خلفت الأيام الأخيرة مع الترتيب لتمرير قانون الإضراب"/جريمة الإجهاز على الحق في الإضراب، تسخينات قبلية تفعيلا للعادة المألوفة مع كل جريمة يرتب لها النظام لشرعنة جريمة من جرائمه.
منذ أكتوبر 2016 مع ظهور "قانون الإضراب" كمشروع وما حمله من مضامين إجرامية خطيرة ترمي لإنهاء حق الشغيلة في استعمال إحدى أقوى أدواتها النضالية في ممارسة الصراع والمطالبة بحقوقها المشروعة، وإخضاع الطبقة العاملة وتحييد أدوارها في الصراع، باعتبارها الطرف الرئيسي النقيض لأصحاب رأس المال، وتحويل النقابات لأدوات تحت رحمة سيف الباطرونا، كان يبدو كأكبر تهديد للعديد من أدرع الأحزاب السياسية لقطع علاقاتها بقطاعات واسعة من الشغيلة. وأن أي توعية للطبقة العاملة وعموم الشغيلة بخطورة هذا المخطط الإجرامي قد يفضي لتصعيد غير مسبوق يدخل النظام لمأزق خطير.
ومع انتقال المشروع لأيادي وزراء حزب الأحرار وحلفائه في الحكومة الحالية، تغيرت الأدوار وقسم أوساخ/أوساط اللعبة قسمة عجيبة.
واضعوا لبنة تجريم الحق في الإضراب، السباقون لوضع المشروع، منذ الحكومة التي أتى بها النظام لتدبير فترة تصاعد النضالات مع انتفاضة 20 فبراير، لحراسة مصالحه، التحقوا ب"المدافعين عن حق الإضراب" وصاروا هم جهابدة "جبهة" الرفض ولسانها وقيادييها. وصنعت خريطة انقسم فيها المشهد إلى قسمين، قسم مع الحكومة وقسم تجمع تحت لافتة الرافضين لمشروع الحكومة، من اليمين المناهض للطبقة العاملة و"يسار" البرلمان وصولا ل"يسار جبهات" الوقفات أمام البرلمان، وغابت/تغييب الحركة الجماهيرية الطرف الرئيسى المعني من المعادلة.
ومع تسخين المشهد ظهرت العجائب، واختلط "الحابل بالنابل" لفرسان الأحزاب السياسية والنقابية، كراكيز خشبات المسرح السياسي. تقدمت المجموعة النيابية للعدالة والتنمية للحديث باسم "جبهة الرفض"، إلى جانب الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية وكلها أطراف ساهمت في صنع ما وصلنا إليه من انحدار. وخلف، أو الى جانب (بالتعبير الذي يرضي البعض)، هؤلاء وقف أنصار المسلسل الديموقراطي شأنهم شأن أصدقائهم من المتموقعين خارج قبة البرلمان.
وظهرت عقدة "كل دعوة إلى الإضراب، خلافا لأحكام هذا القانون التنظيمي، تعتبر باطلة، ويعتبر كل إضراب لأهداف سياسية ممنوعا" المركبة منذ أن طرحت حكومة "عبد الإله ابن كيران" المشروع بين يدي مجلس النواب في 6 أكتوبر 2016، ضمن مشروع القانون التنظيمي، كصيغة جُعل منها عقدة احتياطية لتسخين الطرح في اللحظات الحاسمة ومخرجا للالتفاف بالاجماع على تخطي عقدة إنهاء الحق في الإضراب والدوس عليه، وفتح الطريق لتمرير قانون الإضراب/قانون تجريم الإضراب دون تكسير المشط/الإجماع ودون حل العقدة/تجريم الإضراب.
وظهر "سحر" يونس السكوري، وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، بطلا على الخشبة وهو يبتلع كراكيز المشهد المسرحي برهان النبال وفرسان الحبال وما خلفهم من مشاة، وبما حملوه من تعديلات/حلويات دون أن نسمع أحدهم يتألم. وأكيد لن يكتوي من هذه المسرحية سوى المعنيين بنيران جريمة السطو على حق الإضراب باسم قانون الإضراب أما كراكيز المسرحية السياسية ينتظرهم الفتات من خلف الستار ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فهنا، مع أقدار النظام، تحل "العقدة الغوردية" دون الحاجة لسيف الإسكندر الأكبر لقطعها ولا لتكسير المشط. ولو أنها قد تبدو لك مصنوعة على شاكلة لا تقبل الحل، وأن بدايات العقدة غير ممكن التقرب منها. لكن الساهر على إخضاع واقعنا السياسي العجيب، ضابط اللعبة، لا تخف عنه خفية بالأحرى حقيقة الجسم السياسي والنقابي (صنعة يدو).
فالوقوف إلى جانب "جبهة الرفض"، أو إلى جانب حكومة النظام كلاهما سيان. فالمناضل الحقيقي لن يرضيه التموقع في كلا الموقعين لأن كلاهما يتحرك على نفس القواعد لإيجاد مخرج لتمرير الجريمة، مع تحييد دور الجماهير المعنية من المعادلة، لتجنيب المشهد من حدوث هزات تربك الترتيبات، ولعدم تكرار ما حصل مع الجماهير الأستاذية في معركتها البطولية لإسقاط ما سمته في حينه ب"نظام المآسي"، والتي شكلت عقبة حقيقية في وجه النظام، وكلفته الكثير ووضعته في مأزق حقيقي لو لا الطعنة التي تلقتها المعركة من قيادة نقابة fne.
ووضع اليوم لم يأتي من فراغ فهو تراجع كبير وصل لحد احتواء النظام لكل المسخ السياسي ولأذرعه النقابية، وفتح المسار للإجهازات على الحقوق والمكتسبات مع جاهزية أطراف اللعبة، من داخل المؤسسة التشريعية ومن خارجها، للالتفاف على كل فعل مقاوم في ظل تخلفنا وضعفنا وعدم آهليتنا لاستنهاض فعل وازن. وفي تجربة رجال ونساء التعليم التاريخية، لاسقاط "نظام المآسي" في السنة الماضية 2023، ومآلاتها درس بليغ، بحيث صار كل من يقتات على تسهيل السطو على الحقوق لسحق الشعب، وكل من ساهم فيه، يتحدث عن الحقوق وعن الدفاع عن الشعب والطبقة العاملة. فالمجرم يفتي والحربائي يرفع الإيقاع ويضبطه، والانتهازي يضع يديه في أيديهم ويواصل إشارات استعداده لمعانقة مختلف الشياطين.
من يكون حزب العدالة والتنمية غير حزب صنعه النظام وخدمه طيلة تاريخه، في اغتيال المناضلين واستهداف الحركات المناضلة، ووشم جبينه بالتوقيع للتطبيع في العلن ومصادرة حق الإضراب بتطبيق الاقتطاعات، وأطلق مسلسل الإجهاز على صندوق الموازنة.. حتى ينتظر منه اليوم أن يكون إلى جانب الشغيلة وإلى جانب حقها في الإضراب؟!
حزب التقدم والاشتراكية والاتحاد الاشتراكي الإصلاحيين ماتا وشبعا موتا، منذ بداية التسعينات، ونسخة اليوم مجرد وجوه من تركيبة النظام، تأتمر بأوامره، وتنفذ تعليماته بكل حذافرها وتلعب دورها في اللعبة كما طلب منها.
وأكثر من ذلك، حقيقة كل حزب سياسي وكل تنظيم سياسي لم تعد مخفية، والتاريخ قدم ما يكفي من دروس وفرز ما يكفي من حقائق لم تترك لنا بعد اي لبس. وتوقعات الغد لن تخرج سوى من مقدمات اليوم. فغدُ من اختار وضع أيديه في أيدي هياكل المسخ والعفن والظلام، يأخذ ملامح سماته من اليوم.