت ل"معركة فلاحي زاوية سيدي بعيسى".. واسافر في يقظة إلى تلك الأيام، وانا طفلة صغيرة، حيث الفلاح كان له ما يشبه الجنة برحمة السماء، وسخاء نهري "إيناون" و"بوزملان"، على أراض بلدتي "زاوية سيدي عبد الجليل".. أشجار التين، الليمون الرمان، العنب.. والخضر بكل أنواعها، وكل شيء في موسمه.. استرجع صور كيف كانت بلدتي، سيدتي، وكيف صارت.. كيف صار حال من خدموها قبل أن تغير أيادي لا رحمة فيها ملامحها.. بعد أن إلتهمها سد إدريس الأول وابتلع أراضيها ومحى من الوجود أشجار الليمون والرمان ومزارع الخضروات.. ومحى دورة الكفاح الفلاحي والانتاج الاخضر الحقيقي.. وكيف تحول من صنعوا منها الجنة، عبر حياتهم الجديدة بعد أن أكلت التجارب تعويضاتهم الهزيلة عن املاكهم.. إلى بؤساء هم وابناؤهم في مواجهة المجهول.. ثم أعود على البدأ وأتساءل لما استسلموا للمصير المجهول، لماذا لم يتشبتوا بأراضيهم، لماذا لعبة المنفعة العامة تجمد المقاومة في كيان الناس.. ما هذه اللعبة اللعينة التي يسمونها المنفعة العامة.. لماذا يتقبل الناس التجمد باسم هذه اللعبة.. لما لا يكونوا هم أولا المستفيدون من المنفعة العامة في حين المستفيد المطلق هم وكلاء الاستعمار وخدام رفاهيته ومصالحه،.. لماذا لم أتكلم آنذاك، من أجل الأرض ومن أجل الإنسان.. من أجل تحريره.. حقا
لم يعد للفلاحين الذين بقوا ولم يرحلوا شيء مما ورثوه عن الاجداد.. ضاع كل شيء..ضاعت تجاربهم.. وضاعت معها حرفهم.. ولم يتبق منها سوى صور مخزونة بالذاكرة منسوجة من الحكي يبنون منها مستقبلا في احلام تنطلق من "لو كان".. وصار لكل عائلة قصص جدية مع الكدح والمواساة..
أنها الصورة التي تجعل منا محرضين بالجهر.. وهي نفسها التي جعلت الرفيق عزالدين باسيدي يقف في مقدمة التضحية..
كل الدعم لفلاحي زاوية سيدي بنعيسى في معركتهم ضد التبوير.. من أجل حقهم في مياه السقي..
والحرية للرفيق عزالدبن باسيدي ولكافة المعتقلين السياسيين.