من خلال ما يتوفر من معلومات قادمة من غزة، والمنقولة سواء من الإعلام الصديق أو اعلام العدو، تتكشف يوميا أمام العالم المأساة التي لا توصف،
وتخبرنا عن إرادة الإبادة الجماعية التي تتضاءل أمام المزيد من الدمار الشامل، والمتواصل، الذي فاق دمار حروب انظمة القرن الماضي، وتظهر أرض غزة عبارة عن خراب، لم تبق فيها لا بيوت ولا مؤسسات لم تدمر.. فما يقارب عشرة بالمئة من سكان غزة تم قتلهم، أخذا في الاعتبار من دفنوا تحت القصف، والذين لا يمكن استخراجهم بسبب النقص التام في الوسائل الميكانيكية والبنزين وكل شيء.. سبعون بالمئة منهم نساء واطفال.
غزة اليوم، حولها الاحتلال والعدوان الامبريالي الصهيوني الرجعي (الكيان الصهيوني وأمريكا والاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والأنظمة العميلة بالمنطقة) إلى حطام، وعبر كل القنوات المرئية تتبين كمنطقة منكوبة. فبنوع الأسلحة المستعملة، وحجم القصف، والحصار المحكم، جعل الاحتلال والاتحاد الأوروبي وأمريكا والأنظمة العميلة بالمنطقة من غزة أرضا غير صالحة للحياة والعيش بسبب حجم الخراب والتلوث الذي عم القطاع، تلوث الهواء والمياه والتربة.. فمن لم يقتلوا بالقصف ولم يدمروا تحت الأنقاض فهم عرضة للأمراض الفتاكة والمميتة المنبعثة من إشعاعات الأسلحة المحظورة دوليا، والمستعملة في قصف ساكنة غزة، المسببة للسرطان والأمراض التي تنتج عن المياه الملوثة مع خراب البنية التحتية، والانهيار الشبه كلي للبنية الصحية، بحكم نفاذ الأدوية وهدم المستشفيات.. إن القتل وتسميم الارض لحد استحالة استمرارية الحياة فيها، هو: تنفيذ لاستراتيجية الإبادة الجماعية، وطريقة لاقتلاع شعب من أرضه. إنها جوهر أهداف العدو، في التخلص من غزة ومن أهلها، وفي التخفيف من ساكنة الأرض بشكل عام.. وهذه هي قيم الرأسمالية في عصر الإمبريالية، عصر يعتمد على إخضاع الكرة الأرضية وساكنتها لمصالح الرأسمال المالي من خلال صناعة الوحوش المناسبة.
فبالرغم من المعلومات الشحيحة التي يسمح بنقلها الاعداء، وكذا من خلال ما ينفلت من رقابة كل المتواطئين، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كلها تعكس صورة لواقع يثير الشعور حتى على رجل ميت، ويعيد بالإنسان الحالي للعيش مائة عام إلى الوراء، مرة أخرى مع الإبادة الجماعية للأرمن والفلسطينيين ومعسكرات الاعتقال.. وصناعة الصابون من جلود البشر وأكل لحومهم.. بل تحس وكأنك أمام النصوص الصحفية القديمة، والفارق الوحيد هو اختلاف أسماء "الابطال"/القتلة واختلاف الجنسيات. ولو قمت فقط بتغييرها، لقضيت الأمس إلى اليوم واليوم إلى الأمس في لعبة الأخطاء السبع للكوارث الإنسانية الفظيعة. ليظهر التاريخ جوهر الأيديولوجية الصهيونية بوضوح شديد، وهي صفعة بوحشية في وجه العالم وكل من ساق للرأي العام مبررات حق وجود كيان مصطنع بأيادي القوى الاستعمارية بفلسطين. ولكن أيضًا ضد الإنسانية جمعاء، ضد الصحفيين والجمعيات الإنسانية والأطباء الذين هرعوا لإنقاذ مئات الآلاف من الجرحى (كل هؤلاء لم يسلموا من نيران الاحتلال وحلفائه).
فمنذ سبعة أشهر والعالم يتابع ما بقي من احياء سكان قطاع غزة وهم يجرون وراءهم الأطفال والعربات، ويعيشون حياة النزوح اليومي بعدما استحال وجود شبر آمن في كل القطاع، مما يجبرهم على خيار الانتقال من مخيم الى مخيم، تحت القصف والنيران الموجهة من بيوت مكيفة، بعد كل تدمير، وهم في غالبيتهم عمال وعاملات ومتقاعدين استنزف الاحتلال قوتهم وبنى بهم اقتصاد كيبوتسات المستوطنين الصهاينة المتوحشين، ومستوطناتهم وحول دماءهم إلى أسلحة للدمار الشامل لتأمين المصالح الحيوية للإمبريالية الغربية بالمنطقة. وهم من لم تكن لهم أي بدائل بعد تحويل غزة إلى أكبر سجن في العالم يعتمد على الكيان الصهيوني في كل شيء، من الماء والكهرباء والغاز والعملة والاتصالات.. وهذا الرابط، أي الاعتماد على الكيان في كل شيء، صار عامل من عوامل الحرب المعتمدة من الكيان الصهيوني في العدوان وذلك بكسر رابط الخدمة هذا ولم يعد هناك أي مصادر دخل لملايين الفلسطينيين في غزة ولا مصادر تموين.
فعلى هذا الواقع، وفي كل تفاصيله، تتضح أهداف العدوان الإمبريالي الصهيوني الرجعي على شعب فلسطين وتنكشف استراتيجية الإبادة الجماعية التي ينهجها في غزة. وفي وجه هذه الهمجية يقاوم الشعب الفلسطيني ببسالة، يتحمل ويفضح، ويقاتل بأبسط وسائل القتال. ويدشن لحظة تاريخية، لحظة تتطلب الوضوح، لحظة انكشاف من تربطهم مصالحهم بالكيان الصهيوني، ومشروع ابادة اكبر عدد من ساكنة كوكبنا ومن يقاومون هذه الاقلية. إنها لحظتنا جميعا كشعوب. لحظة الانخراط، والاتحاد، لمقاومة وحوش هذا الكوكب، والحفاظ على الحياة فيه، وبناء نظام فيه خلاص للإنسانية.
إن غزة اليوم هي لحظة الوضوح، فلا مكان وسط بين وحوش ومدمري الحياة على هذا الكوكب وبين مقاومة الشعوب. إما نحن وإما هم ولا مكان وسط بيننا. فمن يقف اليوم إلى جانب غزة ولا يعطي موقفا واضحا ممن يأتمرون بأوامر واشنطن، فهو مخادع. فلا يمكن مثلا للعقل السليم أن يقبل قطر كممول للمقاومة وهي من لا يمكن أن تصرف دولارا واحدا دون أمر من واشنطن. كما لا يمكن لإعلامها أن يكون لسان حال المقاومة. ولهذا يجب أن نحذر ممن يقف مع الأعداء، ونحذر من النصر الذي قد يصنعه إعلامهم.
إن مقاومة الشعب الفلسطيني، وصموده في غزة هو بمثابة نور هذا الكوكب، نور ينبعث من اكثر الاماكن عذابا على الارض، ينبعث من رماد الحريق والموت، ينبعث من الدمار ومن الركام والعذاب.. إنها الفرصة التي إلتقطتها شعوب عدة على كوكبنا وفي مقدمتها الشعب الأمريكي والحركة الطلابية الامريكية والشعوب الأوروبية.. وهو الدرس الذي لازلنا نتعثر في استيعابه في البلدان المغاربية والعربية. ولازال السياسيون الملتزمون بالحفاظ على النظام من جميع المشارب، من اليمين و"اليسار"، وفي جميع حقول نشاطهم، يبذلون جهودا متضافرة لجعلنا نتكيف ونقبل غزة كمشهد للفرجة، مع صناعة محطات لتفريغ السخط، ونقبل مرور هذه اللحظة التاريخية كلحظة بيضاء دون أن تغرس مخالبنا فيها. ونخلف الوعد لشهدائنا، شهداء القضية الفلسطينية.